الصيام.. ضبط الغريزة

 

(الطعام عطاء إلهي.. وضرورة حياتية.. وقد فُرض الصوم عبادة روحية خالصة، فما هو أذن جوهر فلسفة الصيام لضبط غريزة الطعام؟).

غريزة الطعام من أقوى غرائز الإنسان، ومن أشدها تأثيراً في حياته، وهي غريزة تحف بها آلام الجوع والحرمان، ولذة أطايب الطعام... فالأولى تدفع بها، والثانية تحدوها لتنطلق جامحة إلى الأمام، وإذا عرفنا هذه الحقيقة أدركنا مكمن الخطر فيها... فهي ضرورية لبقاء الحياة واستمرارها، ولكنها – في الوقت ذاته – معرضة للانطلاق العنيف، وكيف لا تنطلق – إذا تركت بغير ضابط – وفي طبيعتها كل هذا الدفع؟.

وهي حين تنطلق، فإنها (أولاً) تعرض الأبدان لعلل موجعة، وللوهن السريع قبل الأوان فالشخص النهم والشره للطعام لا يشبع – كما يبدو لأول وهلة – بل أنه ليصيبه النهم والسآمة والملل، فلا يقنع ولا يهنأ له بال. وفوق ذلك فإن الانطلاق مع هذه الغريزة يستنفذ – أولاً فأولا – الطاقة الروحية للإنسان، ففي البداية يكون طلب المعدة للطعام، عملاً إرادياً، يقع تحت سيطرة الإنسان... فهو يأكل حيث يريد ويمكنه الكف عندما يريد.. ولكن شيئاً فشيئاً، ومع إدمان طلب الطعام، ومع التكرار والدوام تضعف السيطرة، ويذوي دور الإرادة، وتغدو الغريزة مالكة لقياد الإنسان، وتوجهه إلى حيث تشاء.

وهنا لا بد للإنسان من الصيام كثيراً، والصيام طويلاً، فهذا وحده هو الذي يعيد إلى الإرادة الإنسانية رصيدها المفقود، وتلك حقيقة علمية يعرفها رجال التربية وعلماء النفس، حتى وجدنا الباحث الألماني الشهير (جبهاردت) يضع سفراً في تقوية الإرادة، فيتخذ من الصيام أساساً عملياً لهذه التقوية، ومتى قويت الإرادة وسيطرت، فحينئذ يشاهد الإنسان ذا النفس المتكاملة، التي بوسعها الانطلاق الكامل في كل اتجاه نافع بقوة وتمكن وإصرار، وفي الوقت نفسه تستطيع خلع نفسها بقوة من كل لذة أو شهوة عاجلة حين تقرر وتريد.

ومن هنا، كان الصيام – بحق – أروع منهج تربوي ونفسي في محاربة الخضوع لأوامر غريزة الطعام، وفي تحرير إرادة الإنسان.