العلاقة الودية مع القرآن

مكي قاسم البغدادي

* مدخل:

تواجه قارئ القرآن والمتدبر لآياته والمتصدي لتفسيرها نقطة هامة ينبغي ملاحظتها ابتداءً، وهي أن القرآن وحدة متماسكة لا تفهم أجزاؤه إلا من خلال الفهم العام لكلياته.

ومن هنا جاءت ضرورة التوجه – مع الشهيد السيد محمد باقر الصدر – نحو التفسير الموضوعي للقرآن، إضافة للتفسير التجزيئي له.

إن ظاهرة التماسك والترابط الموضوعي في القرآن تلفتنا إلى وحدة الأهداف في الآيات، كما تلفتنا ظاهرة الترابط العضوي في جسم الإنسان إلى وحدة الوظائف في الأعضاء؛ فكما لا يؤدي أي عضو وظيفته كاملة بمعزل عن بقية أعضاء الجسم، لا تؤدي الآية الواحدة كامل معناها بمعزل عن بقية الآيات؛ فآيات القرآن يكمل بعضها بعضاً ويفسر بعضها بعضاً، وتؤدي معاً المعنى السليم المقصود منها.

إن المعرفة التجزيئية القائمة على فهم آيات القرآن بمعزل عن الآيات الأخرى ذات الموضوع الواحد، تبقى معرفة ناقصة المدلول، هشة المباني، مبهمة المعاني، وإن الشخصية التي تبنى على هذه المعرفة جديرة أن تكون شخصية ضعيفة مهزوزة قلقة متناقضة.

 قال الرسول الأعظم (ص): (لا يقوم بدين الله إلا من أحاط به من جميع جوانبه)(1).

وكمثال على هذه الحقيقة نقدم قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة)(2).

المفهوم القرآني العام هو استحالة رؤية الله سبحانه بعين البصر، وإن كانت ممكنة بعين القلب، لكن بعض الناس وقعوا في شبهة خطيرة تستوجب الاعتقاد بجسمية الله تعالى، محتجين بقوله تعالى: (إلى ربها ناظرة) متوهمين أن النظر يستوجب الرؤية، وإذا كانت الوجوه ناظرة يوم القيامة إلى ربها فلا بد أنهم يقصدون رؤيته سبحانه غافلين عن تنزهه عن الجسمية، فجاء قوله تعالى في آية أخرى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار)(3) لينفي هذا الفهم ويعتبره وهماً من الأوهام، بل ضلالة من الضلالات نجمت عن اتباع ما تشابه من القرآن دون الرد إلى محكمه، فليس الله جسماً مادياً كالأجسام التي ترى بالعين، سبحانه ليس كمثله شيء.

وقد تنجم الشبهة كذلك عن الاعتماد على ظاهر النص القرآني مما يفوت على المسلم الفرص الكثيرة والفوائد العظيمة4؛ لذلك ينبغي لنا أن ندرك النص بجميع أبعاده الظاهرة والباطنة على حد سواء، فلو قرأنا قوله تعالى: (قتل الإنسان ما أكفره)(5). بلحاظ الظاهر فقط فسنفهم أنه دعاء على الإنسان، ومعناه – حسب هذا الظاهر – أهلكه الله وأباده فأنه لا يستحق الحياة لشدة كفره وعناده وتمرده، كما قد يفيد – حسب الظاهر كذلك – أن الإنسان خطاء بطبعه وشرير بذاته، لولا أن تأتيه تعاليم السماء فتهذبه. وربما يزيد التمسك بهذا الفهم ما ورد في الحديث الشريف (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، وهذا فعلاً ما تقوله التعاليم المسيحية، لكن نظرة القرآن إلى الإنسان تخالف هذا الفهم، فالإنسان من حيث هو إنسان، زود بملكات الشر والخير على حد سواء، كما هو واضح من الآية المحكمة (وهديناه النجدين إما شاكراً وإما كفوراً)(6) فالإنسان مفطور ومهدي إلى كلا النجدين – الخير والشر – ويوضح النبي (ص) ذلك بقوله: (فلا يكن نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير).

إن ظاهر هذه الآية ينفي ظاهر تلك، ويرد الشبهة التي تقول أن الإنسان مطبوع على الشر والفساد، ويؤكد أن الإنسان – كل إنسان – إنما يولد على الفطرة السليمة النقية، بل يولد على الإسلام والإيمان، لكنه مزود بنوازع الخير ونوازع الشر على السواء، ولديه كافة الاستعدادات للاستجابة للتأثيرات الخارجية عليه، وأهمها الأبوان (كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه..).

ولو عدنا إلى الآية السابقة مزودين بهذا الفهم الذي أوحته إلينا هذه الآية وتدبرنا معناها جيداً بهذا اللحاظ، لوجدنا أنها تومئ إلى أن الكفر يقتل الإنسان.. لا قتلاً مادياً وجسدياً، بل قتلاً روحياً ونفسياً، يقتل معنوياته وإنسانيته وكرامته، ثم يقتل فضائله وبصائره وهداه، ويلوث فطرته وعقيدته، وينجرف بها عن سواء الصراط؛ وبذلك يضيعه في الحياة ويقضي على سعادته في الدنيا والآخرة، فيعيش الضنك والقلق النفسي والفراغ الروحي، حتى ليظن أنه ليس للحياة معنى ولا غاية ولا قيمة.. وهكذا ينتهي إلى قتله روحياً وهو حي جسدياً.

وكما أن الكفر درجات، فكذلك القتل؛ فالكفر النسبي يؤدي إلى القتل النسبي، وكلما ازداد الكافر كفراً زاده الكفر قتلاً، وبمقدار ما يقتل روحياً فسوف يُعذَّب نفسياً، وبمقدار ما يُعذَّب فسوف يحاول أن يعذَّب، وهذا هو الظلم بعينه، قال تعالى: (والكافرون هم الظالمون)(7).

* نحن والقرآن:

القرآن أهم مصدر للشريعة الإسلامية، وهو الدستور الرباني الذي ينبغي أن نعيش الصراحة التامة معه، لأنه لا يتقبل إلا الإنسان الصريح، وينبغي أن نعيش الانفتاح التام على القرآن، لأنّ القرآن لا ينفتح أمام الإنسان المغلق، ينبغي أن نتكاشف مع علوم القرآن، لأننا بهذا التكاشف الصادق معه نصل إلى كنوزه العلمية، وتظهر لنا روائعه الكثيرة، التي لو بحثنا عنها وتوصلنا إليها ورضنا أنفسنا عليها وضحينا من أجلها، لكنا سادات الأرض والسماء.

فهل يقود القرآن مسيرة حياتنا أم هو مظلوم بيننا، مهجور فينا، مقصىً عن ركب الحياة الذي يسير بنا على غير هدى ولا كتاب منير؟!.

لقد حذرنا الإمام علي (ع) منذ أربعة عشر قرناً من أن نصل في تعاملنا مع القرآن إلى الحالة التي نحن عليها اليوم بقوله: (الله الله في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم)(8).

إنها وصية من خبير بالاهتمام العلمي بالقرآن بحيث لا يسبقنا غيرنا للاقتداء بهديه وكشف أسراره والعمل بعلومه، وكأنما هناك حالة تسابق بين جميع الملل والنحل للتعرف على علوم القرآن، والبحث عن جواهره وكنوزه وأسراره... والاغتناء بها.

فإذا تكاسل المسلمون، تقدم غيرهم بالعمل وكشف الحقائق على ضوء علوم القرآن، فصاروا هم السادة والقادة!

وهنا يحصل تساؤل:

(لقد قام القرآن بدور كبير قبل أربعة عشر قرناً من الزمن، فهل يستطيع أن يقوم بدور تغييري في هذا العصر أيضاً؟! أم أنه (القرآن) قد تغير وانتهى مفعوله؟!

والحقيقة:

إن القرآن لم يتغير، ولم يستنفد أغراضه؛ فهو لا يزال الكتاب الإلهي العظيم الذي هبط لإنقاذ البشرية من متاهات الحياة، وهو يستطيع أن يقوم بأكبر دور في البناء الحضاري المعاصر.. ولكن الذي قد تغير وانتكس هم المسلمون.

إن طريقة تعامل الأمة مع القرآن، وكيفية تلقيها لمفاهيمه وعلومه، وروآه.. تختلف اليوم بشكل جذري عما كانت عليه بالأمس.

لقد كان المسلمون الأولون يفهمون القرآن كتاب حياة، ومنهجاً للتطبيق والتنفيذ، وهو الذي يقود إلى كل خير، ويحقق العزة والقوة والسعادة لاتباعه.. أما المسلمون اليوم فهم يتعاملون مع القرآن بشكل معاكس تماماً، وهل يتحمل القرآن ذنوب أتباعه الجاهلين؟!) (9).

من خلال هذه المحطة التأملية المثيرة، دعونا نعيش الصراحة فيما بيننا، هل قصّر المسلمون الآن بالعمل على ضوء القرآن؟.

* هل أصاب المسلمين الانكسار والتخلف والانحطاط؟.

والجواب: نعم، وبكل جرأة وصراحة.. فقد قصّر المسلمون كثيراً تجاه القرآن من نواحي مختلفة؛ في تفسيره، والتحلي بآدابه، والتمسك بأحكامه، وكشف تكامل تشريعاته مقارنة بالتشريعات الوضعية المتعددة. وأيضاً شمل التقصير البحث الجدّي المتواصل في علومه المختلفة، وتأليف دراسات علمية متطورة مع تطور العصور تساعد الإنسان في تعلقه بكتاب الله العزيز، ومن ثم وصل التقصير إلى سلوك المسلمين العام، وأصاب أغلبهم الانحطاط والتخلف والتراجع.. بحيث أصبح المسلم يعيش الانكسار النفسي، والتخلف الخُلقي، والتراجع العلمي، وجميع أنواع الضعف في الحياة.

وقد وصف أحد علماء المسلمين، عندما سُئل بعد رحلته الواسعة في العالم، كيف رأيت بلاد المسلمين، وبلاد الملل الأخرى؟ قال: (رأيت في بلاد المسلمين، مسلمين بلا إسلام!! ورأيت في بلاد الملل الأخرى إسلاماً بلا مسلمين!!).

إنه تشخيص دقيق، يتكلم بصراحة تامة حول الواقع الإسلامي المعاش في العالم.

(ولعلَّ أهم الأسباب الداخلية لانحطاط المسلمين وتأخرهم في الوقت الحاضر، هو انصرافهم – بصورة مباشرة أو غير مباشرة – عن تدارس ما في القرآن من كنوز العلم والمعرفة، والتي ما زالت بكراً حتى الآن... وما نجده من دراسات للقرآن الكريم في أغلب المراكز العلمية المنتشرة في بلاد المسلمين لا تعدو أن تكون دراسات نظرية قد أفرغت من حيوتها وفاعليتها في المجتمع.

فقد يكون – البعض منها – لغرض أداء الامتحانات أو نيل درجة علمية في مرحلة دراسية معينة.. وهكذا.

كما أن تعبيرات الأمة عن الاعتزاز والاستفادة من القرآن الكريم، بلغت حداً يؤسف له، فقد يتخذ القرآن- رمزاً – للتحرز من الشرور والأخطار.. أو يتلى في بداية الحفلات والندوات ريثما يكتمل حضور المدعوين.. أو يتلى على قبور الموتى وفي مجالس الفاتحة، للبركة والغفران.. وهكذا)(10).

لقد عانت أمتنا الإسلامية – منذ أمد بعيد – من مشاكل كثيرة في تعاملها مع القرآن، ولا زالت رواسب تلك المشاكل موجودة حتى الآن. فلننظر ماذا كانت تلك المشاكل؟.

المشكلة الأولى: تحجيم التعامل مع القرآن!

يعني ذلك، أن الأمة أخذت تحصر الاستفادة من القرآن في مجالات ضيقة ومحدودة.

فالبعض اتخذ القرآن طريقاً للكسب، وباباً للارتزاق، والبعض الآخر اعتبره (صيدلية أدوية) فحسب، فإذا ضعف بصره أو وجعت أسنانه.. أو غير ذلك، هرول إلى القرآن، ليتلوا آيات معينة منه، حتى ترتفع بسببها هذه الأسقام.

وهناك مجموعة أخرى لا تفتح القرآن إلا عند الاستخارة، أو عندما يموت أحد الأقرباء..

المشكلة الثانية: التلاوة السطحية للقرآن!

إن أمتنا الإسلامية تقرأ القرآن، وتسمع تلاوته، ولكن كحروف بلا معان، وكلمات بلا مفهوم.. أو مفهوم بلا تأمل..

المشكلة الثالثة: الاهتمامات القشرية بالقرآن – إن صحّ التعبير –.

إن أمتنا الإسلامية قد أهملت البحث في علوم القرآن الأساسية والجوهرية، واندفعت تبحث عن قضايا هامشية بسيطة النفع؛ فراحوا يصرفون جهودهم وأوقاتهم على قضايا لا جدوى منها، كان الأحرى بهم أن يصرفوها في مجالات أكثر تأثيراً وفائدة. فهذا أحدهم يقضي آماداً طويلة من عمره لكي يجيب على الأسئلة التالية:

كم هي عدد كلمات القرآن؟ وكم هي حروفه؟ كم مرة تكرر حرف الألف فيه؟ كم مرة تكرر حرف الباء؟، كم مرة تكرر حرف التاء.. وهكذا إلى آخر حروف الهجاء. وفي هذا المجال أيضاً قمت بإحصاء (123) كتاباً حول القرآن، فوجدت أن (37) منها تتحدث حول قضايا شكلية مثلاً:

اختلاف القراءات، عدد آيات القرآن، الوقف والوصل، الجمع والتثنية، المقصور والممدود، طبقات القراء، نقط القرآن وغير ذلك.

المشكلة الرابعة: الفهم التجزيئي للقرآن.

يعني ذلك فهم القرآن بشكل تفكيكي، ينفصل بعضه عن البعض الآخر. وبعبارة أخرى: فهم كل آية قرآنية وكأنها عالم مستقل قائم بذاته، منفصل عن الآيات السابقة واللاحقة بها. وقد ترتب على ذلك نتائج خطيرة.

المشكلة الخامسة: الفهم المصلحي للقرآن.

يعني ذلك:

1- فهم آيات القرآن بشكل يكرس مصالح الفرد في الحياة، ويبرر أهواءه وشهواته..

2- الاقتصار على جانب معين من قيم القرآن، وإهمال سائر الجوانب الحيوية التي تتطلب من الإنسان الجهاد والاستشهاد في سبيل الله. مثلاً يفهم القرآن في جانبه الذي يتحدث عن العبادة فحسب، لأن العبادة – كالصلاة – هي عادة درج عليها، ولا تكلفه شيئاً، ولكنه لا يفهم القرآن في جوانبه السلوكية، والعملية، والحركية.. لأن ذلك يكلفه مصالحه، وأنانيته.

المشكلة السادسة: الفهم الجامد – الميت – للقرآن.

ويتم ذلك بفصل القرآن – بشكل كامل – عن الواقع المعاش، وربطه بقضايا غيبية ميتافيزيقية غريبة، أو ربطه بقصص تاريخية لا تؤثر في الواقع القائم شيئاً.

المشكلة السابعة: الفهم الترفي للقرآن – الفهم بديلاً عن العمل –

وهكذا.. لم يبق من الإسلام إلا اسمه، ومن القرآن إلا رسمه.. هذه هي أهم المشاكل التي عانت منها الأمة الإسلامية في تعاملها مع القرآن، وهذه المشاكل هي التي سببت سقوط أمتنا في الحضيض. وعلينا الآن أن ننفض عن أنفسنا غبار الماضي، ونبدأ في تعامل جديد مع القرآن، كما أراده الله جل جلاله منا، حتى يغير الله ما بنا من معاناة إلى أحسن حال، ويأخذ بأيدينا إلى القمة الحضارية. ونأمل أن يكون هذه البحث القرآني خطوة تمهيدية للتعرف على أهمية القرآن في حياة الناس أجمعين، مسلمين أو غير مسلمين(11).

* علاقتنا مع القرآن:

الرسول المصطفى محمد (ص): في سيرته المتكاملة المباركة، طالما سلط الأضواء على أهمية القرآن الكريم للبشرية في حالة الشدة وحالة الرخاء، وفي ظروف العسر وظروف اليسر.. وهكذا.

فعلينا أن نبحث الآن عن دور القرآن في ظروف العسر والشدة وأهميته الكبرى في تربية المسلمين وتعليمهم وإرشادهم وتوعيتهم وهدايتهم وتقدمهم... باعتبار أن المسلمين الآن يمرون بفترات المحنة والبلاء والتمحيص والاختبار...

والآن نأخذ نصاً من حديث رسول الله (ص) حول أهمية القرآن في وقت الشدة، ثم نحاول أن نتأمل فيه، ونحلل أبعاده، ونكون معه بعمقه.. لعلنا نهتدي بهدى القرآن، ونقتدي بسيرته وتوجيهه، فيقودنا إلى شاطئ الأمان، وينجينا من مضلات الفتن.

قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)(12).

روي عن الإمام علي (ع) قال: (خطب رسول الله (ص) فقال: لا خير في العيش إلا لمستمع واعٍ، أو عالم ناطق.. أيها الناس! إنكم في زمان هدنة، وإن السير بكم سريع، وقد رأيتم الليل والنهار يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود، فأعدَّوا الجهاد لبعد المضمار.

فقال المقداد: يا نبي الله ما الهدنة؟

قال: بلاء وانقطاع، فإذا التبست الأمور عليكم كقطع الليل المظلم، فعليكم (بالقرآن)، فإنه شافع مشفّع، وماحل مصدّق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه قاده إلى النار، وهو الدليل إلى خير سبيل، وهو الفصل ليس بالهزل، له ظهر وبطن، فظاهره حكم، وباطنه علم، عميق بحره، لا تحصى عجائبه، ولا يشبع منه علماؤه، وهو حبل الله المتين، وهو الصراط المستقيم... فيه مصابيح الهدى، ومنار الحكمة، ودالُّ على الحجة(13) (14).

لو نتأمل ونتفكر ونتدبر في هذا الحديث الشريف، المتواتر السند، الذي يكشف عن أهمية القرآن في حياة الإنسان الفرد، وحياة المجتمع المسلم، على السواء، في كل زمان ومكان، وفي وقت الشدة والرخاء، لوجدنا الحديث الشريف هنا يركز الأضواء على أهمية القرآن في ظروف الشدة، كما في قوله (ص): (فإذا التبست الأمور عليكم كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن..).

باعتبار أن وقت الشدة، وظروف المحنة تحصل فيهما حالات البلاء الشديدة والفتن العظيمة، والمصائب الكبيرة، التي تزلزل الإنسان، وتقضّ مضجعه، وتكشف معدنه، وتظهر واقعه، وتبين حقيقته بشكل واضح بلا لبس ولا غموض. وبذلك يتميز المؤمن من الفاسق، والمسلم من غير المسلم، والمؤمن القوي من المؤمن الضعيف، والمؤمن الحقيقي الثابت على الإيمان من المؤمن المدّعي بالإيمان والمتاجر به... وهكذا.

فإذا كان للقرآن كل هذا الأثر الكبير في وقت الشدة، فمعنى ذلك أنه يتضاعف أثره الكبير في وقت الرخاء، باعتبار أن القرآن يستطيع أن يفجر مكنونات محتوياته الكثيرة في وقت الرخاء أسهل وأفضل من تفجيرها في وقت الشدة، ويبين مخزونات علومه لطلبته الصادقين في تحصيل علومه ومعارفه المختلفة من أجل أن يتعلموها ثم يعلمونها.

و(خيركم من تعلّم القرآن وعلمه) كما يقول الرسول الكريم (ص)(15).

وفي الحديث الشريف المذكور أعلاه يوضح رسول الله (ص) دور القرآن بأنه (شافع مشفّع) أي إن القرآن له القدرة الكاملة على الشفاعة المقبولة، وكأنه كائن حيّ مقرّب عند الله سبحانه، صالح لأن يشفع، جامع لشروط الشفاعة المقبولة لديه، لا يقول إلاّ الحق، ولا يندفع عن هوى ومصلحة خاصة، ولا يشفع إلا فيما يرضى الله عز وجل، لأن الإنسان المؤمن الذي يتأهل للشفاعة، لا يتمكن من الشفاعة إلا بعد أن يأخذ الأذن من الله تعالى. وذلك لقوله تعالى: (يومئذٍ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً)(16).

بينما تكون شفاعة القرآن مقبولة ابتداءً، لأنه يشفع ضمن شروط موضوعية خاصة مقبولة عند الله تعالى، ولا يخرج عنها اطلاقاً.

وبهذه الصفة القرآنية المتكاملة (المميزة) يكون القرآن وكأنه كائن حي مقدس، عالم عامل متكامل، مستقيم السيرة، واضح الأهداف، محترم الرأي، عظيم المحتوى...

هذا القرآن العزيز علّمه الله سبحانه علم ما كان، وعلم ما سيكون، وعلم ما لم يكن إلى يوم القيامة؛ قال تعالى: (الرحمن علّم القرآن)(17).

(هذه النعمة الكبرى التي تتجلى فيها رحمة الرحمان بالإنسان..

القرآن: الترجمة الصادقة الكاملة لنواميس هذا الوجود، ومنهج السماء للأرض، الذي يصل أهلها بناموس الوجود، ويقيم عقيدتهم وتصوراتهم وموازينهم وقيمهم ونظمهم وأحوالهم على الأساس الثابت الذي يقوم عليه الوجود؛ فيمنحهم اليسر والطمأنينة والتفاهم والتجاوب مع الناموس. 

القرآن الذي يفتح حواسهم ومشاعرهم على هذا الكون الجميل، وكأنما يطالعهم أول مرة فيجدد إحساسهم بوجودهم الذاتي، كما يجدد إحساسهم بالكون من حولهم، ويزيد فيمنح كل شيء من حولهم حياة نابضة تتجاوب وتتعاطف مع البشر، فإذا هم بين أصدقاء ورفاق أحياء، حيثما ساروا أو أقاموا، طوال رحلتهم على هذا الكوكب.

القرآن الذي يقرّ في أخلادهم أنهم خلفاء في الأرض، وأنهم كرام على الله، وأنهم حملة الأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض والجبال، فيشعرهم بقيمتهم التي يستمدونها من تحقيق إنسانيتهم العليا، بوسيلتها الوحيدة (الإيمان) الذي يحيي في أرواحهم نفخة الله، ويحقق نعمته الكبرى على الإنسان)(18).

وبصفة الشفاعة القرآنية هذه يتميز الإنسان الشافع المشفّع، المقبولة شفاعته عند الله سبحانه، عن الإنسان الذي يشفع ولا يُشفّع، وعن الإنسان غير المؤهل للشفاعة إطلاقاً.

ويتميز القرآن عن جميع هؤلاء بأصنافهم الثلاثة، بأنه شافع مشفّع، مقبولة شفاعته، محترم قوله ومكانته وموقفه.. وأنه يؤذن له بالشفاعة بلا قيود ولا ضوابط، كما للإنسان الشفيع المؤمن الفاضل الذي تُقبل شفاعته بقيود وشروط وضوابط إلهية محكمة!.

وكما أن القرآن شافع مشفّع، فإنه – أيضاً – ماحل مصدّق، أي أنه يمحل بصاحبه، أي يسعى ويرقى به إلى الكمال الإنساني، ويشدّه بالله جل وجلاله، ويربطه بالعالم الآخر، ويكشف له عن حقيقة الحياة الدنيا ويظهر له سوآتها، ويبين له حقيقة الحياة الأخرى، ويوضّح له أهميتها وقيمتها، ويحصل ذلك فقط من خلال القراءة الواعية. حتى قال الإمام الصادق (ع): (يقال لصاحب القرآن اقرأ وارقَ)(19).

وقال رسول الله (ص): (يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق، ورتل كما كنت ترتل في دار الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرأها)(20).

أي من خلال هذا المحل المصدّق، والسعي المفضل للقرآن، والرقي بالإنسان نحو ذروة الكمال، وقمة السعادة، ومنتهى الهناء في الحياة، وبذلك يحصل على خيرات الدنيا والآخرة معاً.

والذي يعيش ذروة الكمال في الدنيا ببركة القرآن، فإنه سوف يعيشها في الآخرة. (والإنسان المناسب في المكان المناسب).

فيكون القرآن وكأنه القدوة والقيادة (المخلصة والكفوءة) للإنسان المخلص، يفوق تأثيره كل قدوة وقيادة حية مؤثرة (مخلصة وكفوءة) على وجه الأرض؛ لأن الإنسان المؤمن (القدوة والقيادة الحية المخلصة والكفوءة والمؤثرة) لا يتمكن من الحصول على هذه الامتيازات التكاملية إلا بالاقتداء بالقرآن جملة وتفصيلاً، فيتفاعل ويكّون مع القرآن علاقة ربانية معه، تشبه علاقة المحب الصادق بحبيبه المخلص.

قال الإمام الصادق (ع): (دليل الحبّ، إيثار المحبوب على من سواه)(21) فيكون الإنسان المؤمن (القدوة والقيادة الحية، المخلصة والكفوءة والمؤثرة) لجماعة أو أفراد أو أمة من الناس، في مجالات معينة، أي يكون ذا قيادة محدودة، بينما يكون القرآن (قدوة وقيادة دائمة، مخلصة وكفوءة في جميع مجالات الحياة، كل حياة، سواء كانت الحياة الدنيا أو الحياة الآخرة) وأيضاً لكافة الناس وخاصتهم، أي يكون القرآن ذا قيادة عامة شاملة؛ لذلك قال رسول الله (ص): (من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه قاده إلى النار).

لو نتأمل ونتدبر في المقطع الآخر من الحديث الشريف المذكور سابقاً في أول البحث، فماذا يعني أن يكون القرآن خلف الإنسان، وماذا يعني أن يكون القرآن أمامه؟.

يعني ذلك، إذا كان القرآن أمام الإنسان فإنه يكون حبيبه، ورفيقه، وصديقه، وقائده، وزعيمه، وموجهه، أي يكون مديراً لحركاته وسكناته، وإرادته وقدرته، وروحيته ومعنويته.. بل يديره كله بحكمة، في كل صغيرة وكبيرة، من داخل نفسه ومن خارجها؛ فإنه يدير علاقة الإنسان بنفسه، وعلاقته بأخوته، وأصدقائه، وأسرته، وزوجته، وأولاده.. إلخ ثم يدير علاقته بالمجتمع كله، ثم يدير علاقته بالحياة كلها بما تحمل من معنى دنيوي ومعنى أخروي؛ أي يكون القرآن الأمين العام، والقائد المطلق الذي يحرّك كل إنسان سواء كان مسلماً أو غير مسلم واعياً يريد أن يتقرب إليه، وينفتح عليه، ويتفهم منه، ويهتدي بهداه.

ويكون القرآن – معجزة الله على الأرض – قادراً على قيادة الإنسان أيضاً في كل زمان ومكان، وفي وقت الشدة والرخاء، وفي وقت الحرب والسلم، وفي حالة الضعف والقوة... أي يكون القرآن قائداً عاماً لكل إنسان صادق معه، في كل حالة هو فيها.

إذن، القرآن كائن حيّ متجدد في كل وقت، متطور مع كل عصر، متقدم في كل مكان، متلائم مع كل إنسان متفهم واقعي يطلب الحقيقة بصدق، ويتابع الدليل بعلم.

فيكون القرآن المدير العام للفرد المسلم، وليس مديراً متهاوناً ضعيفاً ساذجاً، وإنما مديراً حازماً جازماً غير متهاون، وغير متكاسل، فهو غير متسامح في المبدأ، ولكنه مرن في الأساليب التي يطرحها للتربية والتعليم العالي. قال تعالى: (يريد الله بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر)(22).

ويكون القرآن سخياً كريماً معطاءً مع المقبل عليه، والصادق معه، والمتدبر آياته، الباحث عن علومه.. ويكون أيضاً شديداً صارماً معرضاً بالعدل من أدبر عنه، حتى ولو كان المدبر عنه في الظاهر وكما تراه العيون مقبلاً عليه، ولكنه في الباطن مدبر عنه، جاهل فيه(23).

القرآن الكريم كنز السماء، وثقلها، ووديعتها، وأملها على الأرض، وأنه لا يفتح كنوزه وجواهره وعلومه المختلفة لكل قارئ له؛ لأن كتابة القرآن يستطيع أن يقرأها كل متعلم، سواء كان المتعلم ماركسياً أو رأسمالياً أو كافراً أو فاسقاً.. ويستطيع أن يقرأها كل المتعلمين المنحرفين عن صراط الله.

ولكن شتان بين من يقرأ القرآن ويرقى به، وبين من يقرأ القرآن وكأنه لم يقرأه، وبين من يقرأ القرآن، والقرآن يلعنه! قال رسول الله (ص): (اقرأ القرآن ما نهاك، فإن لم ينهك فلست تقرأه)(24).

وقال (ص): (رب تال للقرآن والقرآن يلعنه)!(25).

وقال (ص): (ليس القرآن بالتلاوة، ولا العلم بالرواية، ولكن القرآن بالهداية والعلم بالدراية)(26).

ولا يفتح القرآن – أيضاً – أبواب كنوزه وعلومه وجواهره للقارئ المسلم البسيط، الذي يطمع بالأجر والثواب فحسب، دون أن يكون له قصد أن يتدبر في آياته، ويتأمل في علومه.

فلماذا يغلق القرآن أبواب كنوزه، ولا يفتح علومه للقارئ البسيط الساذج؟!.

لأن القرآن لم ينزل من أجل أن يُقرأ للأجر ويتلى للثواب فحسب وإنما أُنزل ليكون منهجاً عاماً، ودستوراً شاملاً في حياة الإنسان المسلم خصوصاً، والإنسان الواعي في جميع الأديان والمذاهب والملل والنحل عموماً.

وأنزل القرآن – أيضاً – ليكون القدوة والقيادة للفرد والمجتمع المسلم، والقائد العام الذي يملك قلوبهم وعقولهم وأرواحهم، ويحدد مصيرهم، ويصوغ مستقبل حياتهم، وأيضاً هو الأمين العام الذي يوجههم إلى سعادة الدارين، سعادة الدنيا والآخرة.

لذلك فالذي يستذوق ويستأنس بقيادة القرآن له، تراه يبذل الغالي والنفيس من أجله. ومن طريقة القرآن الرئيسة في التربية والتعليم، ومنهجيته في التعامل العقائدي مع الناس، كل الناس، أنه لا يفتح كنوزه لبعض القراء، مهما كانت نواياهم واندفاعاتهم عند التلاوة، وإنما يفتح كنوزه، ويبين عن جواهره الثمينة والكثيرة للذي يفتح قلبه له، ويعطي من نفسه وراحته ووقته.. لهَ.

فالقرآن كتاب الله عز وجل، ويتعامل بسنة الله، ويتشبه بأخلاقه، ومن أخلاق الله تعالى أنه يضع عباده في منازلهم المناسبة لهم في الآخرة، بمقدار ما يجعلوا الله في قلوبهم؛ فإذا كان موقع الله في قلب الإنسان يحتل نسبة كاملة أي 100%، فسوف يحصل هذا الإنسان في الآخرة منزلة عالية متكاملة أيضاً ومعها فضل من الله ورحمة زيادةً على هذه المنزلة السامية.. وهذه هي منزلة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام.. وهكذا نقارن هذه الحالة إذا اختلفت هذه النسبة.

وسيرة القرآن مع قرائه – أيضاً – أنه ينتهج هذه الطريقة الإلهية العادلة؛ فإن القرآن يعطي من نفسه للقارئين له، بمقدار ما يعطي القارئون من أنفسهم له، وبهذا المنهج الرباني يتشبه القرآن (بأخلاق الله).

ومن خلال هذه المنهجية القرآنية الربانية العادلة لا يفتح القرآن كنوزه، ولا يعطي من نفسه للذي يطمع من وراء قراءته بالأجر والثواب، ويكتفي بذلك صلة بالقرآن، وتعلقاً به.

صحيح أن الأجر والثواب يأتيان من خلال القراءة والتلاوة، والقراءة الواعية هي مفتاح التدبر، وبداية المسير للوصول إلى مناجم كنوز القرآن، ولكن الأجر والثواب مسألتان هامشيتان بالنسبة إلى منهجية القرآن وأهدافه الربانية الكبرى؛ لأن الهدف الأول من نزول القرآن هداية الإنسان عموماً؛ فيكون مصدر هداية ورحمة، والهداية أهم شيء في الحياة، وأنه (القرآن) مصدر تشريع الأحكام الإسلامية العامة، بل هو أهم مصدر من مصادر التشريع الإسلامي الأربعة، والتي هي: القرآن، والسنة الشريفة، والعقل، والإجماع.

فكل من السنة الشريفة، والعقل السليم الواعي، والإجماع المبدئي المتكامل، كلها تعتمد على حكم القرآن، في حالة وقوع الخلاف؛ (فإن اختلفتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله)؛ فيكون القرآن هو المصدر الأساسي للتشريع الإسلامي.

ثم إن القرآن – بالإضافة إلى ما تقدم – مصدر بشرى واطمئنان للمؤمنين. وهذا ما يؤكده القرآن في قوله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء، وهدىً، ورحمة، وبشرى للمؤمنين)(27).

وقال الإمام الصادق (ع): (إن الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء، حتى والله ما ترك شيئاً يحتاج إليه العباد، حتى لا يستطيع عبد يقول لو كان هذا أنزل في القرآن إلا وقد أنزله الله فيه!)(28).

وقال الإمام الباقر (ع): (إن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأمة إلا أنزله في كتابه، وبينه لرسوله (ص)، وجعل لكل شيء حداً، وجعل عليه دليلاً يدل عليه، وجعل على من تعدى ذلك الحد، حداً)(29).

وإذا كان هدف الرسالة الإسلامية هو خلق الشخصية القرآنية الناطقة بالقرآن، فتكون عندئذ  مسألة الأجر والثواب جانباً تشجيعياً محفزاً على المواصلة والمزيد من العمل القرآني في حياة الإنسان المسلم غاية القرآن هي تحقيق أهدافه، ليس خدمة للقرآن نفسه فحسب وإنما خدمة للإنسان، وتكون مسألة الأجر والثواب جانباً ثانوياً هامشياً داعماً لإرادة الإنسان الذي يتعامل مع القرآن بالأجر والثواب فقط لعله يرتفع تدريجياً إلى البحث في علوم القرآن...

والذي يرضى أن يتعامل مع القرآن بصورة هامشية وسطحية، يكون معنى ذلك أنه يقبل أن يعيش بصورة هامشية وسطحية مع القرآن، والذي يقبل العيش مع القرآن في حدود الهامش والسطح، ثم يرضى بذلك، فإنه سيعيش قطعاً في مسيرة حياته كلها بصورة هامشية، وسطحية، والذي يقبل ويرضى أن يعيش على هامش الحياة وسطحها، فإنه يقبل ويرضى أيضاً أن يموت عليهما معاً، ويحشر عليهما، ويكافأ بالجزاء الأوفى في الآخرة من خلالهما!!.

وإن الذي يعيش لنفسه، قد يعيش مستريحاً ومريحاً، ولكنه يعيش صغيراً – قليل الاهتمام بالقضايا الكبيرة، وبسيط التفكير والطموح – ثم يموت صغيراً أيضاً؛ فالنهاية عادة تكون كالبداية، والختام كالمطلع.

أما الذي يعيش لغيره، فإنه يعيش لعقيدته – من خلال القرآن – التي هي أهم من حياته، وأفضل من نفسه، فإنه قد يعيش تعباناً مرهقاً.. لكثرة مسؤولياته، ولكنه يعيش مستأنساً وعظيماً ورمزاً، ثم يموت مطمئناً وعظيماً وفائزاً، وذلك هو الفوز العظيم، لذلك فعلى الإنسان الواعي عموماً – سواء كان مسلماً أو من أية ملة كان – ألاّ يكون هامشياً وسطحياً في تعامله مع القرآن، لأن القرآن قلب الحياة وحقيقتها وجوهرها.. فعلى الإنسان أن يعيش القرآن بقلبه وعقله ومحتواه، وبلسانه وجميع سلوكه، وفي مختلف ميادين الحياة.

ويستطيع القرآن – أيضاً – أن يدير حياة الفرد المسلم المؤمن الواعي العالم، وكذلك يستطيع أن يدير حياة المسلم المتعلم على سبيل النجاة، ويستطيع أيضاً أن يهدي الإنسان غير المسلم الواعي – من جميع الملل – إلى الإسلام، ولكنه يأنف من أن يدير حياة الهمج الرعاع من الناس، الذين ينعقون مع كل ناعق، ويميلون مع كل ريح، ويتبعون الهوى والمصلحة الشخصية، ولو على حساب وأذية الآخرين.. باحثين عن وسائل العيش الرغيد، وكفى بذلك عندهم مطلباً؛ لأن هؤلاء حمقى، والحمقى ليس لهم دواء!، ولأن هؤلاء – الهمج الرعاع – منغلقون مع القرآن، وقلوبهم مقفلة عنه؛ قال تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن، أم على قلوب أقفالها)(30).

ويتساءل في استنكار: (أفلا يتدبرون القرآن.

وتدبر القرآن يزيل غشاوة القلب ويسكب نور الإيمان فيه.. (أم على قلوب أقفالها فهي تحول بينها وبين معطيات القرآن وهدايته، وبينها وبين النور والمعرفة والتطلع إلى الحقائق الصادقة في الحياة؛ فإن استغلاق قلوبهم هو كاستغلاق الأقفال التي لا تسمح للهواء والنور بالنفوذ منها!(31).

إن القرآن – من منهجيته وأخلاقه – يفتح كنوزه وعلومه ومعارفه لكل إنسان، مهما كان معتقده، بشرط أن يتدبر آياته، ويتأمل في علومه وأحكامه وتشريعاته بأساليب علمية صادقة؛ فيهديه القرآن إلى سواء السبيل، ولكنه لا يفتح كنوزه للذين يتعاملون معه بظلم وهزو، وبسذاجة وجهالة، وطمع وجشع، وهامشية وسطحية.. كما أنه لا يفتح خزائنه وجواهره للمقتاتين عليه، والمتعيشين بقراءته!.

فهو ينفتح ويعطي ويكرم ويعلّم ويرشد ويوعظ القلب الذي يقبل عليه، وينفتح له، مهما كان اعتقاد هذا القلب وإيمانه.

القرآن يفتح عن محتوياته ومخزوناته، بمجرد شعوره أن الإنسان القارئ له طالب صادق، باحث مخلص، يبحث بوسائل علمية ومنطقية ليصل إلى الحقيقة العقائدية المثلى في الحياة.

القرآن يفرز بين هذا وذاك، ويتعامل مع هذا غير تعامله مع ذاك؛ فيهدي هذا ولا يهدي ذاك الذي يتعامل معه بسذاجة وجهالة. وهذا معنى قولنا سابقاً أن القرآن حازم، جازم، صارم.. مع الذي يتعامل معه.


الهوامش:

(1) كنز العمال – الحديث رقم 5612.

(2) القيامة: 22 – 23.

(3) الأنعام: 103.

(4) انظر الحديث (القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق).

(5) عبس: 17.

(6) البلد: 10.

(7) البقرة: 254.

(8) نهج البلاغة: كتاب 47.

(9) كيف نفهم القرآن؟ محمد رضا الحسيني ص5-6.

(10) موجز علوم القرآن، بشيء من التصرف، ص7-8.

(11) كيف نفهم القرآن؟ بشيء من التصرف ص6-12.

(12) الأنفال: 24.

(13) كنز العمال خ4027 – راجع بحار الأنوار ج29 ص17 ج77 ص134 -  135.

(14) وهناك أحاديث كثيرة تبين أهمية القرآن في حياة الإنسان نذكر منها: (قال رسول الله (ص): أتاني جبرائيل فقال: يا محمد سيكون في أمتك فتنة، قلت: فما المخرج منها؟ فقال: كتاب الله، فيه بيان ما قبلكم من خبر، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم..) تفسير العياشي ج1 ص3.

وقال الإمام علي (ع): (..فالقرآن آمر زاجر، وصامت ناطق، حجة الله على خلقه، أخذ عليه ميثاقهم، وارتهن عليهم أنفسهم..) نهج البلاغة خطبة 183.

وقال (ع): (اعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، زيادة في هدى، أو نقصان من عمي) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد ج10 ص18.

(15) بحار الأنوار ج92 ص186 – وذكره كنز العمال خ – 235.

(16) سورة طه: الآية 109.

(17) سورة الرحمن: 1-2.

(18) في ظلال القرآن ج7 ص672.

(19) بحار الأنوار ج92 ص188.

(20) كنز العمال ح- 2330.

(21) بحار الأنوار ج70 ص22.

(22) البقرة: 185.

(23) والى هذا المعنى يشير قوله تعالى: (وإذْ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب، لتبيّننّه للناس ولا تكتمونه، فنبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمناً قليلاً، فبئس ما يشترون) (آل عمران: 187)

وروي عن الإمام الجواد (ع): (وكلّ أمة قد رفع الله عنهم علم الكتاب حين نبذوه، وولاهم عدوّهم حين تولّوه، وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه، وحرّفوا حدوده، فهم يروونه ولا يرعونه..) فروع الكافي ج8 ص53.

(24) كنز العمال خ2776.

(25) بحار الأنوار ج92 ص184.

(26) كنز العمال خ2462.

(27) النحل: 89.

(28) تفسير نور الثقلين ج3 ص74.

(29) المصدر السابق ج3 ص74.

(30) سورة محمد: 24.

(31) في ظلال القرآن ج7، ص464- 465، مع التصرف.