لأحد ينكر أن كتابة التأريخ من منطلق رسالي يحدد معالم الدين
كجزء من مهمة الانبياء والمرسلين والمصلحين، مرتبطة معالمه وآثاره
المستقبلية بالتدبير الالهي وجعل المقادير تسير وفق شريعة السماء
ومنهجية الخالق المدبر لكل الأمور حتى تتحقق الرسالة التي بعث من
أجلها جميع الانبياء الى خاتمهم الحبيب المصطفى صلى الله عليه
وآله. والأمثلة كثيرة في القرآن الكريم مثلا نقرا في قوله تبارك
وتعالى {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ
إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ
هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}.
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا
خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا
تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ}
هناك دلالات عظيمة في مضمون الأحداث لايدركها الا من ترسخت في
ذهنيته ثقافة الحق والوعد الالهي نستخلصها من خلال سيرة نبيين من
أولي العزم هما كليم الله موسى وحبيب الله محمد عليهما أفضل الصلاة
والسلام. ففي هجرة النبي المصطفى كان فؤاده الشريف مشدودا الى مكة
مسقط رأسه الشريف ولكي يخفف الله عن حبيبه البشير حالة الحزن في
قلبه على هجرته المباركة الى يثرب نزلت الآية القرآنية المباركة أن
من أنزل عليك الرسالة لتخرج الناس من الظلمات الى النور باذن الله
هو القادر أيضا والمتكفل لك والضامن لك عودتك فاتحا عزيزا الى مكة
بعد أن تتهيأ الأسباب لذلك الفتح العظيم.
وفي قصة موسى عليه السلام وكيف أصبح فؤاد أمه فارغا وربط الله
على قلبها أن الله الذي حفظ لك موسى في رحمك من كيد فرعون وجنوده
سيعيده اليك لتقر به عينك بعد ان تتحقق الإرادة الالهية العظيمة في
موقف عظيم يصوره لنا القرآن الكريم {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ
لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ
وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ، وَقَالَتِ امْرَأَتُ
فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ
يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ،
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي
بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ}. هذا فيما يرتبط بسيرة الانبياء والمرسلين من حيث
الوقائع التأريخية، وفي سيرة المصلحين من الأئمة الهداة الذين
كانوا نموذجا طيبا للشجرة الطيبة المباركة شجرة النبي الهادي
البشير وفرعها الأمام الامير وسبطيه الشهيدين نتوقف عند قضية الوعد
الالهي لمن نذر جسده وروحه الطاهرة فداءا للدين الحنيف.
هنا الرواية المنقولة عن الامام زين العابدين المتحدث عما جرى
له من حوار مع عمته العقيلة زينب عليها السلام فيه من المضمون ما
أشرت اليه آنفا، يقول الامام زين العابدين:
إنّه لمّا أصابنا بالطفّ ما أصابنا، وقتل أبي عليه السلام،
وقتل من كان معه من ولده وإخوته وساير أهله، وحملت حرمه ونساؤه على
الأقتاب يراد بنا الكوفة، فجعلت أنظر إليهم صرعى، ولم يواروا،
فيعظم ذلك في صدري، ويشتدّ لمّا أرى منهم قلقي فكادت نفسي تخرج،
وتبيّنت ذلك منّي عمّتي زينب بنت عليّ الكبرى، فقالت: مالي أراك
تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي؟ فقلت: وكيف لا أجزع ولا
أهلع، وقد أرى سيّدي وإخوتي وعمومتي وولد عمّي وأهلي مصرّعين
بدمائهم مرمّلين بالعراء، مسلّبين لا يكفّنون ولا يوارون، ولا يعرج
عليهم أحد، ولا يقربهم بشر، كأنّهم أهل بيت من الديلم والخزر
(فأخذت تسكّنه وتسلّيه) فقالت: لا يجزعنّك ما ترى، فوالله إنّ ذلك
لعهد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جدّك وأبيك وعمّك،
ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمّة لا تعرفهم فراعنة هذه
الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات أنّهم يجمعون هذه الأعضاء
المتفرّقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرّجة وينصبون لهذا الطفّ
علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء عليه السلام لا يدرس أثره، ولا يعفو
رسمه، على كرور اللّيالي والأيّام، وليجتهدنّ أئمّة الكفر وأشياع
الضلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلّا ظهورا وأمره إلّا
علوّاً. هذا المعنى من كلام الامام زين العابدين نفسه حفظه التاريخ
لنا ومن مجلس يزيد بن معاوية حين خطبت العقيلة زينب عليها السلام
قائلة:
فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فو الله لا تمحو ذكرنا، ولا
تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك الا فند وأيامك الا عدد،
وجمعك إلا بدد، يوم ينادى المنادي ألا لعنة الله على الظالمين. من
هنا ندرك عظمة الله الباري المقدر العظيم في ملكوته وسلطانه وحكمته
من خلال مواقف الثلة الطيبة من البشر الذين رفعوا شأنهم بمواقفهم
عرفانا منهم بالوحدانية والتسليم لصنع الله وقدره حين أراد للإنسان
أن تكون له مواقف خاصة في زمن خاص ولم يكن لها في يوم عاشوراء الا
الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم اجمعين.
لهذا الموقف وبهذه المكانة والخلود الحسيني الذي أذهل الناس
بحبهم له كأن الله تبارك وتعالى يعظم الحسين في عالم الدنيا وفي
مناسبات مخصوصة للحسين الشهيد من خلال احياء ذكر الحسين مهما
تعاظمت المحن والخطوب. لكننا مع هذا النزف والهيام في ذكر الحسين
الشهيد انما نحتاج الى حالة تفاعلية بين العقل والعاطفة بين
الثقافة والموروث بين التجديد والاصالة في ماورثناه. ورثنا حب
الحسين واحياء عاشوراء الشهادة انما مع هذا الاحياء كم سيتألق فينا
الامام الشهيد حين نعطي للعقل مساحة في التأمل لواقعنا المؤلم حيث
التمزق والشتات والنفاق الاجتماعي وهدر الطاقات والثروات ولم يكن
من الحسين يوم عاشوراء الا أنه أراد للأمة حفظ كرامتها ووحدة
مصيرها بصحوة الضمير واتخاذ القرار الحازم حين يخير الانسان نفسه
بين رضا الله حيث النعيم الأبدي وبين سخط الرحمن حيث الجحيم
الأبدي، هذا ماعبر عنه الحر بن يزيد الرياحي عندما دنا من الامام
الحسين يوم عاشوراء قائلا بعد أن سألوه ماهذا الموقف الجديد منك
فقال انما أخير نفسي بين الجنة والنار.
ان حديث التاريخ وموقع الحسين الشهيد منه تترجمه الايام مهما
بدرت او بدت هنا وهناك من مواقف المنع والتنكيل لأن للحسين دوي
المستقبل كما هي نبوة الخاتم ليظهره على الدين كله ولو كره
المشركون وكذلك دولة الحق والعدل الالهي ينجز الله وعده أن دم
الحسين الشهيد لم يهدر على أرض كربلاء الاٌ وللكوفة موعد مع الامام
الحجة عجل الله ظهوره الشريف لتقام عندها الدولة العالمية وتتحقق
رسالة الانبياء والمرسلين. فسلام عليك سيدي أبا الأحرار، أيها
الحبيب تقبل مني كلمتي هذه من صفحات التاريخ وأنا أكتبها بمداد
الولاء لك عارفا بحقك وقدرك ولاجعله الله آخر العهد مني بالكتابة
عنكم أهل بيت النبوة وموضع الرسالة. السلام على الحسين وعلى أولاد
الحسين وأصحابه واهل بيته المنتجبين والمستشهدين بين يديه ورحمة
الله وبركاته. |