لمحة عن التفكير الاقتصادي عند الشهيد حسن الشيرازي

عبد الرزاق الحاتمي

مقدمة

في عام 1379هـ - 1960م، نشر الشهيد حسن الشيرازي كتابه المعنون (الاقتصاد) وبعد عشرين عاماً، أي في 1400هـ أو 1980م، أعيد طبعه.

بمناسبة تغير النظام السياسي في العراق، الذي اغتال السيد الشهيد، وتطلع شعب هذا الوطن الإسلامي إلى قيام نظام بديل وكفيل بإسعاده، وتثميناً لدور الشهيد في الدفاع عن مصالح هذا الشعب، ولتعريف هؤلاء الناس وغيرهم من المسلمين المتطلعين إلى نظام اقتصادي عادل على الفكر الاقتصادي الإسلامي تأتي هذه المقالة.

لقد شهد العراق الحزين منذ بداية عقد خمسينيات القرن الميلادي الماضي صراعاً بين الأفكار اليسارية والرأسمالية، حيث تبنت ودعمت بعض التنظيمات السياسية العراقية ذات التوجهات الليبرالية الفكر الرأسمالي، فيما تبنت ودعمت التنظيمات السياسية العراقية اليسارية الفكر الماركسي. وقد تفاقم هذا الصراع منذ أواخر عقد الخمسينيات.

إن أسباب استفحال هذا الصراع في تلك الفترة عديدة، لكن أبرزها هي:-

- أندفاع بعض الأحزاب القومية العربية نحو الأفكار الاشتراكية.

- ظهور توجهات لادماج أحزاب وطنية ليبرالية مع أحزاب اشتراكية.

- وصول إحدى القوى اليسارية العراقية إلى مراكز القوة والنفوذ في العراق بعد سقوط النظام الملكي في تموز يوليو 1958م.

- دعم الدول الليبرالية المتقدمة للأحزاب والتجمعات السياسية العراقية المعادية أو المنافسة لليسار العراقي، وقد جاء الدعم في إطار الحرب الباردة التي كانت قائمة بين معسكري الشرق والغرب، ومحاولة من المعسكر الغربي لإضعاف خصمه – عن طريق زيادته لعدد حلفاءه ومد ثقافته إلى مساحات جغرافية واسعة.

- انتشار الأفكار السياسية اليسارية واليمينية العلمانية بين مختلف أبناء بلد الرافدين، سواء أكانوا مقيمين في الأرياف أو المدن، بسبب ضعف العمل السياسي الإسلامي، وانتشار الأمية السياسية أو ضعف الوعي السياسي، ومحاولة الشرائح الاجتماعية المضطهدة الخلاص من أوضاعها المأساوية عبر الاشتراك مع الأحزاب الراديكالية العلمانية للثورة على العلاقات الاجتماعية السائدة في البلاد.

- استعارة بعض الساسة العراقيين اليساريين للخطاب الإسلامي ورموزه لترويج الأفكار الاشتراكية، تحت عنوان (اشتراكية محمد – ص -) و(اشتراكية الإسلام) وغيرهما من العناوين والمسميات والموضوعات.

- دعم الاتحاد السوفيتي للعناصر الشيوعية العراقية الموالية له، لنشر أيديولوجيته في العراق أولاً وتوسيع مساحة انتشارها في العالم ثانياً وتقليص النفوذ العالمي للأفكار الرأسمالية في العالم.

إن اجتياح مبادئ العقيدتين الاشتراكية والرأسمالية لأرض العراق في ذلك الوقت قد عُدَّ غزواً ثقافياً لهذا الوطن وتحدياً لعقيدة الإسلام، الذي هو دين أكثرية سكانه.

لقد سحرت الأفكار الوافدة إلى العراق عقول بعض أبناءه المسلمين، أما بسبب ضعف تمسكهم بعقيدتهم الدينية أو جهلهم بها أو قلة وعيهم السياسي أو لانبهارهم بمصطلحات الأفكار الوافدة أو لغير ذلك من الأسباب.

إن هذا الهجوم الفكري على بلد من بلدان المسلمين أو على حوزتهم ورموزهم قد أوجب على أبناءه العقائديين مواجهته للدفاع عن دينهم وأتباعه عملاً بفريضة الجهاد أولاً وفريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثانياً.

عملاً بهذا الواجب ألف السيد الشهيد كتابه المعنون بـ(الاقتصاد)، ليرد على الأفكار الرأسمالية والماركسية ويفندهما ويؤكد عجزهما عن إصلاح أوضاع العراق وليثبت بأن الإسلام هو العقيدة الوحيدة الصالحة للتطبيق في هذا الوطن والقادرة على إنقاذ أهله من الفقر والبطالة وغيرها من مشاكل البؤس التي ابتلوا بها منذ أن انسحب الإسلام من التطبيق بصورة كاملة.

من الصفحة 33 حتى الصفحة 42 أستعرض كتاب (الاقتصاد) للسيد الشهيد فلسفة الرأسمالية ثم عرض من الصفحات 43 حتى الصفحة 102 مساوئ هذه العقيدة – التي ظهرت من خلال تطبيقها في الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا الغربية منذ ما زاد على القرنين من السنين.

من الصفحة 105 حتى الصفحة 135 بيّن هذا الكتاب الفلسفة الشيوعية، التي ابتدعها ماركس بمعاونة انجلترا، ثم بين من الصفحة 139 حتى الصفحة 167 أخطاءها وأخطارها.

من الصفحة 171 حتى الصفحة 191 استعرض الكتاب الفلسفة الاشتراكية المتبنات من قبل الاتحاد السوفيتي ومساوئ وأضرار تطبيقها على أرض الواقع.

من الصفحة 195 حتى الصفحة 237 أستعرض الكتاب تناقض نتائج تطبيق الفكر الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي خاصة مع الأسس الفلسفية للاشتراكية السوفيتية.

في الصفحات 241 – 243 أستعرض الكتاب بإيجاز شديد التطبيق الاشتراكي المشوه في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية.

من الصفحة 247 إلى الصفحة 297 أستعرض الكتاب جوانب من الاقتصاد الإسلامي.

من خلال هذا العرض الموجز للكتاب نكتشف استراتيجيته، المتمثلة بعرض الفلسفات المعاصرة المعادية للإسلام وما يشوبها من أخطاء وتناقضات وما جلبته تطبيقاتها في بعض البلدان من مآسي وأحزان إلى شعوب هذه الدول. وبهذه الطريقة أثبت عدم صلاحية تلك الفلسفات للعراق وأي بلد إسلامي أو غير إسلامي، في السطور التالية ستتم الإشارة إلى أبرز نقائص الأفكار العقائدية غير الإسلامية وبعض ملامح الاقتصاد الإسلامي.

في بداية كتاب الاقتصاد للسيد الشهيد حسن الشيرازي ثم عرض أفكار الرأسمالية بصورة موجزة، وهي:-

1- الملكية الفردية حق مقدس مهما بلغت أو ثمنت بالنقود، ولذلك لا يجوز الاعتداء عليها بالتأميم أو بعرقلة حريتها في العمل.

2- للفرد الدور الأساسي في الحياة الاقتصادية.

3- للدولة دور ثانوي أو تكميلي في الحياة الاقتصادية.

4- ليس للدولة الحق في تخطيط النشاط الاقتصادي، ويلاحظ بأن هذا المبدأ قد تجاوزته نظرية كينز، التي سادت في الغرب حتى أواخر عقد تسعينيات القرن العشرين الميلادي المنصرم، ولكن النظرية النقدوية، التي بدأت مدرسة شيكاغو للاقتصاد بالدعوة إليها منذ منتصف عقد سبعينيات القرن الميلادي العشرين، دعت إلى العودة إليه.

5- خضوع الأسعار، بما فيها سعر خدمة قوة العمل، للعرض والطلب.

أما ملاحظات السيد الشهيد على هذا النظام الاقتصادي السياسي، فمنها:-

أ) أنه يساعد على تكوين الطبقات، لذا يقسم المجتمع إلى طبقة فقيرة وأخرى غنية، وتتمتع الطبقة الغنية بأمتيازات اجتماعية تخل باستقرار الدولة.

ب) إلغاءه لدور التعاليم الدينية في تحديد العلاقات الاجتماعية عامة، بما فيها العلاقات الاقتصادية.

ج) إطلاق حرية العمل، الإنتاجي والتجاري، يساعد على توجيه قدر من عناصر الإنتاج المتاحة – أي رأس المال في أعمال ربوية وإفساح المجال لنوادي القمار وبيوت الدعارة بالعمل بحرية.

ء) تبني رأس المال فكرة التوسع الاستعماري، من أجل الوصول إلى أسواق التصريف ومصادر المواد الخام.

هـ) إمكانية تعرض العمال للبطالة أو لتدني الأجور، بسبب اعتماد قانون العرض والطلب في تحديد الأجور أو بسبب دخول التكنولوجيا الحديثة إلى ميدان الإنتاج أو غير ذلك من أسباب.

ح) تعذر استثمار بعض الموارد الاقتصادية المتاحة والضرورية لأمن البلاد الاقتصادية أو العسكرية أو السياسية.

ط) ضعف مستوى الأجور، بسبب منافسة الآلة للأيدي العاملة أو دورات الإنتاج أو أعتماد المنافسين لسياسة الإغراق الاقتصادي أو أسباب أخرى.

ك) شيوع الفاحشة، واضطرار النساء إلى ممارسة البغاء العلني أو المستور بسبب الفقر والبطالة وقلة الأجور وسيطرة رأس المال على قوة العمل.

ل) فسح المجال أمام النشاط غير الأخلاقي، كنشر الكتب والأفلام والصور الجنسية واختلاق الصحافة للقصص والأخبار التي تزيد الطلب عليها وفتح بيوت الدعارة ونوادي القمار والملاهي والحانات والمسابح المختلطة ونوادي العراة وتحليل اللواط.

م) هدر الثروات، كإفناء بعض الإنتاج للحفاظ على أسعاره مرتفعة.

ن) إهمال العجزة.

ش) إمكانية التلاعب بأسعار السلع والخدمات بطرق غير محللة أخلاقياً ودينياً، لحجب الإنتاج عن السوق لبعض الوقت من أجل تقليل العرض ورفع السعر.

أما الفكر الماركسي فقد أستعرض السيد الشهيد أبرز ملامحه، وهي:-

1- إقامة سلطة ديكتاتورية البروليتاريا في المرحلة الأولى منه، أي الطور الاشتراكي.

2- مصادرة أو تأميم رأس المال الخاص أو القضاء على الملكية الخاصة.

3- إلغاء نظام العائلة.

4- إلغاء الأديان وأية أفكار سياسية وأخلاقية واقتصادية سائدة في ظل الأنظمة ما قبل الشيوعية.

5- إخضاع الأسواق لسيطرة الدولة في الطور الأول من الشيوعية (العهد الاشتراكي) حيث تحدد العرض والأسعار والأجور.

6- إلغاء النقود والأسعار والدولة في الطور الثاني من الشيوعية.

أما أبرز ملاحظات السيد الشهيد على هذه العقيدة فهي:-

1- إنها عقيدة مثالية (خيالية)، لأنه لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع.

2- فشلت بعض تجارب تطبيقها كما أن لينين قد حرّفها بعض الشيء، تحت ستار محاولة تطويرها، لعجزه عن تطبيقها ومثاليتها.

3- محاربتها لغرائز الإنسان.

4- اختراعها لفكرة مراحل التاريخ الخمسة، رجماً بالغيب.

5- دكتاتورية البروليتاريا لا يمكنها قيادة دولة.

6- نقض الدكتاتورية لحقوق الإنسان الأساسية، وخاصة حرية التفكير والتملك واعتناق الأديان.

7- اتهام رأس المال بالفساد المطلق، بينما رأس المال غير المقيد بالتعاليم الدينية والأخلاقية هو الفاسد.

8- عدائها للأخلاق والأديان.

9- إيمانها في طورها الأول بالطبقية وافتعالها العداء أو الصراع مع رأس المال.

10- اعتمادها العنف والإرهاب كوسيلة لإثبات وجودها وأدامته إلى زمن طويل قادم، إلى موعد تطبيق الطور الثاني من الشيوعية.

أما ابرز مساوئ الاشتراكية الروسية، التي امنت بأفكار ماركس وانجلز ولينين، فهي:-

- لجوءها إلى العنف أو القسوة الشديدة في تطبيقاتها.

- مصادرتها للحريات.

- سيطرتها على رأس المال.

- تبنيها فكرة العمل الأجباري، أعمال السخرة.

- فشلها في رفع مستوى الإجراء إلى المستوى الذي بلغه إجراء الدول الرأسمالية.

- فشل الاقتصاد الروسي أو السوفيتي في مجاراة اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية.

- افقارها لأكثرية الشعب.

أما الاقتصاد الإسلامي فقد أشار السيد الشهيد إلى أبرز مزاياه وأفضليته على الأنظمة الاقتصادية الأخرى.

من جملة الأمور التي أشار إليها السيد الشهيد هي حق الملكية الخاصة وكيفية حمايتها وتنميتها وما فرض الشارع المقدس عليها من التزامات.

لقد أقر الإسلام للفرد بحق تملك الأموال، سواء أكانت نقدية أو سلعية وسواء استخدمت لأغراض الإنتاج أو الاستهلاك، وهذا ما يؤكد بأن الإسلام قد أجاز للفرد إقامة المشروعات أو امتلاك وسائل الإنتاج، وذلك ما لا تجيزه الشيوعية.

وبالرغم من تمتع الفرد في ظل الإسلام بحق تملك سلع الاستهلاك والإنتاج إلا أنه لم يمنع هذا الحق بصورة مطلقة، أي أن الملكية الفردية في ظل الإسلام هي ملكية مقيدة وليست مطلقة كما هو الحال في النظام الرأسمالي.

إن هذه الحقيقة قد ميزت الإسلام بكونه ذو مبادئ وسطية، لا إسراف فيها ولا حرمان.

ولكي يحمي دين الإسلام ملكية الأفراد من أي عدوان فقد شرع عقوبات شديدة ضد من يعتدي عليها بالسرقة أو الاغتصاب أو بالاتلاف أو بأي صورة من صور العدوان.

إن إقرار الإسلام للفرد بحق التملك الشخصي للأموال قد راعى ميول الإنسان الفطرية أو غريزته في حب التملك، كما اعتبر ذلك الحق وسيلة لتنمية دخل الفرد والأمة أو وسيلة لتخطي حاجز الفقر وتوديع الأمراض الناجمة عن الحرمان والعوز، كما أنه يشجع الإنسان على العمل، ويخلص البلاد من مشكلتي البطالة الحقيقية والمقنّعة.

ولكي يكون استثمار الأفراد لأموالهم الخاصة حلالاً، أو ليكون أمتلاك رأس المال واستهلاكه وتشغيله وتنميته حلالاً وبعيداً عن المحرمات والشبهات، فقد أوضحت شريعة الإسلام بعض الشروط الخاصة باكتساب المال وإنفاقه في أي من مجال الاستهلاك أو الإنتاج.

فقد حرم الإسلام كسب المال عن طريق أعمال الربا والسحر والدعارة والقمار والغش والسرقة والرشوة والاحتكار والامتيازات، وشجع الكسب الشريف، وحرّم الترف.

فضلاً عن إلزام الإسلام لاتباعه بقواعد كسب المال وإنفاقه فقد حماهم أيضاً، كمستهلكين، من الاستغلال، عن طريق نظام الحسبة – الذي يعتبر تطبيقاً لفريضتي الأمر المعروف والنهي عن المنكر.

بالإضافة إلى حماية الإسلام لملكية القادر على العمل أو كسب المال، فقد شرّع القوانين التي تمكن ضعفاء المجتمع، كالأيتام والعجزة، من أمتلاك المال، وذلك عن طريق إلزام القادر على كسب المال بأداء الصدقات – كالزكاة والخمس والايفاء بالنذور وحثهم على تقديم الهدايا (الهبات).

وتشجيعاً من رب العالمين للمسلمين على تنمية أموالهم، باعتبارها وسيلة لتحسين أحوالهم المعاشية وتخليصهم من الفقر وتقويتهم عسكرياً والدفاع عن وطنهم وأموالهم وعقيدتهم، فقد شرّع عدة قوانين تخص الأمور التالية وتنعكس بالإيجاب على التنمية:-

- ضمان حق التملك الفردي.

- تقديس العمل الشريف، كالصيد واستخراج المعادن والركائز وإحياء الموات والتجارة والعمل بأجر.

- تحريم العمل غير الشريف أو غير الإنتاجي، كالربا والغش والقمار والدعارة والاحتكار.

- إلزام الأغنياء بأعالة غير القادرين على العمل.

- الجهاد بالمال في سبيل الله جل وعلا.

- منع الإسراف أو التبذير.

- تحريم عمل السخرة.

- تحريم البخس، أي محاولة شراء السلع والخدمات باسعار قليلة جداً ولا توفر ربحاً معقولاً للبائع.

- تحبيب الربح المعقول.

- تحريم اضطهاد العمال.

- حث صاحب العمل على منح العاملين لديه أجوراً مجزية متناسبة مع قدراتهم الجسمية والعقلية وإنجازاتهم العملية.

- تحريم مصادرة الحريات العامة.

- تحريم استغلال الإنسان للإنسان.

- إلزام المسلم بحب الخير لأخيه المسلم، وإلا فإن أداءه لكل الفرائض من صوم وصلاة وحج وزكاة وغيرها – لن ينفعه – لقول الرسول (ص) لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.

إن التزام المجتمع في العراق أو أي بلد مسلم أخر بقوانين الإسلام سيؤدي إلى تطويره وتخليصه من التخلف وعثرات الماضي، لقوله تعالى: (ولو أن أهل القرى أمنوا وأتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) (الاعراف: 96) وقوله: (ولو أن أهل الكتاب أمنوا واتقوا لكفرّنا عنهم سيئاتهم ولادخلناهم جنات النعيم. ولو أنهم أقاموا التوراة والأنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) (المائدة: 65 – 66).