لا أُريدُ أَنْ أَخوضَ في مَبحَثِ، إِثباتِ صِحَةِ اقامَةِ
الشَّعائِرِ، الّتي تُحيي ذِكرَى الرَّسولِ(ص)، وأَهلِ بيّْتِهِ
المَعصُومينَ(ع). لأَنَّ مِثلَ هذا المَوضُوعِ، قَدّْ نَاقشَهُ
العُلمَاءُ المُختَصّون، وفي مجالاتٍ كثيرة. فَصِحَةُ الاحتِفَالِ
بهذهِ المُناسَباتِ، أَمرٌ مَفْروغٌ مِن حِلِّيَتِهِ وصِحَتهِ،
بشَرطِ أَنْ لا يَدخلَ فِيها، فِعلٌ مَنصوصٌ بحُرمَتِهِ أَو
كراهِيَّتِه. وإِحياءُ هذهِ المُناسَباتِ، تُعتَبَرُ مِن شَعَائرِ
الإِسلامِ، لأَنَّ هذهِ الشَخصيّاتُ، بها قامَ عَمودُ الدِّينِ،
وبها وَجَدَ الإِسلامُ طَريقَهُ، في الوجُود. فلولا رَسُولُ اللهِ
(ص)، لَمَا عَرِفْنَا الإِسلامَ، ولولا الإِمامُ عليّ (ع)، لَمَا
انتَصَرَ الإِسلام. ولولا الحُسَيّْنُ (ع)، لَمْ نعرفْ مَفهومَ
الدِّفاعِ عَن حُقوقِ المُجتمَعِ، والكِفَاحِ مِن أَجلِ نَيّلِ
حُريَّةِ الإِنسانِ، في التَّعبيرِ عَن رَأْيه. لا بَلّْ حتّى لَمْ
يَعرفْ المُسلِمونَ، وغَيْرِ المُسلِمينَ أَيضاً، كَيّْفَ
يُحرِرُونَ أَنفُسَهُم، مِن عُقدَةِ الخَوّْفِ الذّاتيّ، الّتي
تَسكُنُ داخِلَ النُفًوسِ، مِن جَبروتِ الطُغاةِ والظَلَمَة.
وإِذا كانَتْ الحُريَّةُ الذاتيَّةُ، تَحمِلُ الدَّافِعَ
والمُحرِّكَ، الّذي يُخَلِّصُ كيانَ الإِنسانِ النَّفسيّ، مِن
رُعبِ السُلطانِ الجَائِرِ، لأَخذِ حَقِّ المُجتَمَعِ مِنه،
فَإِنَّ فِي ذلك، إِقامَةً لجوهَرِ الإِسلام. فمَنْ يَأْبَى
الضَيّمَ، ويُناضِلُ مِن أَجْلِ تَحقيقِ العَدلِ، والمُساواةِ
والحُريَّةِ، بَيّْنَ أَبناءِ المُجتمَع، بِمختَلَفِ مُكونَاتِهم
وأَعراقِهم، فإِنَّهُ يُطبِّقُ عَمليّاً، تَحقِيقُ مَبادِئ
الإِسلامِ، ويُجسِدُهَا كنموذَجٍ حَيٍّ على أَرضِ الوَاقع.
وكلُّ أُمَّةٍ لا تُقَدِّسُ مَورُوثَها الآيديُولُوجيّ، ولا
تَحتَرِمُ رُموزَها، الّذين ضَحّوا مِن أَجلِ قَضيَّتِها، فإِنَّ
التّاريخَ يَنسَاها، وتَحتَقِرُها أَجيَالُها وحتّى شُعُوبَ
العَالَمِ أَيضاً. مِن هذا المُنطَلَقِ، تَقِفُ قَضيَّةُ عاشُوراء،
بكُلِّ تَجليَاتِها التَّضحَويَّةِ شاخِصَةً، في ذاكرَةِ الأَجيالِ
المُحِبَةِ لمدرَسَةِ أَهلِ البَيّْتِ(ع). إِنَّ هذه المدرَسَةُ،
تُقَدِّمُ قِيَمَها ومبَادِئَها للآخرين، حتّى يأخُذوا دورَهُم
الرائدِ في الهدايَةِ، لرَسمِ مَعَالِمِ حَضارَةٍ إِنسانيَّةٍ،
تَرتكزُ قِيَمُها، على التَّسامُحِ والتَّعَاونِ والمحبَّةِ
والتَّآخِي مَعَ الآخَر. وبذلكَ تُتَرجِمُ عَمليّاً، قَوّْلَ
الإِمامِ الصَّادقِ(ع)، وهو يُوجِهُ أَحدَ أَصحابِهِ، مُعلِّماً
إِياهُ مبادئَ تلكَ المَدرسَةِ الرائدَةِ، في صِناعَةِ سُلوكِ
الإِنسان:
(أَما علمتَ أَنَّ إِمارةَ بني أُميَّة، كانت بالسَيّْفِ
والعُسّفِ والجَوّر. وإِنَّ إِمامَتَنَا بالرفْقِ والتأَلُفِ
(التآلف) والوَقارِ والتَقيَّةِ (الحيطة من الوقوع في المحارم)،
وحُسنِ الخَلطةِ (الاختلاط بالآخرين)، والورَعِ
والاجتهَاد...)(وسائل الشيعة ج/ 16 ص/ 165/ الحديث 21248)(انتهى).
إِنَّ لِمُحبّي مدرَسَةِ أَهلِ البَيّْتِ (ع)، دَورَهُم
التَّاريخيّ الرائِدِ، في المُجتمعاتِ الّتي يَعيشونَ فيها، سواءً
كانَتْ إِسلامِيَّةً أو غيّرَ إِسلاميَّةٍ. ليُقدِّموا للعَالَمِ
أَجمَع، فِكْرَ وثَقافَةَ ومَنهجَ تلك المَدرَسَةِ، الّتي يَنتمونَ
إِليها. فَهُم صِلَةُ الوَصْلِ، بيّْنَ ماضي تلكَ المَدرَسَةِ
وحاضِرِها. فالانتمَاءُ لمدرَسَةِ أَهلِ بَيّْتِ النّبوَّةِ (ع)،
كلَّفَ أَتباعَها طَوابيرَ طويلَةٍ جداً مٍنَ الشُهدَاءِ،
والتَّضحِياتِ والآلام. وعلى أَتباعِ مَدرَسَةِ أَهلِ
البَيّْتِ(ع)، أَنْ يُقدِّموا للعَالَمِ، النَّموذَجَ الرِّسالِيّ
القِيَمِيّ، الّذي قَدمَهُ رَسولُ اللهِ (ص) للجاهِليَّةِ، حتّى
يُعَبِّروا بواقعيَّةٍ عَن هويَّةِ الإِسلامِ، ومُثُلِهِ
ومبَادِئهِ وأَخلاقِه. لكنَّ هذا النَّموذَجُ السَماوِيُّ الرفيعُ،
لاقى دُعاتُهُ حملاتٍ، مِن التَّزيّيفِ والتَّعسُفِ والجَوّرِ
والاقصَاءِ والتَّهميشِ، مِن قِبَلِ عُتاةِ الجَوّرِ، على مَدارِ
أَربعَةِ عَشَرَ قَرناً مِن الزَّمان.
ونَموذَجُ الإِمامِ الحُسَيّْنِ(ع)، يَتَجلّى أَمامَ التّاريخِ،
بأَنَّهُ مِن تلك الرُموزِ المُقدسَةِ، الّتي أَبَتْ أَنْ
يُستعبَدَ الإِنسَانُ، وتُنتَهَكُ كرامَتَهُ، مِن قِبَلِ أَيّ جهةٍ
كانت. فأَصبحَتْ شخصيةُ الإِمامِ الحُسَيّْنِ(ع) رَمْزاً
نِضَاليّاً، تَخطّى حُدودَ التَّاريخِ، فأَصبحَ صَرحاً تَهوي
إِليهِ قُلوبُ عُشَّاقَ الحُريَّةِ والكَرامَة. فَهوَ(ع) الرَمزُ
الّذي يُعلِّمُ الإِنسَانِيَّةَ، أُسُسِ الانعتاقِ مِن قبضَةِ
الفَراعِنةِ والمُتجَبرِين. مِن أَصحابِ العُروشِ الوَاهيَةِ،
الّتي لا يَعيشُ سُلطانُها، إِلاّ بوجودِ النَطْعِ والسَيّفِ،
وقَاضٍ يُفتِي كما يُريدُ الأَميْر.
واذا كانَ دَوْرُ الإِمامِ الحُسَيّْنِ(ع)، مُلْهِمَاً لجَميعِ
عُشَّاقِهِ، بمعَاني ومبَادِئِ الثَّوْرَةِ والفِدَاءِ، مِن أَجلِ
قَضيَّةِ الإِسلامِ. فليَكُنْ عُشَّاقُ الإِمامِ الحُسَيّْنِ(ع)،
أَهلاً لحَمْلِ أَمانَةِ رِسَالَتِه(ع). وأَنْ يَكونُوا على قَدَرِ
المَسؤولِيَّةِ التَّاريخيَّةِ، لنَقْلِ تلكَ الرِّسَالَةِ، عِبْرَ
الزَّمانِ والمَكانِ، دُونَ حُدودٍ أو حَواجِز. والعمَلُ
بجِدِّيَةٍ، مِن أَجلِ تَجسِيْدِ المَفاهِيْمِ الرائِعَةِ لنَهضَةِ
الإِمامِ الحُسَيّْنِ(ع)، على أَرضِ الواقِع.
وليَنتَبِهَ جميعُ مُحِبّي أَهلِ البَيّْتِ(ع)، أَنَّ خَطَّ
مُعاويَةَ بن أَبي سُفيانَ، لا زالَ يَعمَلُ بكُلِّ نَشَاطٍ، في
السَّاحَةِ الإِسلامِيَّةِ، ولكِنْ بطُرُقٍ جَديدَة. وهذا الخَطُّ
الّذي أَعلَنَ حَربَهُ على أَهلِ البَيّْتِ(ع) وأَتبَاعِهم، مُنذُ
بَواكيرِ عَهدِ الرِّسَالةِ المُحمديَّةِ المُبارَكَة. فَلَمْ
يَتَورَّع مُعاويَةُ، لا مِنْ ذِمَّةٍ ولا مِنْ دِيْنٍ، عندَما
أَصدَرَ بيَانَهُ الّذي عَمَّمَهُ، على جَميعِ عُمَّالِهِ،
يأْمُرهُمْ فِيه بمَا يلي:
(أنْ بَرِئَتْ الذِمَّةُ ممَّن رَوى شَيئاً، في فَضلِ أَبي
تُرابٍ وأهلِ بيّته. فقامَ الخُطباءُ على المنَابرِ، يَلعنُونَ
عَليّاً ويَبرأون مِنهُ، ومِنْ أَهلِ بيّته. وكانَ أَشَدُّ
النَّاسِ بَلاءً (ابتلاءً)، أَهلَ الكوفَةِ، لكُثرَةِ مَنْ بها
مِنِ الشِيعَة. واستعمَلَ عليهم (زياد بن سُميّة)، وضَمَّ إِليهِ
البَصرةَ، فقَتَلَهُم تحتَ كُلِّ حَجَرٍ ومَدَرٍ، وقَطَعَ الأَيْدي
والأَرجُلَ، وسَمَلَ العُيون(أَعماها). وصَلَبَهُم على جُذوعِ
النَّخلِ، وشَرَّدهُم عَن العَراقِ، فَلمْ يَبقَ مِنهم فيها
مَعرُوف. ثُمَّ تتَبَعَهُم في جَميعِ الأَقطارِ الإِسلاميَّة.
وكتَبَ إِلى جميعِ عُمّالِهِ أَنْ لا يُجيْزوا لأَحدٍ مِنهُم
شَهَادَة.)(تاريخ الفقه الجعفري/هاشم معروف الحسني/ص 199)(انتهى).
كمَا أَكَّدَّ هُشَامُ بن عبدِ المَلِكِ هذا المَنهجَ، سَيراً
على سِياسَةِ أَسْلافِهِ، المُعادِيَةِ لأَهلِ البَيّْتِ(ع).
فعَمَّمَ بيانَهُ التَّالي: (بَرِئَتْ الذِمَّةُ مِّمَنْ
يُشاريهِمَا أَو يُبايعْهُمَا أَو يُصافِحهُما أَو يُسَلِّمُ
عليهِمَا، فإِنَّهُمَا قَدّْ ارتَدّا -- (ويقصدُ بذلك، الامامينِ
محمَّدٍ البَاقر، وجَعفَرٍ الصَّادِق(ع)) -- عن الإسلامِ ورَأَى
أَميْرُ المُؤمِنينَ( يعني هشام بن عبد الملك)، أنْ يَقتُلَهُما
ودَوَابَّهُما، وغِلمَانَهُما ومَنْ مَعَهُما، شَرَّ
قَتلَة.)(الوافي/الفيض الكاشاني/ص 779)(انتهى).
إِنَّ العداءَ لفِكْرِ أَهلِ البَيّْتِ(ع) وأَتباعِهم، بَقى
مُستَحكِماً في نُفوسِ الطُلَقاءِ، وأَبنَاءِ الطُلَقاء. وظَلَّ
هذا العِداءُ، يُنتِجُ نَفْسَ المَورُوثِ السَّابقِ، مِنَ الحِقدِ
والكُرهِ على جَميعِ المَوالِينَ لأَهلِ البَيّْتِ(ع)، على مَرِّ
مَراحِلِ التَّاريخ. وهذا يُؤَشِرُ بجَلاءٍ، أَنَّ هناكَ مَنهَجُ
حَقٍّ، يَخشَاهُ أَهلُ البَاطِل. ولمّا كانَتْ السِّياسَةُ
والحُكمُ، هُما المُحركانِ لهذا العداءِ المُستَحكَم. أَخذَتْ
السُلطاتُ الغاشِمَةُ، تَسعَى لابْتِكارِ نَظريّاتٍ واهيَةٍ،
لِتَدّْعَمَ بِها مَواقِفِها، أَمامَ الرَأْيِّ العَامِّ.
فتَبنَّتْ التَّنظيرَ لهذا الموَضوعِ، مُؤَسسَّاتٌ تَضُمُّ
فُقَهاءَ ومُحَدِّثينَ، ومُؤرِخينَ ورُواةَ ومُفسرينَ. وتعملُ هذهِ
الكَوادِرُ المُتخصِّصَةُ، تَحتَ الإِشرافِ المُباشِرِ للسَلاطين،
الّذينَ تَناوَبوا على حُكمِ الأُمَّةِ الإِسلاميَّةِ. حتّى أَنَّ
فُقَهاءَ البِلاطِ السُلّطَويّ، نَظّْروا لابتِكَارِ فَلْسَفَةٍ
خاصَّةٍ، تُضْفِي الشَرعِيَّةَ على حُكْمِ السَلاطين اللاشَرعيّ.
وتَمنَحُهُم كُلَّ الصَّلاحِياتِ فِي حُكْمِ الأُمَّة. فتَوصَّلَ
هؤلاءِ الوعَّاظِ، الى نَظريَاتٍ تُبيحُ للحاكِمِ الفَاجرِ، أَنْ
يتسلَّطَ على رِقابِ النّاسِ كافَّةً، كقولِهِم (سُلطانٌ غشومٌ،
خيرٌ مِن فتنَةٍ تَدوم). والمقامُ هنا لا يَتَّسِعُ، لذِكْرِ
نَظريّاتِ الحُكمِ، الّتي ابتَكَرَتْ الشَرعيَّةَ المزيفَةَ،
لحكَامِ الظُلمِ والجَوّْر. ولَكِنْ أَذكُرُ بعضَ العنَاوينِ
مِنها، اتمَامَاً للفَائِدَةِ، مثلُ. نَظريّةُ اجمَاعِ أَهلِ
الحَلِّ والعَقْدّْ. نَظريَّةُ أَخذِ المُلْكِ بقُوَّةِ السَيّْفِ.
نَظريّةُ وِراثَةِ الخِلافَةِ لضَمانِ مَصالِحِ الأُمَّة
(نَظريَّةُ الحُكمِ الوراثِيّ).
الحَلقَةُ القَادِمَةُ إنْ شاءَ اللهُ مِن هذا الموضُوعِ،
ستكونُ مِسكَ الخِتامِ لهذا المَقَال.
* كاتِبٌ وبَاحِثٌ عِرَاقي
Mjsunbah1@gmail.com |