شبكة النبأ: عندما طرح المرجع الراحل
السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- فكرة إزالة الحدود بين البلاد
الاسلامية، ضمن عدة خطوات اساس لإعادة الأمة الى مكانتها الحضارية، فان
اول ملاحظة وقفت أمام هذه هذه الفكرة، القول بعدم واقعيتها لاسباب
أرجعها البعض الى التقسيمات النهائية التي فرضتها الدول الكبرى على
بلادنا، وتداخل هذه التقسيمات الحدودية مع المصالح السياسية
والاقتصادية لكل بلد من البلاد الموجودة، والتي تم استحداث البعض منها
خلال عقد السبعينات من القرن الماضي. ولكن المرجع الراحل أصرّ في عديد
مؤلفاته وأحاديثه، أن الخطوة الاولى في طريق استعادة الامة قوتها
وكرامتها، في إزالة الحدود المصطنعة فيما بين البلاد الاسلامية.
مستشهداً في ذلك بالدول الاوربية التي يتنقل فيها المواطنون من هذه
الدول بحرية كاملة دون الحاجة الى تصاريح واجراءات روتينية معقدة كما
موجود عندنا.
تحول هذا المطلب الى أمل كبير في نفس المرجع الراحل، اكثر من
الخطوات الاخرى، مثل إلغاء الجنسية والاكتفاء الذاتي الكامل عن الدول
الكبرى وغيرها، كون هذه القضية لها علاقة وثيقة بالحرية وفرص التقدم
والتطور والابداع لدى ابناء الامة، مما يصعب السكوت عنه. وكاد هذا
الأمل يتحول عند البعض الى حلم جميل، حتى جاءت زيارة أربعين الامام
الحسين، عليه السلام، هذا العام، وهي تحمل معها حزمة من التفاعلات
الاجتماعية والسياسية والامنية في المنطقة، والتي حولتها الى ساحة
مواجهة واحدة، بعد ظهور تحدٍ ارهابي – تكفيري ماحق تحت مسمّى "داعش".
فكان الرد والجواب من الزائرين من غير الايرانيين، المزيد من الاصرار
على دخول الاراضي العراقية والانضمام الى مسيرة الزائرين سيراً على
الاقدام. وحسب آخر الاحصائيات ليوم السبت الماضي، أي قبل اسبوع كامل من
يوم الزيارة (العشرين من صفر)، فان عدد الداخلين الى الاراضي العراقية
من جهة ايران، حوالي (800) ألف زائر ايراني، وللقارئ الكريم، تصور
العدد الاجمالي الذي سيصل مع حلول يوم الزيارة... علماً أن الحكومة
العراقية، بادرت هذه السنة الى خطوة جديدة الى الامام، بإلغاء سمات
الدخول من السفارات العراقية، والاكتفاء بتأشيرة دخول في المطار مع
مبلغ زهيد، مما فتح الابواب على مصراعيها لدخول مئات الآلاف من
الايرانيين واللبنانيين والخليجيين، بل حتى من جنسيات اخرى من شتى
انحاء العالم.
إن منظر الحشود البشرية على النقاط الحدودية بين العراق و ايران،
وايضاً في المطارات العراقية التي تستقبل الآلاف من الزائرين من كل
مكان، تذكرنا بالانتقادات اللاذعة التي تعرّض لها المرجع الشيرازي
الراحل على فكرته هذا خلال العقود الماضية، وأنها غير عملية وبعيدة عن
الواقع، متناسين او متجاهلين الابعاد الحضارية وما يعود على الامة من
فوائد جمّة في التواصل وتبادل الافكار والرؤى والتجارب، كخطوة على طريق
النهوض والإصلاح، حتى باتت الامة اليوم على سكّة التبعية الكاملة
للغرب، ليس فقط في المجال العلمي والتقني، إنما حتى في المجال الثقافي،
حيث اصبحت العادات والسلوكيات الجيدة بنظر بعضهم، واسلوب الحياة
الناجحة، مصدرها الغرب، وليس أي مكان آخر.
نعم؛ في الغرب تسود ثقافة اجتماعية وأنظمة سياسية تفيد شعوبها، لكن
لنلاحظ كيف إن هذا الغرب استوعب التنوع الثقافي والاجتماعي لدى شعوب
اوربا الشرقية، بعد ان انهيار ما كان يسمى بـ "المعسكر الشرقي" وعموم
المنظومة الفكرية والعسكرية والامنية في اوربا الشرقية ومن خلفها،
"الاتحاد السوفيتي"، وفتح "اوربا الغربية" ابوابها على هذه الشعوب،
لتكون ضمن منظومة "الاتحاد الاوربي". ولا ننسى الفارق الكبير والتفاوت
العميق بين اقتصاديات الدول المبنية على المنهج الاشتراكي – الماركسي،
وبين الاقتصاديات الرأسمالية، حيث الملكية الفردية واقتصاد السوق وغير
ذلك، مما كلّف "اوربا الغربية" في بداية الاندماج اوائل التسعينات،
الكثير، الكثير، بيد أن الغاية القصوى هي التي تحققت، واصبح هنالك سوق
اوربية موحدة يستفيد منها اصحاب رؤوس الاموال، كما يستفيد منها المواطن
الاوربي أينما كان، فضلاً عن سهولة التنقل والاستفادة من الخبرات
والتجارب.
وبلادنا غير فقيرة من الخبرات والتجارب في مجالات عدّة، فما المانع
من خوض هذه التجربة قبل طرق ابواب الغرب بحجة الحصول السهل والسريع
لأحدث التقنيات وما توصل اليه العلم الحديث في الغرب؟
إن ظهور أول مصداق على فكرة المرجع الشيرازي الراحل، في مناسبة
دينية – شعائرية تتعلق بالإمام الحسين، عليه السلام، لن تأتي صدفة
بالمرة. فالشعائر الحسينية في نظر المرجع الراحل لها أبعادها العميقة
في الحضارة والانسانية، وإن طغت مظاهر العزاء والحشود البشرية الزاحفة،
والتسابق المثير للدهشة على خدمة هذه الحشود، بل وعموم الشعائر
الحسينية التي يؤديها الموالون والمحبون، إنما هي في نظر المرجع
الراحل، مقدمة لتحقيق الهدف الأسمى وهو الارتقاء بالواقع الاجتماعي
والثقافي، وتبعاً لذلك إقامة النظام السياسي المأمول الذي يقوم على
منظومة فكرية أصيلة وكيان اجتماعي متماسك. مثالاً على ذلك، في كتابه
"الاستفادة من عاشوراء"، يوصي سماحته باستثمار حشود الزائرين الى مرقد
الامام الحسين، عليه السلام، لمعالجة ثغرتين طالما شكت منهما الامة،
وهي الثغرة الاجتماعية متمثلة بالفقر، والثغرة الثقافية متمثلة في قلّة
العمل المؤسسي والمنظم للنشاط الثقافي، فيوصي بتشكيل صناديق تبرعات ضمن
برنامج ممنهج للإسهام في حل مشكلة الفقر، بل حتى فكّر في استثمار أموال
التبرعات في مشاريع تدر اموالاً بشكل مستمر، وليس الاقتصار على التوزيع
التقليدي للمساعدات المالية. كما يوصي سماحته بتشكيل المؤسسات الثقافية
مع الأخذ بنظر الاعتبار مبدأ "الكم والكيف" وهو يستشهد بالمؤسسة
الكنسية التي تحتل العالم بمئات المؤسسات الثقافية. هذه المؤسسات تأخذ
على عاتقها إنارة الفكر وصياغة الثقافة والمعرفة بما يحكم العلاقة بين
الزائرين من كل انحاء العالم، وبين الاسلام كدين ومنظومة حياة كاملة.
فاذا تحققت الفائدة من انحناءة اسوار الحدود خلال الزيارة
الاربعينية، فانها يمكن ان تتكرر في الزيارات المليونية الاخرى، وهي
الزيارة الشعبانية وزيارة عرفة، وكلما تحققت المصداقية في موسم للزيارة
الحاشدة، كلما تقدمنا في البعد الحضاري مع جميع اشهر و ايام السنة،
لأننا نعرف أن زيارة الامام الحسين، عليه السلام، هي واحد وخمسين مرة
في العام، أي كل ليلة جمعة، وهذه الزيارات من شأنها ان تكون قاسم
مشترك، ونقطة التقاء بين الفائدة العبادية، وبين الفائدة الحضارية،
عندما تتحلحل اسوار الحدود بين الدول المتمحورة حول النهضة الحسينية،
ليرى الزائرون من هذه الدول، ومن جميع دول العالم، حقيقة العلاقة بين
هذه النهضة، وبين مسيرة التقدم الحضاري التي يتحدث عنها المفكرون
والباحثون دون جدوى. |