من أبرز معطيات واقعة الطف الدامية، حيث قتل آخر ابن بنت نبي
على وجه الأرض، ومعه أهله وأصحابه، أن مأساتها الإستثنائية – حينها
- جمعت صفوف الشيعة، وأثارت في نفوسهم الحماسة للأخذ بثأر الإمام
السبط، كما أذكت مأساة كربلاء روح التشيع في عموم أبنائه ليمتزج
بدمائهم كعقيدة راسخة في نفوسهم وفاعلة في حركتهم.
يتحدث التاريخ عن بني أمية، إنهم كانوا يبثون العيون بين صفوف
الشيعة، وقد اضطهدوا الشيعة اضطهاداً شنيعاً، ولاحقوهم لانتهاك
حرماتهم وقتلهم، ويقطعون أيديهم وأرجلهم على الظنة، وكل من عرف
بتشيعه لأهل البيت (عليهم السلام) سجنوه أو نهبوا ماله أو هدموا
داره، وقد اشتد بهم الأمر في أيام عبيد الله بن زياد.
إن القمع الهمجي المنظم ضد الشيعة كان يصدر من سلطة رسمية عليا
تهدف إلى استئصال آل البيت(ع) وشيعتهم والقضاء عليهم قضاءٍ مبرماً.
يكتب المدائني: كتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق: "ألا
يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة"، كما كتب أيضاً: "انظروا
إلى من قامت عليه البينة أنه يحب علياً وأهل بيته، فأمحوه من
الديوان، واسقطوا عطاءه ورزقه".
يقول الإمام الباقر (عليه السلام): "وقُتِلَتْ شيعتنا بكل بلدة،
وقُطعت الأيدي والأرجل على الظنة، وكل من يذكر بحبنا والإنقطاع
إلينا سجن أو نهب ماله، أو هدمت داره، ثم لم يزل البلاء يشتد
ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين عليه السلام".
ودعا معاوية بسر بن أرطأة، وكان قاسي القلب، فظاً سفاكاً
للدماء، لا رأفة عنده ولا رحمة، فأمره أن يأخذ طريق الحجاز ومكة،
حتى ينتهي إلى اليمن، وقال له: "لا تنزل على بلد على طاعة عليّ،
إلا بسطت عليهم لسانك، حتى يروا أنهم لا نجاة لهم، وأنك محيط بهم،
ثم اكفف عنهم، وادعهم إلى البيعة لي! فمن أبى فاقتله، واقتل شيعة
علي حيث كانوا".
وعندما هلك معاوية وتبوأ يزيد السلطة، كتب إلى عامله على
العراق، عبيد الله بن زياد، يرسم له الخط العام للنهج الذي يجب
عليه أن يسلكه: "بلغني أن حسيناً قد قصد من مكة متوجهاً إلى
العراق، فاترك العيون عليه، وضع الأرصاد على الطرق، واحبس على
الظنة، واقتل على التهمة".
وحدث سفيان بن عوف الغامدي قال: دعاني معاوية بن أبي سفيان
فقال: "إني باعثك في جيش ذي أداة وجلادة، فالزم لي جانب الفرات حتى
تمر بـ(هيت) فتقطعها، فإن وجدت بها جندا فأغِر عليهم، وإلا فامض
حتى تغير على (الأنبار)، فإن لم تجد بها جنداً، فامض حتى توغل
(المدائن)، واعلم: أنك إن أغرت على الأنبار وأهل المدائن، فكأنك
أغرت على (الكوفة)، إنّ هذه الغارات يا سفيان على أهل العرق ترعب
قلوبهم، وتفرح كل من له فينا هوى منهم، وتدعو إلينا كل من خاف
الدوائر، فاقتل من لقيته ممن ليس هو على مثل رأيك، واخرب كل ما
مررت به من القرى، وصرب الأموال شبيه بالقتل، وهو أوجع للقلب".
إزاء ضرورة مواجهة الواقع المأساوي الذي كرسه الأمويون، ومن أجل
بناء مستقبل واعد وزاهر، تفجرت نهضة كربلاء، لتكون مقدمة ثورات
وانتفاضات تفجرت لإسقاط الدموية الأموية، فلم تكن ثورة كربلاء
انتحاراً، بل كانت حركة إحياء وتحفيز واستنهاض وتجديد، يقول الإمام
السيد محمد الحسيني الشيرازي(قده): "لقد زلزل الإمام الحسين (عليه
السلام) باستشهاده عرش يزيد الأثيم، فما أن قتل الإمام، حتى اضطربت
أطراف البلاد، وأخذت الثورات تتوالى لإنهاء حكم أمية، ولم تمتد
دولة بني أمية، إلا بمقدار عمر إنسان واحد أو أقل حيث زالت عن
الوجود، بانتفاضة عامة المسلمين ضدها بعد سلسلة من الانتفاضات،
والأعظم من ذلك كله أن الإمام ألفت الأنظار ـ باستشهاده ـ إلى
انحراف دولة بني أمية عن الإسلام، وأسّس (عليه السلام) للأجيال
الآتية خير مرقب لترصد الانحرافات، لا فقط التي تقع في إطار
الإسلام، بل حتى الانحرافات التي تقع في الإطار الإنساني العام!
كما أن نهضة الإمام كانت درساً لمن يريد الحياة الإسلامية
للمسلمين، بل لمن يريد حياة البشر، كيف ينهض للإصلاح؟ وكيف يضحي
للحياة".
وعلى هذا الأساس، وحيث يتواصل القتل بالشيعة اليوم، وبأساليب
وحشية وفتاكة، فإن "عاشوراء"، بما تمتلكه من خزين قيمي عظيم وعواطف
إنسانية نبيلة، ينبغي أن تشكل "الشعائر الحسينية" قوة محفزة للشيعة
باتجاه رص صفوفهم، وإصلاح ذات بينهم، ونظم أمورهم، وتوطيد تعاونهم
على البر والتقوى، والعمل الجاد على الإرتقاء بواقعهم الإيماني
والثقافي والسياسي والأمني والاجتماعي والاقتصادي والعمراني
والحياتي، لاسيما أن كربلاء تفيض على من ينتمي إليها قوة وعزيمة
وصلابة، وتغذيه من أسباب البقاء والنهوض والارتقاء.
* أجوبة المسائل الشرعية العدد (206)
http://alshirazi.com/rflo/ajowbeh/ajowbeh.htm |