بين رسالة الحقوق للامام علي بن الحسين السجاد (ع) والإعلان
العالمي لحقوق الانسان اكثر من (١٢) قرنا من الزمن، الاولى، تحوي
لوحدها فقط على (٥١) بنداً او مادة اما الثاني فيحوي على (٣٠) مادة
فقط، ولعل من ابرز ما يميّز الرسالة عن الاعلان هو ان الاولى تتحدث
عن حقوق الانسان على نفسه الى جانب حقوقه على الاخر، اما الاعلان
العالمي فيتحدث فقط عن حقوقه على الاخر فحسب، ولعل في هذه المفارقة
معنىً عظيماً لم يلتفت اليه كثيرون، الا وهو ان الانسان انما يبدأ
اولا بظلم نفسه قبل ظلم الآخرين، ولذلك ينبغي ان يقف عند حدوده
وحقوقه على نفسه قبل ان يتمكن من ان يقف عند حدوده مع الآخرين.
وهذا يعني ان الامام عليه السلام عالج أساس الظلم والتعدي
والتجاوز الذي تتعرض له حقوق الانسان في كل زمان ومكان، اما
الاعلان العالمي فيعالج الظلم والتعدّي بصورة فوقيّة لا تنسجم
وصبغة الله التي فطر الناس عليها، وكأنه يطالب المجتمع البشري
بالتزام حدوده وعدم التعدي على حقوق الآخرين باستعلاء، ولهذا
السبب، ربما، نجد ان الذين دوّنوا وكتبوا وصوّتوا وأقرّوا الاعلان
هم من اكثر الناس الذين يتجاوزون على حقوق الانسان بل انهم من اكثر
من يعرضّها للسّحق المنظم، خاصة النظم العربية الفاسدة التي تتبجح
بكونها من الموقعين على الاعلان، الا ان حقوق الانسان في ظلِّ
سلطتهم الغاشمة تتعرض الى كوارث جمة، ولعلّ في سياسات المجتمع
الدولي الاقتصادية والأمنية والعسكرية والتعليمية بل وحتى الثقافية
خير دليل على ذلك.
اما صاحب رسالة الحقوق، الامام السجاد (ع) فهو اوّل من جسّد
بنود رسالته كمشروع حقيقي حي يمشي على الارض، لانّ رسالته حدّدت
معالم حقوق الانسان على نفسه اولا قبل حقوقه على غيره، فإذا نجح في
الالتزام بها كان جديراً بالالتزام بحقوق الآخرين، والعكس هو
الصحيح فالذي يفشل في احترام حقوقه على نفسه كيف ننتظر منه ان
يلتزم او يحترم حقوق الآخرين؟.
انه نهج اطلق معالمه امير المؤمنين (ع) في كل مرّة تحدّث فيها
عن حقوق الانسان، ولذلك لم يأخذ عليه حتى ألدّ أعداءه، الطليق ابن
الطليق الطاغية معاوية لعنه الله مثلا، انه تعرّض يوماً الى حق من
حقوق اي انسان، موالٍ له او معارضٍ او حتى عدوٍ له.
ارى ان من واجبنا ان نعرض رسالة الحقوق على العالم، نصاً
وتعليماً وشرحاً وتدريساً وكل شيء، فلماذا نظلّ نتعامل معها كنص
(ديني) مثلا او كنص (شيعي) يعود الى امام من أئمة أهل البيت (ع)
فحسب؟ اوليس مدرسة أهل البيت (ع) للنّاس كافة؟ فلماذا نحبس مثل هذا
النصّ العظيم في اروقة مكاتبنا ومكتباتنا ومؤسساتنا؟ لماذا لا نبدأ
حملة علمية وتعليمية الهدف منها لفت انتباه العالم الى هذا النص
العظيم الذي وُلد في بيئة اجتماعية هي الاسوء، ربما، في تاريخ
البشرية اذ انها نتاج ما شهدته البشرية من جريمة عظيمة بحق الدين
والإنسان يوم عاشوراء باستشهاد سِبْط رسول الله (ص) وبتلك الطريقة
المفجعة؟ وكفى بذلك فخراً.
ليكن مهرجان (تراتيل سجّادية) الذي بدأ أعماله اليوم في مدينة
كربلاء المقدسة برعاية العتبة الحسينية المقدسة، ليكن انطلاقة
واعدة لتنفيذ مشروع عالمي يهدف الى التعريف برسالة الحقوق، والذي
سيفتح الافاق على مصراعيها امام البشرية للاطلاع والتعرّف على
منظومة الحقوق التي دوّنها أئمة أهل البيت (ع) وعلى رأسهم الامام
امير المؤمنين (ع) والتي وردت الكثير منها في عهده العظيم الى مالك
الأشتر عندما ولاه مصر.
فلقد رسم الامام في منظومته الحقوقية معالم حقوق الانسان على
مختلف الاصعدة، لخصها بقوله {فَالْحَقُّ أَوْسَعُ الاْشْيَاءِ فِي
التَّوَاصُفِ، وَأَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ، لاَيَجْرِي لاِحَد
إِلاَّ جَرَى عَلَيْهِ، وَلاَ يَجْرِي عَلَيْهِ إِلاَّ جَرَى لَهُ،
وَلَوْ كَانَ لاِحَد أَنْ يَجْرِيَ لَهُ وَلاَ يَجْرِيَ عَلَيْهِ،
لَكَانَ ذلِكَ خَالِصاً لله سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ،
لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَلِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ
عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ}.
ليكن المهرجان انطلاقة بهذا الاتجاه، فالبشريّة تعاني اليوم من
هضم شامل لحقوق الانسان، وان مثل هذه الانطلاقة ستساهم في مساعدة
البشرية على إيجاد ثقافة عالمية تعنى بالحقوق وترسم معالم مشروع
حل، يبدأ من الذات لينطلق للاخر، وذلك من خلال:
الف: طباعة ونشر رسالة الحقوق بملايين النسخ لتصل الى كل انسان
على وجه البسيطة، وبمختلف اللّغات الحيّة وغير الحيّة، للمساهمة في
خلق ثقافة حقوقية شعبية عامة وليست رسمية فقط.
باء؛ بذل كل الجهود اللازمة لاعتماد الرسالة كنص معتبر في
المؤسسات التعليمية العالمية، في أوربا والولايات المتحدة
الأميركية واليابان والصين وغيرها من دول العالم.
جيم؛ اعتمادها كنص تعليمي في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا،
وكذلك في المؤسسات التعليمية في اكبر عدد ممكن من البلاد العربية
والإسلامية.
داء؛ البدء بحملة عالمية للتعريف بالرسالة في إطار بحوث علمية
مقارنة، وكذلك محاضرات صوتية وتصويرية مسجلة، لينتبه العالم الى
مدى أهميتها واسبقيتها في تاريخ البشرية.
هاء؛ تشجيع طلبة الدراسات العليا لاختيار الرسالة كمشروع بحث
من مختلف جوانبها.
ان ما يؤسف له حقاً هو ان نرى انشغال الكثير من طلبتنا
وأبناءنا في البحث في قضايا تافهة لنيل الشهادات العليا، فيما لا
يعيرون النصوص المهمة اي اهتمام.
ان تبني العالم لرسالة الحقوق سيساهم بشكل كبير وفعال في:
اولا؛ حماية البشرية، وبالتالي حمايتنا من اي عدوان على
الحقوق.
ثانياً: حماية الاسلام وسمعته من التشويه بسبب ما نشره الفكر
التكفيري الإقصائي وكذلك جرائم الارهابيين الذين يحزّون رقاب
ضحاياهم باسم الدين والدين منهم برآء.
يجب ان يعرف العالم ان هؤلاء لا يمثلون الدين في شيء، فالاسلام
الذي بعثه الله تعالى رحمةً للعالمين لا يحق ولا يجوز لهم ان
يقرؤوه من خلال الفكر التكفيري أبداً، وإنما من خلال رسالة الحقوق
وما شابهها، والتي رسمت معالم مدرسة حقوقية عالمية لو أخذت بها
البشرية لما وصلت اليه الامور الى ما وصلت اليه اليوم، ولما تعرّض
حقُ أحدٍ للانتهاك والسحق، لا بسبب السياسات العالمية الظالمة ولا
بسبب سياسات الأنظمة الجاهلية الفاسدة التي تتحكم بمصير البشرية،
والتي يقف على رأسها نظام القبيلة الفاسد الحاكم في الجزيرة
العربية والذي أسس بنيانه على الثنائي المرعب (الدم والهدم).
nhaidar@hotmail.com
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة
النبأ المعلوماتية |