(1)
الشعائر، ومفردها الشعيرة، بمعنى العلامات وهي التي تهدي
الانسان وتدله على شيء ما.
ولقد وردت الكلمة أربع مرات في القران الكريم وكلها بشأن الحج،
حدد فيها الله تعالى علاماته ودلالاته، لعباده الذين ينوون حج بيته
العتيق، فلا حج من دون الالتزام بها، وكلها رمزية، كما في قوله
تعالى:
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ
حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن
يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ
شَاكِرٌ عَلِيم}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ
اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ
الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ
فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ
فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن
صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ
وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ
عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
{ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن
تَقْوَى الْقُلُوبِ}.
{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ
لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا
صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا
وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا
لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا
وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ
سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ
وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}.
ومن خلال سياقات الآيات هذه يتبين لنا بان الله تعالى رسم
معالم العبادة من خلال تحديد العلامات المطلوب التوقف عندها
واحترامها وعدم تجاوزها، والا فان العبادة تكون في خطر.
كما تدلل الآيات الكريمة على ان العلامة لا تراد لذاتها وإنما
لما تدل عليه، فعلامة المرور مثلا في الشارع العام لا تراد لذاتها
وإنما للدلالة على حالة الطريق، ليهتدي بها السائق فلا يتعرض لحادث
او يواجه مشكلة، ولذلك فعندما اعتبر القران الكريم (البدن) وهي
السمينة الضخمة من الإبل، من شعائر الله تعالى فهو لم يقصدها
لذاتها وانما لما اريد له الا وهو تقوى الله تعالى، من خلال
الاختبار الذي يمر به المؤمن في الحج، وفيما اذا كان سيلتزم بهذه
العلامة ام يتجاوزها ولا يحترمها، فقال تعالى { لَن يَنَالَ
اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى
مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى
مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} فالله تعالى لا يحصل من
هذه الشعيرة على شيء ابدا وانما ما يناله الحاج من التقوى، والتي
تعني خوف الله تعالى والتزام حدوده، اي شعائره وعلاماته التي حددها
سلفا للحاج والمعتمر.
ان الطريق الذي تكثر فيه علامات المرور الواضحة تقل فيه نسب
الحوادث، والعكس هو الصحيح، وكذلك هو الطريق الى الله تعالى، فكثرة
الشعائر تقلل من نسب الانحراف، والعكس هو الصحيح.
فالأضحية في الحج، وهي من شعائر الله تعالى بنص القران الكريم،
لا ينال منها الله تعالى شيئا وإنما يناله التقوى، اي ان العبد
الحاج ألذي يسترشد بشعيرة الأضحية، من المفترض ان تنتهي به هذه
الشعيرة الى تقوى الله عز وجل، فإذا ضحى بالبدن من دون ان يهديه
ذلك الى التقوى فذلك يعني انه لم يهتدي بهذه الشعيرة، العلامة، فما
فائدتها إذن؟.
اذن، فشعائر الله تعالى، حددها المشرع ليهتدي بها العبد في
طريقه الى خالقه، فهي ليست لذاتها وإنما لهدف اخر أسمى وأجل، الا
وهو تحقيق الغاية القصوى من وجودها، واقصد بها مرضاة الله عزوجل،
من خلال الاسترشاد بها والسير على هداها.
وهكذا، فكل شعائر الله تعالى تحمل رمزية معينة وحدود مرسومة هي
المقصودة منها.
ولقد استنبط الفقهاء من هذه الآيات مشروعية الشعائر الحسينية
على اعتبارها علامات تهدي الى التقوى والعمل الصالح، وهي الاخرى
ليست مطلوبة لذاتها وإنما لهدف أسمى وأجل واكبر، الا وهو تقوى الله
عزوجل، على اعتبار ان شعائر سيد الشهداء (ع) تهدي المرء الى الله
تعالى وتقوده الى مرضاته، فإذا أنتجت هذه الشعائر خصوصية التقوى
فذلك يعني انها تركت اثرها في شخصية الانسان، اما اذا لم تنتج ذلك،
فهي عبث ولقلقة لسان وادعاء فارغ، حالها حال من يحج فيؤدي كل
المناسك الا انها جميعا لن تترك فيه اي اثر، فما الفائدة إذن؟ اولم
يقل رسول الله (ص) يصف من يمارس العبادة بلا اثر {رب تال للقرآن
والقرآن يلعنه} على الرغم من ان قراءة القران من شعائر الله تعالى.
المطلوب، إذن، ان نبحث عن رمزية الشعائر الحسينية لنهتدي بها
للتي هي أقوم، وفي كل واحدة منها مثل هذه الرمزية، فالدمعة ترمز
الى المظلومية، ولذلك علينا ان لا نكون ظالمين، والدم يرمز الى
الجهاد، ولذلك علينا ان نجاهد انفسنا وأهواءنا من اجل ان تستقيم
شخصيتنا الاجتماعية، وكذلك لنجاهد من اجل ان لا نبرر للظالم او
نخذل مظلوما، ولبس السواد، علامة على الحزن الذي يجب ان يحرضنا على
فعل كل ما بوسعنا من اجل ان لا تتكرر كربلاء مرة اخرى، فيقتل
الحسين (ع) في كل يوم.
ان تكرار التراجيديا يوميا في العراق، وما يتعرض له اليوم شيعة
الحسين (ع) من حرب إبادة شعواء لهو دليل على ان الشعائر الحسينية
التي نمارسها هذه الايام في ذكرى الطف لم تهدنا الى ما يمنع من
تكرار الطف، وهذا سببه خطا الفهم والاستيعاب.
ان عاشوراء وشعائرها وعلاماتها ونتائجها تنتج قيادات شجاعة
وكفوءة قادرة على حماية نفسها وشعبها ومبادئها، فعندما لا تنتج
شعائر الحسين (ع) اليوم مثل هذه القيادات فهذا يعني اننا لم نستوعب
عاشوراء ودروسها.
ان القيادات الجبانة لا يمكن ان تنتمي الى عاشوراء وان تزينت
بعمامتها وعباءتها وخواتمها، فعاشوراء رمز الاباء والشجاعة والعزة
والكرامة، فأين قيادات اليوم من كل ذلك؟ ودماؤنا تسيل انهارا في
شوارع العراق؟.
(2)
لم يشأ الحسين (ع) ان يفجر موقف الرفض والتحدي في اللحظة
الاولى من المواجهة مع والي الطاغية يزيد على مدينة جده (ص)
المدينة المنورة، الوليد بن عتبة، ولذلك سعى الى ان ياخذه باللين
والرفق عندما دعاه اليه اثر وصول خبر هلاك الطاغية معاوية بن ابي
سفيان ابن آكلة الاكباد، فقال له:
{ مثلي لا يبايع سرا، فاذا دعوت الناس الى البيعة دعوتنا معهم،
فكان أمرا واحدا}.
انه (ع) كان يحاول توظيف الوقت لحين بلورة مشروعه الرسالي في
اذهان الراي العام.
ولقد كان الوالي امام خيارين؛ فاما ان يقتنع بكلام الامام
فيدعه ينصرف بلا اي تصعيد امني او عسكري، وبذلك يكون الامام قد وظف
الزمن لصالحه، فاذا دعا الوالي الناس الى البيعة العامة فعندها
سيشهر الامام موقفه امام الملأ ويكشف عن نواياه الحقيقية في رفض
البيعة باسلوب حضاري وبأرقى وسائل الاعلام، اذ سيسمعه اكبر عدد
ممكن من اهل المدينة المنورة، وجلهم صحابة، وهي وقتها حاضرة العالم
الاسلامي ترنو اليها عيون المسلمين في كل مكان، ولهذا السبب استعجل
الطاغية يزيد اخذ البيعة من اهلها قبل الاخرين.
او ان يرفض الوالي كلام الامام فيستعجله البيعة، الامر الذي
استعد له الامام من خلال اصطحابه لعدد من فرسان بني هاشم الذين
وقفوا على اهبة الاستعداد عند باب الوالي، للتدخل فورا بإشارة من
الامام اذا ما صعد الوالي من الموقف واقتضت الضرورة.
ولولا مروان بن الحكم لسارت الامور كما رسم وخطط لها الامام،
الا ان تدخله السلبي افسد الطبخة، ان صح التعبير، فما كان من
الامام الا ان يعلن موقفه بصراحة ووضوح وشجاعة في تلك اللحظة
الحساسة.
من هذا الموقف الحسيني الشهم، نستفيد الدروس التالية:
الف: لا تكن جبانا، ولا تكن متهورا، بل ادرس الظرف جيدا وضع كل
الاحتمالات نصب عينيك، قبل ان تتخذ قرارك النهائي، حتى تلك
الاحتمالات غير المتوقعة فان على القائد البارع والناجح ان يأخذها
بالحسبان من اجل ان لا يؤخذ بموقف جديد، فالوقت قد لا يسمح له بان
يفكر به فيؤخذ على حين غرة.
ان الشجاعة تعني القوة بتعقل، وهي تختلف عن التهور بعقلانيتها،
فما فائدة ان يرمي القائد نفسه في الازمات او يسعى لصناعتها قبل ان
يخطط للامور ويتدبر العواقب؟.
باء: وظف المنطق والهدوء بأعلى درجاته، فقد يلين، بتشديد الياء
الثانية، اقسى القلوب ويستميل اليك اشد المواقف، ولذلك فعندما امر
الله تعالى نبيه موسى عليه السلام واخاه هارون للذهاب الى الطاغية
المتجبر الذي كان يدعي الربوبية، فرعون، لتبليغه الرسالة، خاطبه
بالقول {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي
ذِكْرِي* اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُولا لَهُ
قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}.
فاذا كان الحديث مع الطاغوت بلين، فكيف سيكون حديث بعضنا مع
البعض الاخر؟ لماذا نستخدم العنف اللساني عندما نتحدث مع بعضنا؟
لماذا لا يتعلم الاب كيف يتحدث برفق ولين مع ابنه؟ لماذا لا تتحدث
الام برفق مع ابنتها وهي تعلمها وتزكيها وتؤدبها؟ لماذا يتعامل
المسؤول مع المواطن بعنف وقسوة؟ لماذا ينتقد المواطن الحاكم بقسوة
في اللسان؟ لماذا لا ندرب انفسنا على الحديث بهدوء ولين؟.
لقد وردت الكثير جدا من الروايات عن رسول الله (ص) تحث على
اللين والرفق فلقد قال (ص):
{إن من موجبات المغفرة بذل السلام، وحسن الكلام} {من خير ما
ظفر به الإنسان اللسان الحسن} وفي وصية له (ص) لبعضهم {أوصيك بتقوى
الله، وصدق الحديث، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وترك الخيانة،
وحفظ الجار، ورحمة اليتيم، ولين الكلام، وبذل السلام، وخفض الجناح}
وعنه (ص) {لا يستقيم ايمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه
حتى يستقيم لسانه} فيما يقول امير المؤمنين (ع) {ان لسان المؤمن من
وراء قلبه، وان قلب المنافق من وراء لسانه: لان المؤمن اذا اراد ان
يتكلم بكلام تدبره في نفسه، فان كان خيرا ابداه وان كان شرا واراه،
وان المنافق يتكلم بما يأتي على لسانه لا يدري ماذا له وماذا
عليه}.
وعن ابي جعفر الصادق عليه السلام في تفسيره للاية المباركة
{وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا} قال {للناس كلهم}.
وباللسان يداري المرء الناس، فلقد قال رسول الله (ص) {انا
امرنا، معاشر الانبياء، بمداراة الناس كما امرنا بأداء الفرائض، او
بتبليغ الرسالة} والمداراة، كما هو معروف، نصف العقل، كما ورد في
الاثر.
ان للاسلوب في طرح الفكرة وفي الحوار مع الاخر دور مهم جدا في
عملية التفاهم المتبادل والاقناع، ولذلك نرى ان القران الكريم رسم
لنا طريقا استراتيجيا رائعا للاسلوب، فقال تعالى {ادْعُ إِلَى
سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ
بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ولا
يتحقق ذلك الا اذا كان المحاور على علم وبصيرة ووعي بما يريد قوله،
واثق من نفسه، غير شاك بعقيدته، فقال تعالى متحدثا على لسان رسوله
الكريم {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى
بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا
أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فيما رفض تعالى للمحاور ان يوظف
الكلام البذيء والاساليب القذرة في الحوار، كما يفعل اليوم كثيرون،
فقال تعالى {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ
اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ
زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم
مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} لان
توظيف الطرق الملتوية في الحوارات دليل على افلاس اصحابها، اما
صاحب الحق الواثق من نفسه فان سلاحه الحوار بقوة المنطق وبالدليل
العلمي الرصين، وبمراجعة متأنية لكل خطب ورسائل واحاديث الامام
الحسين (ع) فسنجد انه جسد كل معاني الحكمة وهو يجادل جيش البغي
وقادته الطاغية يزيد والدعي ابن الدعي وابن سعد وغيرهم، على الرغم
من عظم الجريمة وخطر الفعل الذي ينوون اقترافه بحق سبط رسول الله
(ص) الا ان كل ذلك لم يبرر للامام الخروج عن المنهج السليم والقويم
في التعامل والحوار مع الاخر ايا كان.
اننا اليوم باحوج ما نكون الى ان نتعلم فن الحوار والجدال
بالتي هي احسن، سواء فيما بيننا او مع الاخر ايا كان، وعلى مختلف
الاصعدة الفكرية والسياسية والثقافية والعقدية وغير ذلك، اما
سياسات التشهير والتسقيط والسب والشتم والتهجم ورش الغسيل القذر،
فان كل ذلك لا يخدمنا ابدا ونحن نسعى لاقناع العالم بما عندنا وبما
نحمل من منهج حسيني رسالي عظيم.
(3)
الحسين (ع) خط، ويزيد لعنه الله تعالى خط، لا يلتقيان ابدا
مهما امتدا في التاريخ والمستقبل، ولقد اوضح الامام الحسين (ع) هذه
المعادلة بشكل واضح وجلي بقوله مخاطبا والي يزيد على المدينة
المنورة الوليد بن عتبة بعد ان حرضه مروان بن الحكم على قتل الامام
او اجباره على اخذ البيعة فورا { إﻧﺎ أھل ﺑﯾت اﻟﻧﺑوة، وﻣﻌدن
اﻟرﺳﺎﻟﺔ، وﻣﺧﺗﻠف اﻟﻣﻼﺋﻛﺔ، وﻣﺣل اﻟرﺣﻣﺔ، ﺑﻧﺎ ﻓﺗﺢ ﷲ وﺑﻧﺎ ﯾﺧﺗم، وﯾزﯾد
رﺟل ﻓﺎﺳق، ﺷﺎرب ﻟﻠﺧﻣر، ﻗﺎﺗل اﻟﻧﻔس اﻟﻣﺣرﻣﺔ، ﻣﻌﻠن ﺑﺎﻟﻔﺳق، وﻣﺛﻠﻲ ﻻ
ﯾﺑﺎﯾﻊ ﻣﺛﻠﮫ، وﻟﻛن ﻧﺻﺑﺢ وﺗﺻﺑﺣون، وﻧﻧﺗظر وﺗﻧﺗظرون أﯾﻧﺎ أﺣق ﺑﺎﻟﺧﻼﻓﺔ
واﻟﺑﯾﻌﺔ} فالعبارة (مثلي) تشير الى الخط الذي يمثله الامام، اما
(مثله) فتشير الى الخط الاخر.
خط الحق هو خط الحسين (ع) ومن والاه وتشيع له وسار على نهجه
والتزم به وجسده في حياته اليومية، وخط الباطل هو خط الطاغية يزيد
ومن والاه وتشيع له ودافع عنه وبرر له وسار على نهجه.
ليس الزي هو الذي يميز بين الخطين، وليس الانتماء بالهوية هو
الذي يميز بينهما، وليس التاريخ او الجغرافيا او الاسم والرسم او
العنوان والشعار، هي التي تميز بين الخطين ابدا، انما الذي يميز
بينهما هو المعاملة والسلوك اليومي، اولم يقل جد الحسين (ع) {الدين
المعاملة}؟ فكم من مدع للتشيع وهو يخوض في خط يزيد؟ وكم من مدع لحب
الحسين (ع) وهو يخوض في نهج الطاغية يزيد؟ وكم من (معمم) او (سيد)
او (شيخ) او سم ما شئت واذكر من احببت من عناوين وازياء ورموز،
تخوض في الخط الاموي؟.
خط الحسين (ع) ليس ادعاءا ابدا، وهو ليس انتماء بالهوية او
بالتوارث ابدا، كما انه ليس حكرا لاحد دون احد، انه خط يستوعب كل
الناس في كل زمان ومكان، وان من يشيعوا الحسين (ع) مجرمون، وان من
يسجنوا الحسين (ع) في انتماءاتهم الضيقة كذابون، فخط الحسين (ع) لا
يحده شيء من التاريخ والجغرافيا ابدا، فلماذا نغلق الانتماء على
انفسنا فحسب وندعي ان الحسين (ع) لنا دون غيرنا؟ ومن قال باننا
اولى بالحسين (ع) من غيرنا؟ الم يستشهد بين يديه في كربلاء في
عاشوراء غير المسلم؟ وغير الشيعي؟.
ان من يدعي الانتماء الى خط الحسين (ع) عليه ان يتميز على
الاقل بواحدة من صفاته وخصاله الحميدة، فلا يكون جاهلا ولا يكون
متعصبا ولا يكون متطرفا ولا يكون كارها لغيره محبا لنفسه.
فلقد وصف الامام امير المؤمنين عليه السلام اتباع خط الحسين
عليه السلام بقوله في وصيته الى ابنه السبط الحسن المجتبى، فقال
له:
{ يَا بُنَيَّ، اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيَما بَيْنَكَ
وَبَيْنَ غَيْرِكَ، فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ،
وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا، وَلاَ تَظْلِمْ كَمَا لاَ
تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ
إِلَيْكَ، وَاسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُ مِنْ
غَيْرِكَ، وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ
نَفْسِكَ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ وَإِنْ قَلَّ مَا
تعْلَمُ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ،
وَاعْلَمْ، أَنَّ الاْعجَابَ ضِدُّ الصَّوَابِ، وَآفَةُ
الاْلْبَابِ، فَاسْعَ فِي كَدْحِكَ، وَلاَ تَكُنْ خَازِناً
لِغَيْرِكَ، وَإِذَا أَنْتَ هُدِيتَ لِقَصْدِكَ فَكُنْ أَخْشَعَ
مَا تَكُونُ لِرَبِّكَ}.
ان من ينتظر ان يقدم له الناس كل شيء من دون ان يقدم لهم اي
شيء، ليس في خط الحسين (ع)، كيف والحسين (ع) قدم كل شيء من اجل
الانسان؟ وان الذي يظلم فلا ينصف الناس من نفسه، يظلم زوجته ويظلم
ابنه ويظلم زميله ويظلم شريكه ويظلم الرعية ويتجاوز على المال
العام، ويحمي شرار قومه، حزبه او عشيرته او منطقته لا فرق، ويعرض
خيار قوم آخرين للخطر، ليس في خط الحسين (ع)، كيف والحسين (ع) حجز
القلب عندما صف اهل بيته واصحابه في ساحة المعركة؟ وكان قد قال لهم
{نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، فلكم في أسوة}؟ الم يصطحب رسول
الله (ص) اعز الناس اليه في يوم المباهلة، واقصد بهم ابنته الزهراء
وبعلها امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) وابنيها سيدا شباب اهل
الجنة الحسن والحسين (ع)؟ ليعلمنا الايثار والفعل قبل ان نطلب من
الاخرين شيئا؟ قال تعالى {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا
جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا
وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا
وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى
الْكَاذِبِينَ}.
ان الانتماء الى عاشوراء يحتم على صاحبه الفعل قبل القول،
والمبادرة قبل الطلب من الاخرين، فلا يناقض قوله فعله، وعمله
دعوته، ولقد قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ
تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن
تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} ولقد جسد رسول الله (ص) واهل بيته
هذه الحقيقة في كل قول وفعل، فهذا امير المؤمنين (ع) يحدد لنا موقع
رسول الله (ص) في ساحة المعركة قائلا {كنا إذا احمر البأس ولقي
القوم القوم، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما يكون
منا أحد أدنى من القوم منه} كما انه (ع) يتحدث عن نفسه فيقول
{وقَدْ أَرْعَدُوا وَأبْرَقُوا، وَمَعَ هذَيْنِ الاْمْرَيْنِ
الفَشَلُ، وَلَسْنَا نُرْعِدُ حَتَّى نُوقِعَ، وَلا نُسِيلُ حَتَّى
نُمْطِرَ} فلا يسبق كلامه فعله، او ادعائه عمله وانجازه، ابدا، وهو
القائل {أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي، وَاللهِ، مَا أَحُثُّكُمْ
عَلَى طَاعَة إِلاَّ وَأَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا، وَلاَ أَنْهَا كُمْ
عَنْ مَعْصِيَة إِلاَّ وَأَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا}.
وان من مميزات انصار الحسين (ع) المبادرة كما كان امير
المؤمنين (ع) الذي يصف نفسه بالقول {فَقُمْتُ بِالاْمْرِ حِينَ
فَشِلُوا، وَتَطَلَّعْتُ حِينَ تَعْتَعُوا، وَمَضَيْتُ بِنُورِ
اللهِ حِينَ وَقَفُوا، وَكُنْتُ أَخْفَضَهُمْ صَوْتاً،
وَأَعْلاَهُمْ فَوْتاً، فَطِرْتُ بِعِنَانِهَا، وَاسْتَبْدَدْتُ
بِرِهَانِهَا، كَالْجَبَلِ لاَ تُحَرِّكُهُ الْقَوَاصِفُ، وَلاَ
تُزِيلُهُ الْعَوَاصِفُ.
لَمْ يَكُنْ لاِحَد فيَّ مَهْمَزٌ، وَلاَ لِقَائِل فيَّ
مَغْمَزٌ} لماذا؟ {وَإِنِّي لَعَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبِّي،
وَمِنْهَاج مِنْ نَبِيِّي، وَإِنِّي لَعَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ
أَلْقُطُهُ لَقْطاً}.
ان انصار الحسين (ع) على بينة من امرهم، واثقون بانفسهم، لا
يناقض قولهم فعلهم ولا تسبق دعوتهم غيرهم فعلهم بانفسهم، ولذلك
يتركون دائما اثرا طيبا، بصدقهم مع الله تعالى ومع انفسهم ومع
الاخرين.
(4)
الناس اصناف في المجتمع، فمنهم من يخرج على السلطة لشر ما، وهم
الخارجون عن القانون، همهم التجاوز على القانون واثارة الراي العام
وبث الفرقة في المجتمع، وهذا هو الاشر من الناس، وجمعه الاشرار.
الثاني، هم الذين يخرجون على السلطة لا لشيء الا ليعرفوا بانهم
ضدها، على قاعدة (خالف تعرف) سواء كان هذا الخروج يحقق مصلحة ام
لا؟ وسواء اثمر شيئا ام لا؟ وهؤلاء هم البطرون، وهم المتسرعون ذو
حدة وعنف، خاصة الذين يمتلكون المال الكثير، فيسخرونه لثورة بلا
معنى ولحركة بلا هدف، قد يظنون انهم يفعلون خيرا، الا انهم ليسوا
كذلك، ولقد تحدث عنهم القرآن الكريم بقوله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ
مُصْلِحُونَ* أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ
يَشْعُرُونَ}.
الثالث: وهم الذين يخرجون على السلطة ليفسدوا في الارض، فهم
اما قطاع طرق او لصوص او قتلة وارهابيون، ولقد تحدث عنهم القرآن
الكريم بقوله {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ
أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ
خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي
الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فهذا الصنف من
الناس هو الاخطر في المجتمع وعليه لانه يصيب الامن المجتمعي والسلم
الاهلي في مقتل، فهو تهديد مستمر ودائم لهما، ولذلك شدد المشرع في
عقابه.
الرابع، هم الظالمون الذين يخرجون على السلطة فيظلمون ويعتدون
ويتجاوزون، وذلك عندما تتعرض مصالحهم الخاصة للخطر، وهؤلاء هم كذلك
همهم التجاوز ليس على السلطة وانما على الناس، لاثارته على السلطة
بلا هدف، وبالتالي ليستفيدوا من حالة الهرج والمرج التي يصاب بها
المجتمع جراء افعالهم الدنيئة، انهم الوصوليون والنفعيون الذين
يرون من حولهم من ثقب مصالحهم الخاصة فقط، فاذا كانت آمنة فالحاكم
برايهم افضل الموجودين مهما ظلم الناس، اما اذا تعرضت للخطر فعندهم
السلطة اسوا ما هو موجود، حتى اذا كانت قد حققت نسبة عالية من
العدل والمساواة في المجتمع.
انهم فئة الظالمين، لانهم لا يقدرون السلطة مهما كانت عادلة،
ولا يساهمون في استتباب الامن والمساعدة في تحقيق الاهداف العليا
للمجتمع، لانهم انانيون واستئثاريون، ليس من مصلحتهم ان يستقر
البلد.
اما الحسين بن علي عليهم السلام فقد خرج على السلطة لتحقيق
ثلاث غايات مقدسة حصرا، ليس منها الشر والبطر والفساد والظلم، الا
وهي، كما وردت في نص وصيته التي تركها عند اخيه محمد بن الحنفية
عندما غادر مدينة جده رسول الله (ص) المدينة المنورة مهاجرا الى
مكة المكرمة، يقول فيها:
{إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما
خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن
المنكر، واسير بسيرة جدي وابي علي بن ابي طالب، فمن قبلني بقبول
الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني
وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين}.
اهداف واضحة جدا، ومبتدأ ومصير واضح جدا هو الاخر، فمحور
عاشوراء (قبول الحق) ليس للانا فيها مكان، وليس للظلم فيها مكان،
وليس للدنيا فيها مكان.
هذا يعني، انه:
اولا: لا تكون الحركة الاجتماعية سليمة اذا لم تحقق شيئا من
هذا.
ثانيا: لا يكون طلب السلطة امرا سليما اذا لم يحقق شيئا من
هذا.
ان الذين يقودون ثورة ما من دون التفكير الجدي في سبل تحقيق
الاصلاح او التغيير المجتمعي الحقيقي او التزام السيرة التي تنتهي
الى تحقيق العدل والمساواة والتكافل الاجتماعي، لهي حركات وثورات
وسلطات فاسدة لا تغني ولا تسمن من جوع.
اما الذين ظلوا يرفعون شعار الجهاد والنضال والثورة على الظالم
لازاحته عن السلطة والوصول اليها لتحقيق اهداف المجتمع في الحرية
والمساواة والعدل، ثم يتبين، فيما بعد، بانهم كانوا يريدون السلطة
لذاتها، فبمجرد ان يصلوا الى السلطة ويأخذوا بزمام الامور اذا بهم
يمارسون ما كان يمارسه الطاغوت من ظلم وقهر وتعسف وتمييز ولصوصية
وتجاوز على حقوق الناس وصناعة الازمات وغير ذلك، ان هؤلاء ابعد ما
يكونوا عن الحسين (ع) وقيمه ومبادئه وان رفعوا شعاراته وحملوا
راياته واقاموا مجالسه في وزاراتهم ودوائرهم ومكاتبهم الرسمية،
فلقد ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (ص) {لا يخدع الله عن
جنته} فاذا كان السذج من الناس والبسطاء من العامة تخدعهم الشعارات
واللافتات والرايات العالية ودموع التماسيح التي يذرفها امثال
هؤلاء على الحسين (ع) فيسيرون وراءهم مغمضي العيون لا يفقهون شيئا،
يصفقون لهم وينعقون خلفهم، فان الله تعالى لا تخدعه المظاهر،
فيومهم قريب، وحفر الدنيا قائمة لهم حتى قبل حفر النيران.
انهم يتاجرون بالحسين (ع) ويتاجرون بالدمعة، ويتاجرون بمعاناة
الضعفاء.
انهم التجار الذين يوظفون قيم وعواطف اقدس نهضة في تاريخ
البشرية بعد البعثة النبوية الشريفة، من اجل تحقيق مآرب دنيئة
ومصالح ضيقة، للاستمرار في سلطة زائلة لا تساوي شيئا مقابل
الحقيقة.
والسؤال: ما هي الظروف السياسية والاجتماعية التي تحتم على
المصلح ان ينفض عن نفسه غبار السكون والسكوت ليقود عملية الاصلاح؟.
يقول الامام الحسين (ص):
{ايها الناس: ان رسول الله (ص) قال؛ من رأى سلطانا جائرا
مستحلا لحرام الله، ناكثا عهده مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في
عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقا
على الله أن يدخله مدخله، ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان،
وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا
بالفيء، وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله، وأنا أحق من غير}.
وقبله (ع) حدد ابيه الامام امير المؤمنين (ع) فلسفة السلطة
بقوله {اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي
كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَان، وَلاَ الْتمَاسَ شِيء مِنْ
فُضُولِ الْحُطَامِ، وَلكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ،
وَنُظْهِرَ الاْصْلاَحَ فِي بِلاَدِكَ، فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ
مِنْ عِبَادِكَ، وَتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ} كيف؟ من
خلال المواصفات التالية التي ينبغي ان يتصف بها امام العدل {وقَدْ
عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفُرُوجِ
وَالدِّمَاءِ وَالمَغَانِمِ وَالاَحْكَامِ وَإِمَامَةِ
الْمُسْلِمِينَ الْبَخِيلُ، فَتَكُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ
نَهْمَتُهُ، وَلاَ الْجَاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ، وَلاَ
الْجَافِي فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ، وَلاَ الجَائِفُ لِلدُّوَل
فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْم، وَلاَ الْمُرْتَشِي فِي
الْحُكْمِ فَيَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ وَيَقِفَ بِهَا دُونَ
المَقَاطِعِ، وَلاَ الْمَعطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ
الاُمَّةَ}.
فالسلطة من اجل الاصلاح والامن والكرامة والحرية والعدالة
والتكافل الاجتماعي، وان اية سلطة لا تحقق ذلك في المجتمع فهي سلطة
باطلة، حتى اذا اتشحت بسواد عاشوراء واقامت على الشهيد المآتم،
ونشرت في الطرقات قدور الطعام.
(5)
يكفي ان يتعرض مواطن واحد للظلم ليثور المجتمع ضد السلطة،
فلماذا لم نجد ذلك يحدث اليوم على الرغم من تراكم الظلم ليس ضد
مواطن واحد وانما ضد اغلبية المجتمع؟ سواء في العراق او في غيره؟.
لقد ذكر، بتشديد الكاف، الامام الحسين (ع) جيش البغي بهذه
الحقيقة، في محاولة منه لتحريضهم ضد الظلم والظالم بقوله في احدى
خطبه، مبينا الخيط الابيض من الخيط الاسود في قضية الامرة:
{أيها الناس إنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى
لله، ونحن أهل بيت محمد(ص) أولى بولاية هذا الأمر من المدعين ما
ليس لهم، والسائرين بالجور والعدوان}.
فعندما ينزو على السلطة من هو غاصب لها، مكره الناس على ما لا
يريدون، ثم يمارس الظلم والعدوان ضد المجتمع، فعندها يجب ان يفكر
المجتمع بالاصلاح والتغيير، فمتى يستسلم الناس للظالم، اذن؟.
هنالك، مجموعة اسباب هي التي لا تدع المجتمع ان يفكر بالثورة
على الظلم والخروج على النظام السياسي الظالم والفاسد، منها على
سبيل المثال لا الحصر:
اولا: سيطرة المصالح الخاصة الضيقة والانانيات على حركة
المجتمع، فعندما لا يفكر المواطن بغير مصالحه الضيقة ويترك المصالح
العامة يعبث بها الحاكم بحجج واعذار مختلفة، فان الثورة وعمليات
التغيير الاجتماعي تكون بعيدة المنال جدا، ولذلك فان المجتمع الذي
يصاب بمرض الانانية لهو مجتمع ميت لا حياة فيه، فاذا غلبت ال (أنا)
ال (نحن) فان المجتمع يموت، بعد ان تموت احاسيسه ازاء بعضه.
ولقد حث المشرع في الكثير من آيات القرآن الكريم، وكذلك رسول
الله (ص) واهل بيته (ع) على مبدا التكافل الاجتماعي للحيلولة دون
سيطرة الانانية على ثقافة المجتمع، سواء من خلال الحث على اهمية
احساس الفرد بمعاناة المجموع، او من خلال الحث على الايثار ورفض
الاستئثار والاحتكار، او غير ذلك.
يقول تعالى عن الايثار {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ
وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ
وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا
وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ
وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وعن
الحب الاجتماعي والتراحم يقول تعالى {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن
بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا
الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا
غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}
وعن الرحمة المجتمعية يقول تعالى {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ
وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء
بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ
اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ
السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي
الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ
فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ
الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}.
اما رسول الله (ص) فيقول {ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف حق
كبيرنا} و {من غش فليس منا} و {لا ضرر ولا ضرار} و {ليس منا ذو
حسدٍ ولا نميمةٍ ولا كهانةٍ ولا أنا منه} و { ليس منا من وسَّع
الله عليه ثم قتَّر على عياله} و {ليس منا من لم يرحم صغيرنا ومن
لم يوقر كبيرنا ومن لم يعرف لعالمنا حقه} و {ما آمن بي من بات
شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به} و {مَثَلُ المؤمنين في
تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم: مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو:
تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى} و {ملعون ملعون من
ضيع من يعول}.
اما امير المؤمنين (ع) فيقول في وصيته للحسنين عليهما السلام
{وَقُولاَ بِالْحَقِّ، وَاعْمَلاَ لِلاْجْر، وَكُونَا لِلظَّالِمِ
خَصْماً، وَلِلْمَظْلُومِ عَوْناً} ويضيف (ع) {أُوصِيكُمَا،
وَجَمِيعَ وَلَدِي وَأَهْلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي، بِتَقْوَى
اللهِ، وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ، وَصَلاَحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ، فَإِنِّي
سَمِعْتُ جَدَّكُمَا، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ،
يَقُولُ: صَلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ
الصَّلاَةِ الصِّيَام}.
ويضيف (ع) {اللهَ اللهَ فِي الاْيْتَامِ، فَلاَ تُغِبُّوا
أَفْوَاهَهُمْ، وَلاَ يَضِيعُوا بِحَضْرَتِكُم.
وَاللهَ اللهَ فِي جِيرَانِكُمْ، فَإِنَّهُمْ وَصِيَّةُ
نَبِيِّكُمْ، مَا زَالَ يُوصِي بِهِمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ
سَيُوَرِّثُهُمْ}.
ويوسع الامام في المسؤولية الاجتماعية ويشدد عليها بقوله
{واعلموا أنكم مسؤولون حتى عن بقاع الأرض وبهائمها}.
لماذا كل ذلك؟ الجواب: لان مصير المجتمع واحد ومصالحه متداخلة،
ولذلك قال تعالى في الدماء تحديدا، وهي اعظم الجرائم التي ترتكب في
المجتمعات {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ
أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي
الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا
فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ
رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ
ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}.
ثانيا: اشتراك كل المجتمع او اغلبه بمرض السلطة في اللصوصية
والتجاوز على حقوق الناس والفساد المالي والاداري وغير ذلك.
لقد اشار الامام الى هذه الحقيقة عندما حاول ان يحدث جيش البغي
بالحق ليكشف لهم الحقائق ويبصرهم موقفهم المخزي فرفضوا الاصغاء
اليه، فقال لهم عليه السلام:
{ويلكم ما عليكم أن تنصتوا إلي فتسمعوا قولي، وإنما أدعوكم إلى
سبيل الرشاد، فمن أطاعني كان من المرشدين، ومن عصاني كان من
المهلكين، وكلكم عاص لامري غير مستمع لقولي، قد إنخزلت عطياتكم من
الحرام وملئت بطونكم من الحرام، فطبع الله على قلوبكم، ويلكم ألا
تنصتون؟ ألا تسمعون؟}.
فاذا رأيت مجتمعا مظلوما ومع ذلك قابلا بحاله لا يغير ولا يبدل
ولا يسعى للتغيير ولا ينتقد الحاكم الظالم ولا يحرك ساكنا، فتأكد
بان هذا المجتمع متورط بما تورط به النظام السياسي، من مفاسد
ومظالم، لماذا؟ لان الفاسد لا يتحرك ضد فاسد، وان اللص لا ينتقد
لصا بفعلته، وان ظالما لا ينتقد ظالما على ظلمه، فاذا كان المجتمع
كحاكمه لصا وظالما ومعتديا بعضه على بعض، ياكل الحرام كالحاكم،
ويتجاوز على حقوق الايتام كالحاكم، ويسرق لقمة العيش من جيرانه
كالحاكم، فكيف تنتظر منه ان يقود ثورة ويتحرك لتغيير ما عليه من
قول او فعل؟.
لنعد الى قول الامام الانف الذكر من اجل ان نعرف جيدا ظروف
الثورة، اية ثورة، انها:
الف؛ الظلم والجور.
باء؛ نكث العهود والوعود الانتخابية.
جيم؛ مخالفة الدستور والقانون.
دال؛ الآثام والعدوان على الحقوق.
هذه هي مبررات الثورات الاجتماعية التغييرية، فاذا وجدت في
المجتمع وتورطت بها السلطة ولم يغير الناس لا بقول ولا بفعل، فهذا
يعني ان الله تعالى سيورط المجتمع بما تورطت به السلطة.
ففي المأثور {أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى يُوشَعَ
بْنِ نُونٍ أَنِّي مُهْلِكٌ مِنْ قَوْمِكَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا
مِنْ خِيَارِهِمْ، وَسِتِّينَ أَلْفًا مِنْ شِرَارِهِمْ، قَالَ:
يَا رَبِّ، هَؤُلاءِ الأَشْرَارُ، مَا بَالُ الأَخْيَارُ؟ قَالَ:
إِنَّهُمْ لَمْ يَغْضَبُوا لِغَضَبِي، وَكَانُوا يُؤَاكِلُونَهُمْ
وَيُشَارِبُونَهُمْ} والعكس هو الصحيح، فاذا وجدت في المجتمع فئة
صالحة، ولو قليلة، فان الله تعالى قد يدفع بها غضبه وعقابه
وانتقامه عن كل المجتمع، فعن رسول الله (ص) ان الله تعالى يقول
{إني لأهمّ بأهل الأرض عذابا، فإذا نظرتُ إلى عمّار بيوتي، وإلى
المتهجدين، وإلى المتحابين في الله، وإلى المستغفرين بالأسحار،
صرفته عنهم} وعنه (ص) عن الله تعالى في حديث قدسي شريف {إنّ الله
تبارك وتعالى إذا رأى أهل قريةٍ قد أسرفوا في المعاصي وفيها ثلاثة
نفرٍ من المؤمنين، ناداهم جلّ جلاله وتقدّست أسماؤه:
{يا أهل معصيتي: لولا مَن فيكم من المؤمنين المتحابّين بجلالي،
العامرين بصلاتهم أرضي ومساجدي، والمستغفرين بالأسحار خوفاً مني،
لأنزلت بكم عذابي ثمّ لا أبالي}.
وبقراءة سريعة لحال الشعوب المظلومة فسنجد المعادلة صحيحة مئة
في المئة.
انها سنة الله في عباده، فهل من عاقل يعتبر ويتعظ، فيغير؟.
(6)
للحق رجال، وللباطل رجال.
للاصلاح رجال، وللتخريب رجال.
للبناء رجال، وللهدم رجال.
عاشوراء كانت من اجل الحق وللاصلاح والبناء، لذلك كان رجالها
استثنائيين في كل شيء، في صفاتهم ومواقفهم وتضحياتهم وفي كل شيء،
فمن يريد الحق والاصلاح والبناء يلزمه ان يتعلم منهم، فما الذي
تميز به رجال عاشوراء، الذين وصفهم سيد الشهداء (ع) بقوله {فإنى لا
أعلم أصحاباً ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أصحابي وأهل بيتي،
فجزاكم الله عنى خير الجزاء؟} او كما قال عنهم عندما سالته اخته
العقيلة زينب (ع) للاطمئنان على موقفهم من اخيها { أخي حسين، هل
استوثقت من أصحابك؟ هل بلوتهم؟ هل اختبرتهم؟ أخاف أن يسلّموك عند
الوثبة، أخي حسين جرّبهم واختبرهم} فرد (ع) عليها قائلا {والله لقد
بلوتهم فما وجدت فيهم إلا الأشوس الأقعس، يستأنسون بالمنية دوني
استيناس الطفل إلى محالب أمه}.
1 التحرر من كل شيء، والعبودية لله وحده، فلم يخافوا من القتل
ولم يستسلموا لاغراءات الطاغوت، ولم تضللهم دعايات الحكم الاموي،
فكانوا المصداق لقول الله تعالى {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ
الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا
عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ
عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ
فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ
النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
فعندما اطلق سيدهم الامام الحسين (ع) صرخته {هيهات منا الذلة}
كانوا ممن شملتهم الصرخة باصدق واعمق معانيها.
ان الذي يتبع المطامع لا يمكنه ان يبني شيئا، وان الذي يعبد
الطاغوت او يعبد شخصية القائد او المسؤول لا يصلح شيئا ابدا، لان
الاصلاح والبناء واقامة الحق يتعارض والعبودية لغير الله، خاصة
للاهواء والشهوات، ولهذا السبب كانت من اولى مهام الرسل والانبياء
هي تحرير الناس من عبودية غير الله تعالى، والى هذا المعنى اشار
الامام امير المؤمنين عليه السلام بقوله {لاَ يُقِيمُ أَمْرَ اللهِ
سُبْحَانَهُ إلاَّ مَنْ لاَ يُصَانِعُ، وَلاَ يُضَارِعُ، وَلاَ
يَتَّبِعُ الْمَطَامِع} فالذي يصانع في الحق، اي يداري فيه، لا
يقيمه، كما ان الذي يتشبه في عمله بالمبطلين لا يصلح الامور، فهو
يفسد اكثر مما يصلح، فضلا عن ان الذي يميل الى المطامع فتستهويه
بترودولارات الحاكم الظالم او المناصب او يحشر نفسه مع الناس وان
شاع الباطل وضاع الحق، ان كل هؤلاء لا يقيمون عدلا ولا يحققون
الانصاف.
2 الصبر والتواصي به، والمثابرة والتواصي بها، وقبول التحدي
والتواصي به، يقول تعالى متحدثا عن هذه الميزة المهمة {وَالْعَصْر*
إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا
بِالصَّبْرِ} فمسيرة الاصلاح طويلة وهي بحاجة الى سعة صدر والى
احترام الوقت الذي يجب ان يأخذ مداه قبل ان يلمس المرء نتيجة عمله،
كما ان النجاح بحاجة الى صبر مجتمعي واسع النطاق، فضلا عن ان اقامة
الحق والعدل وتحقيق قيمة الكرامة الانسانية للمجتمع بحاجة الى
استقامة فريدة من نوعها، لا تتحقق الا بالتواصي عليها، اذ لا يكفي
ان يستقيم مواطن او يتمسك بالنهج مسؤول، ابدا، وانما الامر بحاجة
الى تواصي واسع النطاق لنخلق ثقافة الاستقامة والصبر والمثابرة،
وانما حققت الامم والشعوب اهدافها الاستراتيجية بالمثابرة، اما
الشعب الذي يستعجل النتائج والمسؤول الذي ينحرف عن المسار لمجرد
انه صبر اياما من دون ان يحقق شيئا، فانه لم ولن يلمس اي نجاح، وان
من لا يحقق بالصبر اهدافه، لن يحققها بالتمرد على النهج.
كذلك، فان قبول التحدي الذي يواجهه المرء وهو في طريقه لتحقيق
الاهداف الاستراتيجية العليا، امر في غاية الاهمية، فطريق الاصلاح
والحق والعدل والانصاف مزروع بالتحديات الكثيرة والكبيرة، وهي
تتناسب طرديا مع حجم الهدف، فكلما كان الهدف كبيرا كانت التحديات
كبيرة، والعكس هو الصحيح، فاذا صغرت الاهداف صغرت التحديات.
ونحن اليوم ننتظر ان نحقق اهدافا استراتيجية عليا في العراق
الجديد، ولذلك فان تحدياتها عظيمة جدا، ما يتطلب ان نكون بمستوى
هذه التحديات التي قبلنا بها على الرغم من كل ما نواجهه من ظروف
قاسية، شريطة ان نرتفع الى مستوى هذه التحديات، سواء في علاقاتنا
مع بعضنا او في استراتيجياتنا الوطنية او في الوسائل التي نلجا
اليها لتحقيق الاهداف، اما اذا بقينا نعيش مشاكلنا التافهة
وخلافاتنا الساذجة ونظل نتقوقع في شرانق انانياتنا وتحزبنا
ومناطقيتنا وانتماءاتنا العشائرية، فان ذلك لن يساعدنا في شيء في
تحقيق اهدافنا، لان هذه الروح الفاشلة تنتج فشلا مريعا ان عاجلا ام
آجلا.
ان النفوس العظيمة تتسلح بالهمم العالية لتحقيق اهدافها
السامية، ولذلك فان رجال عاشوراء تحلوا بنفوس عظيمة رفضت ان تكون
اداة طيعة بيد الحاكم الجائر، فآثرت الموت بكرامة وشموخ على الحياة
بذل ومهانة، فهي عشقت الشهادة في سبيل المبدأ السليم والمثل العليا
على الحياة الذليلة في ظل طاغوت اتخذ عباد الله خولا، ومال الله
نحلا، وكتاب الله دغلا، على حد وصف الحديث الشريف عن رسول الله
(ص).
3 الثقة بالنفس، فاحدهم، كما وصفهم الامام، اشوس، وهو الجَرِيء
على القتال الشديدُ، الرافع رأْسه تكبراً، وهو من الشوس، بالتحريك،
النظر بمُؤْخِرِ العين تَكَبُّراً أَو تَغَيُّظاً، لشدة ثقته بنفسه
لدرجة انه يظهر التكبر لكي لا يشعر العدو منه خوفا او ندما، واقعس،
اي منيع، وهو من القعس، بمعنى خُروجُ الصَّدْرِ ودُخُول الظَّهْر،
وهو ضِدُّ الحَدَب، لئلا يبين منه انكسارا او ندما.
ان رجال عاشوراء لا يترددون عند الحوار ولا يخافون النزال ولا
يفخرون بمعايير الجاهلية ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ولذلك فقد
وصف امير المؤمنين (ع) حال المسلمين الرساليين في صدر الاسلام وهم
يقاتلون بين يدي رسول اللله (ص) بالقول {وَلَقَدْ كُنَّا مَعَ
رَسُولِ اللهِ(ص) نَقْتُلُ آبَاءَنا وَأَبْنَاءَنَا وَإخْوَانَنا
وَأَعْمَامَنَا، مَا يَزِيدُنَا ذلِكَ إلاَّ إِيمَاناً
وَتَسْلِيماً، وَمُضِيّاً عَلَى اللَّقَمِ، وَصَبْراً عَلى مَضَضِ
الاْلَمِ، وَجِدّاً عَلى جِهَادِ الْعَدُوِّ، وَلَقَدْ كَانَ
الرَّجُلُ مِنَّا وَالاْخَرُ مِنْ عَدُوِّنا يَتَصَاوَلاَنِ
تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ، يَتَخَالَسَانِ أَنْفُسَهُمَا، أيُّهُمَا
يَسْقِي صَاحِبَهُ كَأْسَ المَنُونِ، فَمَرَّةً لَنَا مِنْ
عَدُوِّنَا، ومَرَّةً لِعَدُوِّنا مِنَّا، فَلَمَّا رَأَى اللهُ
صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا
النَّصرَ، حَتَّى اسْتَقَرَّ الاْسْلاَمُ مُلْقِياً جِرَانَهُ
وَمُتَبَوِّئاً أَوْطَانَهُ، وَلَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأْتِي مَا
أَتَيْتُمْ، مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ، وَلاَ اخْضَرَّ
لِلاِيمَانِ عُودٌ، وَأَيْمُ اللهِ لَتَحْتَلِبُنَّهَا دَماً،
وَلَتُتْبِعُنَّهَا نَدَماً!}.
ان معايير الشخصية العاشورائية تتمحور حول الحق والحق وحده،
فلا انساب ولا ميول حزبية ضيقة ولا احلاف ولا فساد ولا خوف ولا
تردد.
(7)
هل تعلمت شيئا؟ هذا السؤال يتردد كثيرا في المجتمعات المتحضرة،
فالاب يسال ابنه بعد ان يشاهد فيلما، هل تعلمت منه شيئا؟ والام
تسال ابنتها بعد ان تطالع صورة او رسما، هل تعلمتي منها شيئا؟
والمرء يسال نفسه بعد كل دورة تعليمية او صف تدريبي، هل تعلمت منه
شيئا؟ وهكذا، فما يراه المرء او يسمعه او يشاهده او يطلع عليه او
يدرسه يقفز في ذهنه، بعده مباشرة، هذا السؤال: هل تعلمت شيئا؟ لان
من يقضي وقتا مع شيء ما ولا يتعلم منه شيئا فهو كالبهيمة التي تقضي
الوقت والجهد بلا اثر، اما العاقل فانه يتعلم من كل حركة وسكنة شيئ
جديد، يؤثر في سلوكه او نفسيته او في علمه ومعارفه او في حالته
الاقتصادية او في اي شيء آخر يخصه.
يقول تعالى واصفا الذين لا يتعلمون مما يرونه او يسمعونه
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ
وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ
أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ
بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ
الْغَافِلُونَ} ويقول تعالى {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ
يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ
هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا}.
لقد حث المشرع على الاعتبار من كل ما يراه المرء او يسمعه او
يشارك فيه بطريقة من الطرق، وقد عبر عن ذلك بالنظر فقال تعالى
{أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ* وَإِلَى
السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ* وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ*
وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} وقال تعالى {فَلْيَنظُرِ
الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} وقوله عز وجل {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ
مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِن بَيْنِ
الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ،
يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ، فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلا
نَاصِرٍ} وقوله تعالى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الأَبْصَارِ} {لَقَدْ
كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ
حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ
وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ} {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً
نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ
لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} {يُقَلِّبُ اللَّهُ
اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي
الأَبْصَارِ}.
وانما يكون في الامر عبرة للمرء اذا كان له عقل وبصيرة، يتفكر
ويتدبر ليتعلم، والا فانه يمر على الاشياء مرور الكرام، يقول امير
المؤمنين (ع) {بالاستبصار يحصل الاعتبار} وقوله {من جهل قل
اعتباره} {من تفكر اعتبر}.
وبالاعتبار يزداد المرء رشدا وعلما وخبرة وتجربة واستقامة، لان
الاعتبار يؤثر في شخصيته بشكل من الاشكال، يقول امير المؤمنين (ع)
{الاعتبار يقود الى الرشاد} {الاعتبار يفيد الرشاد} {من اعتبر
ابصر، ومن ابصر فهم، ومن فهم علم} {الاعتبار يثمر العصمة} {من تأمل
اعتبر، ومن اعتبر حذر} {من اعتبر بعقله استبان} {من كثر اعتباره قل
عثاره} {لا فكر لمن لا اعتبار له، ولا اعتبار لمن لا ازدجار له}.
وقال(عليه السلام) وقد رجع من صفين، فأَشرف على القبور بظاهر
الكوفة: يَا أَهْلَ الدِّيَارِ الْمُوحِشَةِ، وَالْمَحَالِّ
الْمُقْفِرَةِ، وَالْقُبُورِ الْمُظْلِمَةِ، يَا أَهْلَ
التُّرْبَةِ، يَا أَهْلَ الْغُرْبَةِ، يَا أَهْلَ الْوَحْدَةِ، يَا
أَهْلَ الْوَحْشَةِ، أَنْتُمْ لَنَا فَرَطٌ سَابِقٌ، وَنَحْنُ
لَكُمْ تَبَعٌ لاَحِقٌ، أَمَّا الدُّورُ فَقَدْ سُكِنَتْ، وَأَمَّا
الاْزْوَاجُ فَقَدْ نُكِحَتْ، وَأَمَّا الاْمْوَالُ فَقَدْ
قُسِمَتْ.
هذَا خَبَرُ مَا عِنْدَنَا، فَمَا خَبَرُ مَا عِنْدَكُمْ؟ ثم
التفت إِلى أَصحابه فقال: أَمَا لَوْ أُذِنَ لَهُمْ فِي الْكَلاَمِ
لاَخْبَرُوكُمْ أَنَّ (خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)}.
بل انه عليه السلام كان يحاول ان يحث اصحابه على الاعتبار من
ابسط الامور وربما اتفهها، فقال(عليه السلام) وقد مرّ بقذر على
مزبلة: هذا مَا بَخِلَ بِهِ الْبَاخِلُونَ. وروي في خبر آخر أَنه
قال: هذَا مَا كُنْتُمْ تَتَنَافَسُونَ فِيهِ بِالاْمْسِ!}.
تعالوا، اذن، نتعلم فلسفة الاعتبار من الشعائر الحسينية بكل
اشكالها والوانها، فلكل منها فلسفة وعبرة ومعنى ورمزية ودرس، لا بد
ان نعتبر منه لنغير بها حياتنا الى الافضل والاحسن، فنتعلم منها
امرا حسنا او خلقا جديدا او نلغي بها عادة سيئة او خلق سيء، والا
فان الشعائر الحسينية ستفقد معناها وتتحول، بالنسبة لنا، الى عادة
نمارسها بلا وعي ونحييها بلا اعتبار ونشارك فيها بلا فهم.
ونحن الان في شهري محرم الحرام وصفر المظفر، نحضر المجالس
ونشارك في عزاء سيد الشهداء ونحيي الشعائر الحسينية بمختلف اشكالها
والوانها، ونساهم في الكثير من الفولكلور الشعبي الموروث، كما اننا
نستمع الى الخطب والقصائد والردات، ونكثر سواد الحسينيات والمراكز
الاسلامية، فضلا عن ذلك فاننا نبكي الحسين (ع) في هذه الايام
تحديدا ونلبس السواد ونقيم المآتم والتكايا، وبعد ايام سنشارك في
العزاء الحسيني العظيم الذي ينطلق ظهيرة يوم عاشوراء في مدينة
الحسين (ع) كربلاء المقدسة، والمعروف بعزاء (طويريج) ثم سنشارك في
مراسيم اربعين سيد الشهداء (ع) فنذهب الى كربلاء المقدسة سيرا على
الاقدام لنزور مرقده الشريف، فينا الكبير والصغير، المرأة والرجل،
الطفل والطفلة، الشاب والشابة، فلماذا لا نوظف هذه الجامعة
التعليمية العظيمة التي تمتد حوالي (60) يوما، لنتساءل يوميا وفي
كل ليلة: ماذا تعلمنا؟ حتى لا ينقضي الشهران بلا فائدة، فليسأل
الاب ابنه بعد كل مجلس يحضره: ماذا تعلمت الليلة؟ ولتسال الام
ابنتها بعد كل مساهمة في احياء شعيرة من الشعائر الحسينية: ماذا
تعلمتي اليوم او الليلة من هذا المجلس او من تلك القصيدة او ذلك
الخطيب؟ لنسال انفسنا يوميا: ماذا تعلمنا من البكاء على الحسين
(ع)؟ ماذا تعلمنا من هذه القصيدة العصماء التي القاها على مسامعنا
الليلة هذا الرادود الحسيني؟ ماذا تعلمنا من ارتداء اللباس الاسود
على الحسين (ع)؟ ماذا تعلمنا من هذه اللافتة العريضة التي تدلت من
فوق سطح اعلى مبنى في المدينة وقد خط فيها قول من اقوال سيد
الشهداء (ع)؟ ماذا تعلمنا من ركضة (طويريج)؟ ماذا تعلمنا من السير
على الاقدام في الطريق الى كربلاء؟ ماذا تعلمنا من (شاي ابو علي) و
(زاد ابو علي)؟.
تعالوا نتعلم من كل لحظة نتقلب فيها بين مجالس الحسين (ع)
ومواكب العزاء وشعائر الحسين (ع) من اجل ان لا ندع الوقت يمضي
باللهو والعبث والمزاح، فعاشوراء مدرسة عظيمة لمن يقرر التعلم
منها، وهي مدرسة شاملة ومتكاملة لمن يقرر ان يتعلم في صفوفها.
انها تكفي لتغير امة وتقلب حالنا جميعا الى الافضل والاحسن،
شريطة ان نتخذ قرارنا الحاسم والحازم في ان نعتبر منها ونتعلم
منها، فلا نمر عليها كعادات وتقاليد ظاهرية بلا جوهر ولا معنى.
فشعائر الحسين (ع) للتغيير لا للهو، وللعبرة لا للعبث والمزاح،
ولا يتحقق ذلك فينا الا اذا نظرنا الى باطن الامور وليس الى ظاهرها
فحسب، يقول امير المؤمنين (ع) {إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ هُمُ
الَّذِينَ نَظَرُوا إِلَى بَاطِنِ الدُّنْيَا إِذَا نَظَرَ
النَّاسُ إِلَى ظَاهِرِهَا، وَاشْتَغَلُوا بِآجِلِهَا، إِذَا
آشْتَغَلَ النَّاسُ بِعَاجِلِهَا، فَأَمَاتُوا مِنْهَا مَا خَشُوا
أَنْ يُمِيتَهُمْ، وَتَرَكُوا مِنْهَا مَا عَلِمُوا أَنَّهُ
سَيَتْرُكُهُمْ، وَرَأَوُا اسْتِكْثَارَ غَيْرِهِمْ مِنْهَا
اسْتِقْلالاً، وَدَرَكَهُمْ لَهَا فَوْتاً، أَعْدَاءُ مَا سَالَمَ
النَّاسُ، وَسِلْمُ مَا عَادَى النَّاسُ! بِهِمْ عُلِمَ الْكِتَابُ
وَبِهِ عُلِمُوا، وَبِهِمْ قَامَ الْكِتَابُ وَبِهِ قَامُوا، لاَ
يَرَوْنَ مَرْجُوّاً فَوْقَ مَا يَرْجُونَ، وَلاَ مَخُوفاً فَوْقَ
مَا يَخَافُونَ}.
(8)
بمقدار ما سعى الامام الحسين (ع) الى ان يجنب القوم تورطهم
بالدم الحرام، وان يحول دون ولوغهم بدماء الابرياء من اهل بيته
واصحابه الكرام الميامين، وان لا يتورطوا بالعنف والارهاب، بنفس
المقدار، فان جيش البغي ظل مصرا على التورط بالجريمة وممارسة العنف
والارهاب باقسى وابشع اشكاله، والقوم ابناء القوم، ليعود اليوم
احفادهم التكفيريين الارهابيين المدعومين من سلطة قبيلة آل سعود
الفاسدة الحاكمة في نجد والحجاز، والتي تحرض على العنف والقتل
والتدمير بفتاوى طائفية تستصدرها من فقهاء التكفير القابعين في
البلاط الملكي، حسب الطلب، ليمارسوا نفس العنف وذات الارهاب، وربما
بقساوة اشد واعنف.
قال الامام (ع) لجيش البغي {أيها الناس؛ انسبوني من أنا ثم
ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها وانظروا هل يحل لكم قتلي وانتهاك
حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم (ص) وابن وصيه وابن عمه وأول المؤمنين
بالله والمصدق برسوله بما جاء من عند ربه؟ أوليس حمزة سيد الشهداء
عم أبي؟ أو ليس جعفر الطيار عمي؟ أو لم يبلغكم قول رسول الله لي
ولأخي هذان سيدا شباب أهل الجنة؟}.
لقد اراد الامام (ع) بتضحيته العظيمة، ان ينقل الامة الى مرحلة
متقدمة من السلطة السياسية من خلال تكريس سلطة الانتخابات (البيعة)
واسقاط (شرعية) التوريث المزعومة والتي سنها معاوية ابن هند آكلة
الاكباد، لان الإسلام يحث على التطور، وهو ضد الجمود والسكون، كما
انه يرفض الظلم بكل أشكاله، ولذلك فهو يحث على التغيير اذا نزا على
السلطة نظام مستبد وشمولي، لماذا؟ ل {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى
عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ} فلا يرضى الظلم للإنسان بغض النظر عن دينه وهويته،
فلقد شرع الامام امير المؤمنين (ع) الاستشهاد للمسلم اذا ما مات
كمدا بسبب تعرض امرأة غير مسلمة للعدوان والظلم على يد جنود الحاكم
(المسلم) لان قيمة الإنسان أعلى قيمة من أي شيء آخر، وفي الاية
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ
عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} فما يعرض كرامة
الإنسان للانتهاك مرفوض جملة وتفصيلا.
ان الظلم والارهاب والاستبداد، كلها ضد التطور والتقدم، خاصة
الاستبداد الديني الذي يقتل النفس المحترمة باسم الدين، والدين منه
براء، كما ان الارهاب الفكري هو من اشد واخطر انواع الارهاب لانه
يكمم الافواه، ويكره الناس على الايمان بشيء لا يقتنعون به، والله
تعالى يقول {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ولهذا السبب فان الحسين
(ع) حرص على فضح الطاغية يزيد بن معاوية حفيد آكلة الاكباد، ليفضح
الظلم والارهاب الديني وسلطة الباطل التي تقوم على اساس الاستبداد
والاكراه.
ولشدة حرص الإسلام على التغيير والتطوير، فقد شرع التعليم
كأعظم فريضة على المسلم والمسلمة، بل ان الله تعالى اقسم بالعلم
وأدواته في القران الكريم ليؤكد اهتمامه بالعلم الذي هو مفتاح
التغيير والتطور، فقال تعالى {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}
وقال رسول الله (ص) (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) ولهذا
السبب ظل الامام يسعى من اجل تعليم جيش البغي ما قد يجهلوه من
تفاصيل اسباب المعركة بين الحق والباطل والتي دارت رحاها في كربلاء
يوم عاشوراء، انه سعى لان يبصرهم طريقهم، فلا يقحموا انفسهم
بالمجاهيل المظلمة ويسيروا بطريق لا يعرفون مبتدأها ومنتهاها.
ان التعليم وترشيد المجتمع واطلاعه على مجريات الشأن العام،
واحدة من اوجب واجبات السلطة العادلة، اما السلطة الظالمة فان من
مصلحتها ان يظل المجتمع جاهلا لا يعرف شيئا من حقيقة الامور لتمرر
خططها كيف تشاء ومتى ما تشاء، ولذلك، فبينما لا يمارس الحاكم
العادل التضليل بحق المجتمع قيد انملة، فان الحاكم المستبد يعتبر
التضليل احد اهم وسائله في السيطرة على الناس لادامة سلطته باي شكل
من الاشكال ولو بتكميم الافواه والمطاردة والقتل والتضليل والخداع.
لقد حدد الامام امير المؤمنين (ع) الحقوق المتبادلة بين الراعي
والرعية، فقال في خطبة له في استنفار الناس الى اهل الشام بعد
فراغه من امر الخوارج {أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ لِي عَلَيْكُمْ
حَقّاً، وَلَكُمْ عَلَيَّ حَقٌّ: فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ:
فَالنَّصِيحَةُ لَكُمْ، وَتَوْفِيرُ فَيْئِكُمْ عَلَيْكُمْ،
وَتَعْلِيمُكُم كَيْلا تَجْهَلُوا، وَتَأْدِيبُكُمْ كَيْما
تَعْلَمُوا. وَأَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ: فَالوَفَاءُ
بِالبَيْعَةِ، وَالنَّصِيحَةُ في الْمَشْهَدِ وَالْمَغِيبِ،
وَالاْجَابَةُ حِينَ أَدْعُوكُمْ، وَالطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُمْ}.
اما الطاغوت فطريقته في التعامل مع الناس كالتالي؛ كما يتحدث
عنها القرآن الكريم على لسان فرعون؛ {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا
أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ
الرَّشَادِ} ومن ابى او رفض وتمرد؟ {قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ
أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ
السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ
خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}.
ومع كل ما بذله الامام (ع) في هذا الصدد، الا انهم اصروا على
العنف والارهاب، فلم يدعوا اسلوبا ارهابيا الا ومارسوه في عاشوراء،
اما الامام فلقد ظل صامدا لم يحدث نفسه بمثل ذلك ابدا، بل انه رفض
حتى ان يبتدئ القوم بالقتال قبل ان يبداوا هم، وبعد ان يلقي عليهم
الحجة تلو الحجة.
لقد مارس الامام الجهاد بأروع اشكاله واطهر وسائله، اما اولئك
فقد مارسوا العنف والارهاب بأسوء اشكاله، والفرق واضح بين الجهاد
والارهاب في عدة امور:
الأمر الأول؛ ان يكون الجهاد دفاعا عن النفس وعن الحقوق، ومنها
وعلى رأسها حق الحرية، حرية الدين والعقيدة والرأي والانتماء وغير
ذلك، بما يضمن تحقيق الكرامة التي تتعارض مع الفرض بالإكراه
والقوة.
الأمر الثاني: فان للجهاد أخلاقياته والتزاماته، فلا يقتل
المرء على الهوية، ولا يمثل به، ولا يروع الأطفال، ولا تزج النساء
في الأزمات، وان الارهاب ليس جهادا أبدا، كما ان عمليات التفجير
وقتل الأبرياء والهجمات المسلحة بالسيارات المفخخة والاحزمة
الناسفة لتصيب أكبر عدد من الأبرياء، ان كل ذلك ليس بجهاد أبدا،
فضلا عن ان ترويع الامنين وقتلهم، كالذين يقيمون سرادقات العزاء في
هذه الايام، ليس جهادا بالمطلق.
الأمر الثالث: ان يكون الجهاد بقيادة عاقلة ومدبرة وحكيمة،
تعرف كيف تحقق المصالح العليا للمجتمع، فلا تفرط بدماء الناس، ولا
تحرض على القتل من أجل القتل فقط، كما يفعل الارهابيون القتلة.
الأمر الرابع: ان الجهاد آخر مراحل التغيير والتصدي للظالم،
يلجأ اليه المسلم اذا ما فشلت كل محاولاته الأخرى في تغيير الواقع،
فهو ليس اول أدوات التغيير، وإنما آخرها، لان الإسلام يحرص جدا على
دم الإنسان، فيرفض إراقته والتفريط به ابتداءا.
(9)
الحوار ثم الحوار ثم الحوار.
انه السلاح الفعال الذي امر الله تعالى به رسله وانبياءه، ولقد
ظل سلاح ائمة اهل البيت عليهم السلام من امير المؤمنين عليه السلام
مرورا بكل السلسلة الذهبية، ولقد تجلى هذا السلاح بيد الامام
الحسين عليه السلام في عاشوراء بشكل ملفت للنظر حقا.
قال عليه السلام مخاطبا جيش البغي في يوم عاشوراء، في آخر
محاولة منه لاقناعهم بعظم الجريمة التي سيرتكبونها بعد قليل {أيّها
الناس اسمعوا قولي، ولا تعجلوا حتّى أعظكم بما هو حق لكم عليَّ،
وحتّى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم، فإن قبلتهم عذري، وصدّقتم قولي،
وأعطيتموني النصف من أنفسكم، كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليّ
سبيل، وإن لم تقبلوا منّي العذر، ولم تعطوني النصف من أنفسكم،
فاجمعوا أمركم وشركاءكم، ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة، ثم اقضوا
إليّ ولا تنظرون، إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولّى
الصالحين}.
فمن الذي يوظف الحوار في العلاقة مع الاخر عادة؟.
انه صاحب العقل والمنطق والحجة والدليل والبرهان، اما الذي
يوظف العنف والقتل والارهاب والصراع كلما واجهه الاخر، فانه
بالتاكيد لا يمتلك ايا من هذه المقومات، ولذلك يتوسل بكل ما هو ضد
العقل والمنطق، اولئك الذين خاطبهم الله تعالى في محكم كتابه
الكريم بقوله في اربعة آيات محكمات {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ
الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ
أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ
صَادِقِينَ} وفيها دلالة واضحة على ان الصادق لا يعدم الدليل
والبرهان، اما الكاذب فليس له حجة دامغة ابدا، ولذلك تحداهم الله
تعالى بان يسوقوا الدليل على ما يدعون ويعتقدون، ان كانوا صادقين،
ولن.
انظروا الى قصص الرسل والانبياء مع الامم السالفة، فكلما حاول
احدهم ان يحاور امته بادروه برد فعل جنوني يتمثل تارة بالقتل او
الطرد او الملاحقة، فعندما يعدم المرء الحجة البالغة في مواجهته
للاخر، فانه يلجأ الى الوسائل غير المنطقية.
لنقرا بعضا من تلك القصص، منها قصة نوح (ع): {قَالُواْ يَا
نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا
تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} {قَالُوا لَئِن لَّمْ
تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} ومنها قصة
ابراهيم (ع) {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا
إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي
مَلِيًّا} وقصة لوط (ع) {قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ
لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} وقصة الرسولين {قَالُوا إِنَّا
تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ
وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
ويواصل الرسل والانبياء طريق الحوار مع اقوامهم على الرغم من
كل شيء لدرجة انهم يلامون على ذلك وهم يرون الصدود القاسي جدا من
قبل الناس، فياتي الجواب منهم {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ
لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ
عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ
وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
ولم يشذ الامام (ع) عن هذا النهج في عاشوراء وقبل عاشوراء،
لتكون له الحجة الدامغة على الخلق، فلقد حاول وكرر محاولات الحوار
في اكثر من موقف، واستمر على هذا النهج حتى آخر لحظة سبقت
استشهاده، فعلى الرغم من ان قادة جيش البغي تمادوا في غيهم
وانهاروا امام مصالحهم الذاتية واغراءات السلطة واموالها وترهيبها،
وعلى الرغم من ان من جاء لقتال الحسين (ع) هم شذاذ الافاق الذين
باعوا دينهم ودنياهم بدراهم معدودة، مع كل ذلك فان الامام اعتبر ان
الحوار معهم حقهم عليه، فقال لهم {حتّى أعظكم بما هو حق لكم عليَّ}
وهو النهج الذي ظل يسير عليه ابيه امير المؤمنين (ع) مع الخوارج
على الرغم من شدتهم ضده وغلظتهم في التعامل مع الامام واصحابه، بل
انه (ع) اعتبر ان تعليم الامة من واجبات الراعي امام رعيته، فكان
يقول {فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ: وَتَعْلِيمُكُم كَيْلا
تَجْهَلُوا} لان الامام الحق لا يتوسل بالتضليل كأداة من ادوات
الحكم او الصراع السياسي.
والسؤال: اذا كان الحسين (ع) حريص كل الحرص على ان يحاور جيش
البغي بالرغم من ان قلوبهم ميتة لا تستوعب اي حديث، فلماذا يضيق
صدرنا عند مواجهة بعضنا البعض الاخر؟ لماذا نلجأ الى العنف والشدة
والتسقيط ضد بعضنا البعض الاخر كلما اردنا ان نتحاور؟ لماذا لا
يتحدث الاب الى ابنه عندما يريد اقناعه بأمر ما فتراه، عوضا عن
ذلك، يلجا فورا الى الضرب مثلا او الصراخ في وجهه حتى قبل ان يفهم
الابن عن ماذا يتحدث ابوه؟ لماذا لا تتحدث الام مع ابنتها في حوار
هادئ يعتمد المنطق السليم ولغة الاقناع والدليل العقلي والنضج
الفكري؟ لماذا لا يتحدث المعلم مع طلابه بلغة حضارية راقية؟ لماذا
لا يتحدث المسؤول مع المواطن بلغة مؤدبة راقية؟ لماذا لا يتحاور
الفرقاء السياسيين في البلد بلغة المنطق والادب والحوار السياسي
الهادف الذي يقدم المصالح العليا على اية مصالح ذاتية ضيقة؟
لماذا؟.
دعونا نتعلم من الحسين (ع) لغة الحوار مع اعدائنا فما بالكم
باخوتنا واحبتنا واصدقائنا؟ الى متى تظل لغة القوة والقهر والعنف
هي التي تحكم علاقاتنا مع بعضنا؟ في المنزل وفي المدرسة وفي الشارع
وفي الاعلام وفي السياسة وفي كل شيء؟ لماذا؟.
الى متى يظل سوء الظن هو الذي يتحكم في علاقاتنا الاجتماعية؟
فكلمة تشعل حربا كلامية واخرى تدمر علاقات حميمة وثالثة تفجر شريحة
اجتماعية بكاملها؟ وامير المؤمنين (ع) يقول {لاَ تَظُنَّنَّ
بِكَلِمَة خَرَجَتْ مِنْ أَحَد سَوءاً، وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي
الْخَيْرِ مُحْتَمَلاً}؟.
هذا من جانب، ومن جانب ثان، واقصد به الجانب الاخر من الحوار،
فمن الذين يقبل الحوار ويصغي اليه ويتدبره؟ ومن الذي يرفضه ولا
يصغي اليه؟ انه:
اولا: المنصف، وهو الذي يقبل بالحق ويرضخ له على قاعدة (لا
تنظر الى من قال، وانظر الى ما قال) والمنصف هو صاحب العقل والمنطق
السليم، ولذلك ورد في الحديث الشريف عن رسول الله قوله {من لا
انصاف له لا دين له}.
ثانيا: الذي يبحث عن الحقيقة، فاذا سال يسال ليعرف الحق، واذا
ناقش فللحق، واذا حاور فللحق، على قاعدة قول امير المؤمنين (ع) وقد
سأله سائل {ْسَل تَفَقُّهاً وَلاَ تَسْأَلْ تَعَنُّتاً، فَإِنَّ
الْجَاهِلَ الْمُتَعَلِّمَ شَبِيهٌ بِالْعَالِمِ، وَإِنَّ
الْعَالِمَ الْمُتَعَسِّفَ شَبِيهٌ بِالْجَاهِلِ الْمُتَعَنِّتِ}
يبحث عن اهل العلم بحثا ليتعلم منهم، اذ {مَا أَخَذَ اللهُ عَلَى
أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ
الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا} على حد قول الامام علي (ع)، لا يتكلم
قبل ان يفكر لان {الْكَلاَمُ فِي وَثَاقِكَ مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ
بِهِ، فَإذَا تَكَلَّمْتَ بِهِ صِرْتَ فِي وَثَاقِهِ، فَاخْزُنْ
لِسَانَكَ كَمَا تَخْزُنُ ذَهَبَكَ وَوَرِقَكَ، فَرُبَّ كَلِمَة
سَلَبَتْ نِعْمَةً وَجَلَبَتْ نِقْمَة} على حد قوله (ع).
ولان جيش البغي في كربلاء في يوم عاشوراء لم يكونوا ليمتلكوا
شيئا من كل هذا، لذلك فعندما كلمهم الامام (ع) بالمنطق القرآني
والعقلي السليم، ردوا عليه بالسهام والنبال، قائلا كبيرهم عمر بن
سعد لعنه الله (اشهدوا لي عند الامير، اني اول من رمى) وصدق
الشاعر، السيد رضا الهندي، الذي وصف الحوار بقوله:
فغدوا حيارى لا يرون لوعظه*****إلا الأسنة والرماح جوابا
(10)
لماذا اطلق الامام الحسين (ع) نداءه المدوي في يوم العاشر من
المحرم عام 61 للهجرة بعد ان بقي وحيدا في ساحة المعركة {الا هل من
ناصر ينصرني}؟
الا يعلم بان الذي امامه هو جيش من القتلة والمجرمين ممن نزعوا
ضميرهم وعقولهم ومشاعرهم فلم يبق منهم الا الجسد الخالي من كل
هذا؟.
الا يعلم بان الذي يقف الان امامه عديم الضمير والروح والقلب
والعاطفة، وان من المستحيل ان يرف له جفن فيحن على حال الامام او
على عياله؟.
بلا، هو يعرف ذلك جيدا، وانما اطلق صرخته:
اولا: ليؤكد بان ما استشهد من اجله لم يكن هدفا آنيا او مبادئ
وقتية ستنتهي بانتهاء حياته الشريفة، ابدا، انما هي قيم ومبادئ
وشعارات وخط ومنهج خالد سيستمر على مدى الاجيال من دون تعثر.
ثانيا: ليلقي الحجة البالغة عليهم لئلا يقول احدهم انه كان
غافلا او انه لم يستوعب الذي حدث او انه اخذ على حين غرة، او انه
استغفل بلا شعور منه، ابدا.
انه (ع) لم يستصرخ احدا لينقذ حياته او جسده، وانما ليتبنى ما
استشهد من اجله، الا وهي القيم النبيلة.
ثالثا: ان الاستنصار فلسفة عميقة المعنى والجذور في تاريخ
البشرية، فلقد استنصر رسل الله تعالى وانبياءه اقوامهم على الرغم
من معرفتهم بحقيقتها، ولقد تحدث القران الكريم عن الكثير من هذه
الحالات، وهو الامر الذي علينا ان نتعلمه من النهج القراني ونهج
الحسين (ع).
يقول تعالى في ذلك {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ
فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ
غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ*
قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ
مُّبِينٍ* قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي
رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ* أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ
رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ
تَعْلَمُونَ* أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ
عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ* فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي
الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا
إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا عَمِينَ}.
ان الاصرار على الاستنصار في الزمان والمكان ينتج تاثيرا
بالتأكيد، فليس كل الناس بلا وعي او بلا عقل، كما انهم ليسوا سواء
في استيعاب الرسالة، ولذلك فان المثابرة على الاستنصار سينتج اثرا
ان عاجلا ام آجلا.
والسؤال: كيف نلبي نداء الحسين (ع)؟ اي كيف ننتصر له؟.
يكون ذلك من خلال الانتصار لقضيته، فما هي قضيته؟.
يمكن تلخيص قضية الحسين (ع) في اقامة الدين بكل ما يحمل من قيم
انسانية نبيلة، والتي جسدها الحسين (ع) في عاشوراء، كما ورد في
الزيارات المأثورة عن ائمة اهل البيت عليهم السلام بقولهم {اشهد
انك قد اقمت الصلاة} والتي هي عمود الدين، فالامام لم يؤد الصلاة
وانما اقامها بشرطها وشروطها وبكامل اركانها، كيف لا وهو {من دعائم
الدين} على حد وصف الامام المعصوم له في الزيارة المعروفة؟ فكيف
اقام الامام الفرائض؟ يصف امير المؤمنين ذلك بقوله في حق اخوانه
بقوله {وتدبروا الفرض فاقاموه} فإقامة الدين بالتدبر الذي يعتمد
العقل والمنطق والتفكر السليم، وليس بالشعارات الجوفاء والحركات
الفارغة التي تشبه الى حد كبير التمارين الرياضية.
وبرأيي، فان من ابرز المجالات التي يجب ان يقام فيها الدين هو
الجانب الاجتماعي، فالاكتفاء باقامته في الجانب الفردي يفقد الصرخة
الحسينية معناها وجوهرها.
ان الحسين (ع) لم يضح في كربلاء في يوم عاشوراء ليؤدي صلاته هو
او يحسن من اخلاقه او يروض نفسه على المزيد من الكرم والسخاء، او
ليفرض الحجاب على نساء اهل بيته، ابدا، فهو (ع) كان المثال والقدوة
في كل ذلك، فعلى الصعيد الشخصي كان (ع) وهو سيد شباب اهل الجنة، في
القمة، وانما ضحى من اجل تكريس قيم الدين على الصعيد الاجتماعي،
وفي السلوكيات المجتمعية اليومية.
انه (ع) ضحى ليغير من واقع الامة كأمة وليس كافراد فحسب، ان
على الصعيد السياسي او الاخلاقي او الاقتصادي او الامني او
العقائدي او على اي صعيد آخر يخصهم كأمة وليس كأفراد.
حتى الذين قتلوه فان الكثير منهم كانوا من العباد والزهاد
الذين يحفظون القرآن، فالمشكلة لم تكن في اقامة الدين على الصعيد
الفردي ابدا، وانما على الصعيد الاجتماعي، وهي المشكلة التي تعيشها
مجتمعاتنا اليوم وللاسف الشديد، فمن منا لا يصوم ولا يصلي ولا يتبع
مرجعا في امور دينه ولا يحج البيت الحرام ولا يزكي امواله ولا
ترتدي عائلته الحجاب الشرعي؟ كلنا نفعل ذلك، ولكن؛ من منا يتعامل
بحسن خلق مع الاخرين ويحترم آراءهم ولا يعتدي على حقوقهم ويحترم
كبيرهم ويرفق بصغيرهم ولا يتجاوز على المال العام ولا يبخس الناس
اشياءهم؟ وهنا مربط الفرس، ولذلك فان الاستجابة لنداء الامام (ع)
يكون بالاستجابة لجوهر حركته ونهضته على الصعيد الاجتماعي وليس على
الصعيد الفردي والشخصي فحسب.
والسؤال: من الذي يقيم الدين؟ وكيف؟.
لقد حدد ائمة اهل البيت عليهم السلام صفات انصار الحسين (ع)
الذين يلبون نداءه الخالد في العديد من الروايات، منها على سبيل
المثال لا الحصر:
فعن الامام الحسن العسكري (ع) قال {شيعة علي عليه السلام هم
الذين لا يبالون في سبيل الله أوقع الموت عليهم أو وقعوا على
الموت، وشيعة علي عليه السلام هم الذين يؤثرون اخوانهم على انفسهم
ولو كان بهم خصاصة، وهم الذين لا يراهم الله حيث ينهاهم، ولا
يفقدهم حيث امرهم، وشيعة علي عليه السلام هم الذين يقتدون بعلي
عليه السلام في اكرام اخوانهم المؤمنين}.
وعن الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام انه قال {شيعتنا
اهل الورع والاجتهاد، واهل الوفاء والامانة، واهل الزهد والعبادة،
اصحاب احدى وخمسين ركعة في اليوم والليلة، الصائمون بالنهار، يزكون
اموالهم، ويحجون البيت، ويجتنبون كل محرم}.
وعنه عليه السلام {شيعتنا من قدم ما استحسن وامسك ما استقبح،
واظهر الجميل، وسارع بالامر الجليل، رغبة الى رحمة الجليل، فذاك
منا والينا ومعنا حيثما كنا}.
اما الامام محمد بن علي الباقر عليه السلام فيقول {ما شيعتنا
الا من اتقى الله واطاعه، وما كانوا يعرفون الا بالتواضع والتخشع
واداء الامانة وكثرة ذكر الله}.
وعنه عليه السلام {شيعتنا المتباذلون في ولايتنا، المتحابون في
مودتنا، المتزاورون في احياء امرنا، الذين اذا غضبوا لم يظلموا،
واذا رضوا لم يسرفوا، بركة على من جاوروا، سلم لمن خالطوا}.
وصدق امير المؤمنين عليه السلام الذين وصف شيعته واصحابه في
قوله:
{كَانَ لِي فيِما مَضَى أَخٌ فِي اللهِ، وَكَانَ يُعْظِمُهُ
فِي عَيْنِي صِغَرُ الدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ، وَكَانَ خَارِجاً
مِنْ سُلْطَانِ بَطْنِهِ فَلاَ يَشْتَهِي مَا لاَ يَجِدُ وَلاَ
يُكْثِرُ إِذَا وَجَدَ، وَكَانَ أَكْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتاً فإِنْ
قَالَ بَذَّ الْقَائِلِينَ وَنَقَعَ غَلِيلَ السَّائِلِينَ،
وَكَانَ ضَعِيفاً مُسْتَضْعَفاً! فَإِنْ جَاءَ الْجِدُّ فَهُوَ
لَيْثُ غَاب وَصِلُّ وَاد لاَ يُدْلِي بِحُجَّة حَتَّى يَأْتِيَ
قَاضِياً، وَكَانَ لاَ يَلُومُ أَحَداً عَلَى مَا يَجِدُ الْعُذْرَ
فِي مِثْلِهِ حَتَّى يَسْمَعَ اعْتِذَارَهُ، وَكَانَ لاَ يَشْكُو
وَجَعاً إِلاَّ عِنْدَ بُرْئِهِ، وَكَانَ يقُولُ مَا يَفْعَلُ
وَلاَ يَقُولُ مَا لاَ يَفْعَلُ، وَكَانَ إذَا غُلِبَ عَلَى
الْكَلاَمِ لَمْ يُغْلَبْ عَلَى السُّكُوتِ، وَكَانَ عَلَى مَا
يَسْمَعُ أَحْرَصَ مِنْهُ عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ، وَكَان إذَا
بَدَهَهُ أَمْرَانِ نَظَرَ أَيُّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْهَوَى
فَخَالَفَه.
فَعَلَيْكُمْ بِهذِهِ الْخَلاَئِقِ فَالْزَمُوهَا وَتَنَافَسُوا
فِيهَا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوهَا فَاعْلَمُوا أَنَّ أَخْذَ
الْقلِيلِ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِ الْكَثِيرِ}.
(11)
يظنون، وظنهم اثم، انهم اذا كفرونا فسنشك في ديننا، واذا
قتلونا فسنرتد عن اهل البيت (ع) واذا ذبحونا وفجرونا فسنترك الحسين
(ع).
لقد خاب ظنهم، لان انتماءنا للحسين (ع) ليس انتماء مصلحة، وكيف
يمكن ان يكون كذلك، ومن ينتمي الى الحسين (ع) يدفع الثمن غاليا من
نحره؟ واسرته؟.
اننا ننتمي الى عاشوراء لقيمها النبيلة، ولمعانيها السامية
ولتضحياتها الطاهرة ولنواياها المخلصة، ولاننا نعي جيدا، وبلا ادنى
شك، من ان الاسلام، الذي نعتز ونفتخر بالانتماء اليه، لا يكتسب
معاني الانسانية من دون الحسين (ع) وان الرسول الكريم (ص) الذي
بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، لا يكتسب معاني الرحمة الالهية من
دون الحسين (ع) وان الامام علي بن ابي طالب (ع) الذي يقول عنه رسول
الله (ص) {انا مدينة العلم وعلي بابها} لا يكتسب معاني الحق والعدل
والعلم والانسانية والرحمة من دون الحسين (ع) لان الحسين (ع) هو
الذي حافظ على دين جده من الزيغ والانحراف، فكيف يريدوننا ان نتخلى
عنه بتفجير هنا ومذبحة هناك؟ هل يظنون ان المرء يتخلى عن نفسه
بتهمة باطلة او بقتل نفس محترمة؟.
كيف لا يريدوننا ان نتمسك بالحسين (ع) بالرغم من عظم التحديات،
وهو الذي علمنا كيف نستقيم وكيف نصمد وكيف نصبر على مضض الطريق؟.
كيف يريدوننا ان نخاف التضحيات وقد علمنا الحسين (ع) ان
التضحيات الجسام والغالية ترخص في سبيل الحق والعدل والحرية
والكرامة؟ الم يضحي الحسين (ع) بنفسه وبابنه الرضيع وبابنه الاخر
الشاب وباهل بيته وباعز واخلص اصحابه في سبيل ان نعيش بعز وكرامة،
فلا نركع لطاغوت، ولا نستسلم لإرهابي، ولا نجامل قاتل يريد ان
يسلبنا كرامتنا بحفنة من البترودولارات الحرام؟.
ان القوم اليوم هم ابناء القوم، ولذلك فليس لنا عليهم عتب
ابدا، فما مارسه القوم بالامس ضد سبط رسول الله (ص) من قتل ورض
بحوافر الخيول واعتداء على حرائر آل الرسول وحرق الخيام وسرقة
اخبيتهم وقطع رؤوسهم وحملها على رؤوس الرماح والتجوال بها في
البلدان، ورمي الشهيد ابن الشهيد بالحجر وقطع اصبعه المبارك لسرقة
خاتمه، ان كل تلك الافعال الشنيعة التي مارسها القوم يمارسها اليوم
الاحفاد وبامتياز، فتراهم يفجرون مدارس الاطفال ويقطعون الرؤوس
ويبقرون البطون ويحرقون ممتلكات الابرياء.
ليس لنا عليهم عتب ابدا، الا ان عتبنا على المجتمع الدولي الذي
يدعي حرصه على حقوق الانسان واحترامه لقيم الحرية والديمقراطية،
اين هو الان من كل هذه الجرائم؟ الا يعرف حق المعرفة بان نظام
القبيلة الفاسد الحاكم في الجزيرة العربية هو المفرخ والمفقس الاول
لجماعات العنف والارهاب؟ فلماذا لا تتخلى عنه الولايات المتحدة
الاميركية التي تدعي انها تحمي الديمقراطية في العالم، وانها تبشر
بشرق اوسط خال من الانظمة الشمولية؟ لماذا تصر على دعم نظام
القبيلة على الرغم مما يفعله ضد قيم الحرية ومبادئ حقوق الانسان في
المنطقة والعالم؟ الا يدل ذلك على انها تمارس النفاق مع نفسها ومع
العالم؟.
ان عاشوراء تمنحنا زخما جديدا في التصدي لكل محاولات
الارهابيين من التكفيريين المدعومين من نظام القبيلة وفتاواه التي
تصدر تحت الطلب، لنعض بنواجذنا على تجربتنا الديمقراطية في العراق
الجديد، وسيزيح العراقيون عن طريقهم كل من يحاول ان يعبث بهذه
التجربة سواء من الارهابيين القتلة او اللصوص المفسدين الذين
يرفعون شعارات الحسين (ع) والحسين (ع) منهم بريء.
ليفضح العراقيون كل من يحتمي، كذبا وزورا، براية عاشوراء،
وليفضحوا كل من يتستر بشعاراتها محاولا ستر عوراته.
سيقف العراقيون بعد اشهر قليلة امام صندوق الاقتراع في استحقاق
انتخابي جديد، لينتخبوا اعضاء مجلس النواب الذي يعد مصدر شرعية كل
السلطات ومؤسسات الدولة، فلنرهم ماذا سيفعلون؟ هل سيجددون ثقتهم
باللصوص والارهابيين؟ هل سيعيدوا تحت قبة البرلمان المتردي
والنطيحة والمنخنقة والموقوذة وما اكل منها السبع؟ هل سيعيدوا
اللصوص الكبار الذين يصرفون الملايين من اجل ان يحجزوا مقعدا لهم
تحت قبة البرلمان ليتركوا العراق بعدها ويقيموا مع اسرهم في عواصم
الجوار والعالم، من دون ان يفكروا بحضور حتى جلسة واحدة من جلسان
البرلمان؟.
الم يجربهم العراقيون فيتاكدوا من فشلهم وفسادهم المالي
والاداري وهزيمتهم النفسية امام العنف والارهاب؟ وانهيارهم امام
اغراءات السلطة والمال العام؟ فلماذا يجددوا لهم، اذا جددوا؟ لماذا
يجربون الفاشل والفاسد مليون مرتين؟ الا يكفي عقد كامل من الزمن صك
هؤلاء الفاشلون اسماعنا بشعارات الدين والتشيع والحسين (ع) من دون
نتيجة؟ لماذا يستمر العراقيون بالاستخفاف بعقولهم والاستهزاء
بارادتهم وعدم احترام وعيهم؟.
ايها العراقيون؛ لا تخدعنكم شعارات ايتام الطاغية الذليل صدام
حسين؟ لا تخدعنكم وعود جماعات العنف والارهاب؟ لا يخدعنكم
المتباكون على الحسين (ع) المتسربلون بزي عاشوراء؟ انتبهوا الى ما
يراد بكم، فلا تثقوا بارهابي، ولا تمنحوا صوتكم للص، والا فان اربع
سنوات عجاف قادمة ستمر عليكم من جديد.
ان الخيار بايديكم، فالراي رايكم والصوت صوتكم، فهل ستصلحوا ما
افسده من منحتموه ثقتكم ثم خانكم؟ ام انكم ستمحصوا وتغربلوا
المرشحين جيدا هذه المرة لتمنحوا ثقتكم لمن يستحقها؟.
الا يكفيكم عقد كامل من الزمن لتتعرفوا على الصالح من الطالح
من المرشحين والمسؤولين والسياسيين؟.
ان الاصلاح والتجديد بحاجة الى ان تقدموا الصالح العام على
المصالح الخاصة، والصالح الوطني على المصالح الضيقة، فالعراق سفينة
واحدة فاما ان ينجو كله او يغرق كله، وتذكروا دائما بان سفيها
واحدا يمكنه ان يغرق السفينة ومن عليها اذا لم تاخذوا على يديه.
ولنا في عاشوراء درس وعبرة وتجربة، فما احوجنا اليوم لقيمها
النبيلة لنبني بها بلدنا ونعيد له امنه؟.
(12)
لقد علمنا الحسين (ع) كيف نموت بعز، وقبل ذلك علمنا كيف نحيا
بعز.
وهذا هو الفرق الشاسع بينه وبين المصلحين الاخرين، فالحسين (ع)
للحياة الحرة الكريمة قبل ان يكون للموت العزيز، وللحياة التي
تعتمد العلاقات السليمة في المجتمع الواحد قبل ان يكون للموت بعز،
فتضحيات الحسين (ع) في عاشوراء لم تكن للموت وانما للحياة، أو ليس
هو القرآن الناطق الذي يقول فيه رب العزة في محكم آياته البينات
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ
أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ
إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}؟ فدعوة الحسين (ع) وصرخته الابدية {الا هل
من ناصر ينصرني} ونداءاته الخالدة لم تكن للموت ابدا وانما للحياة،
ولكن ليس لكل حياة، وانما للحياة الحرة الكريمة، التي تنطلق من
مفهوم الاية المباركة {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ
وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ
الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا
تَفْضِيلاً} وفي قوله تعالى {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى
الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا}.
فالحياة الحرة الكريمة اولا، والا فالموت الكريم، والى هذا
المعنى اشار الامام بقوله {موت في عز خير من حياة في ذل} وعندما
تكون الحياة مع الظالمين فالموت يتقدم على الحياة، يقول الامام
{إنى لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما}.
وعندما يخير الانسان الحر الكريم بين القتل بعز او الحياة بذل،
فالقتل اولى في وعيه ومفاهيمه، ولذلك قال الحسين (ع) {الا وان
الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منا
الذلة، يابى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون}.
السؤال: كيف نحقق الحياة الكريمة؟.
يجيب الحسين (ع) بقوله، يحدد فيه سبل تحقيق العلاقات الحسنة في
المجتمع، اسلاميا كان ام غير اسلامي: يقول عليه السلام:
{عش مع الناس كعابر سبيل، يترك وراءه أثراً جميلاً، وعش مع
الناس كمحتاج يتواضع لهم، وكمستغنٍ يحسن إليهم، وكمسؤول يدافع
عنهم، وكطبيب يشفق عليهم، ولا تعش معهم كذئب يأكل من لحومهم،
وكثعلب يمكر بعقولهم، وكلصٍّ ينتظر غفلتهم، فإنَّ حياتك من حياتهم
و بقاءك ببقائهم ودوام ذكرك بعد موتك من ثنائهم، فلا تجمع عليك
ميتتين، ولا تؤلِّب عليك عالمين، ولاتقدم نفسك لمحكمتين، ولا
تعرِّض نفسك لحسابين، ولحساب الآخرة أشد و أنكى}.
هذه هي القاعدة الذهبية التي يجب ان نبني على اساسها علاقاتنا
الاجتماعية، سواء كنا في السلطة او خارجها، مسؤول في الدولة ام
مواطن عادي، فكل واحد منا مسؤول في محيطه على الاقل وفي عائلته وفي
مكان عمله وفي جماعة اصدقائه، ولذلك:
فان من يدعي انتمائه للحسين (ع) ويتكبر فهو كذاب.
وان من يدعي الانتماء الى عاشوراء ثم يسرق من قوت الضعفاء،
كذاب.
وان من يدعي حب الحسين (ع) ثم يتعامل مع الناس بالعنف والقوة،
كذاب.
وان من يدعي انتمائه الى الحسين (ع) ثم يغش الناس ويضللهم
وياكل قوتهم ويعتدي على حقوقهم ويتجاوز على مواقعهم ويبخس الناس
اشياءهم، كذاب.
وان المسؤول الذي يتجاوز على حقوق الناس ويسحق كرامتهم ويذلهم
بالتمييز على اساس الدين او المذهب او الاثنية او المناطقية، ثم
يدعي انتمائه الى مبادئ عاشوراء، هو الاخر كذاب، اولم يوصي امير
المؤمنين (ع) مالكا الاشتر لما ولاه مصر بقوله {وَأَشْعِرْ
قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ،
وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً
تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ
فِي الدِّينِ، وَإمّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ، يَفْرُطُ
مِنْهُمُ الزَّلَلُ، وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ،يُؤْتَى عَلَى
أَيْدِيهِمْ فِي الَعَمْدِ وَالْخَطَاَ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ
عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ
مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ، فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ، وَ وَالِي
الاْمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ، وَاللهُ فَوْقَ مَنْ وَلاَّكَ! وَقَدِ
اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ، وَابْتَلاَكَ بِهِمْ}.
فالحسين (ع) كان رحيما حتى مع اعدائه، اولم يبكهم في ليلة ويوم
عاشوراء؟ فالامام (ع) وبعد ان اجتمع على قتاله اكثر من ثلاثين الف
مقاتل، وعظهم مرارا وتكرارا، الا انهم لم يفهموا قوله وتسابقوا الى
قتاله فراح ينظر اليهم وهو يصلح حبائل سيفه ويبكي، واذا بأخته
عقيلة الهاشميين زينب الكبرى (ع) تمر به، وهو بتلك الحالة، فتبادر
لسؤاله قائلة: فداك ابي وامي يا ابا عبد الله أوتبكي بمثل هذا
الحال؟ فقال لها: يا اخية؛ ابكي على هؤلاء الذين سيدخلون النار
بسببي، فالحسين (ع) الذي هو رحمة للعالمين كجده المصطفى (ص) وابيه
المرتضى (ص) لا يحب ان يكون سببا لخلود احد في النار.
انه يحب لغيره ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لها، فكيف يحب
الحسين (ع) الجنة لنفسه ثم لا يتمناها لغيره؟ وكيف يكره النار
ويحبها لغيره؟.
تعالوا نتعلم حب الخير للاخرين كما نحبه لانفسنا، ونكره الشر
لغيرنا كما نكرهه ولا نتمناه لانفسنا، وعندها سنكون ممن احب الحسين
(ع) وعمل بنهجه آمنا وصادقا ومصدقا.
تعالوا نتعلم من الحسين (ع) الانصاف الذي حدد معالمه امير
المؤمنين (ع) في عهده الى مالك الاشتر بقوله {أَنْصِفِ اللهَ
وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ،
وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ
تَفْعَلْ تَظْلِمْ، وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ
خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ، وَمَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ
حُجَّتَهُ، وَكَانَ لله حَرْباً حَتَّى يَنْزعَ وَيَتُوبَ.
وَلَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللهِ
وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَة عَلَى ظُلْم، فَإِنَّ اللهَ
سَميِعٌ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِينَ، وَهُوَ لِلظَّالِمِينَ
بِالْمِرْصَاد}.
تعالوا نتواصى بالكرامة لنحققها لمجتمعنا من خلال تحقيقها
لانفسنا فردا فردا، فالسلطة التي لا تحقق الكرامة لمواطن واحد لا
نصفق لها ولا نقبل بها، كائنا من كانت.
لنتواص فيما بيننا من اجل خلق سلطة تحقق لمجتمعنا الكرامة من
خلال تحقيق مبدا التكافل الاجتماعي والمساواة امام القانون وتكافؤ
الفرص للجميع وبلا تمييز وبفرص التعليم المناسب والصحة والبيئة
والامن ومستوى المعيشة المناسبة، فالكرامة منظومة كاملة علينا ان
نعمل جميعا ونتعاون على ايجادها لتحقيقها.
(13)
اكذب ثم اكذب ثم اكذب، حتى يصدقك الناس، ثم اكذب ثم اكذب ثم
اكذب، حتى تصدق نفسك.
هذه هي المعادلة الاساسية التي يعمل بها الطغاة على مر
التاريخ، فمعاوية ظل يكذب على الناس ليصدقوا بأن أمير المؤمنين
واخو رسول الله ونفسه التي بين جنبيه ووليد بيت الله الحرام،
الكعبة المشرفة، اول القوم اسلاما واقدمهم ايمانا علي بن ابي طالب
عليه السلام لا يصلي، ولذلك تراهم تساءلوا مندهشين عندما سمعوا
بمقتله في محراب الصلاة في الكوفة (أو يصلي علي بن ابي طالب؟ هو لم
يصل؟ هكذا اخبرنا امير المؤمنين معاوية؟ فما الذي اخذه الى محراب
الصلاة، اذن، ليقتل فيه) اكيد ان في الامر خطأ؟.
ابنه الطاغية يزيد، هو الاخر، ظل متمسكا بهذه القاعدة ليوهم
الناس بان الحسين (ع) قتل بسيف جده، موظفا، كأبيه، فتاوى فقهاء
البلاط ومسخرا اصحاب الاقلام الماجورة وخطباء المنبر من المخادعين
والدجالين والكذابين، ليقلبوا الحقائق لصالحه، فاذا بهم يخرجون
علينا بحديث غير شريف يروونه عن رسول الله (ص) يقول فيه، بان
المجتهد اذا اصاب فله اجران واذا اخطأ فله اجر واحد، فيزيد اجتهد
في قتل سبط رسول الله (ص) ولذلك فهو حاز على اجرين، عند من يراه
اصاب في قتله، وعلى اجر واحد عند من يراه قد اخطا في ذلك.
ما شاء الله، فالطاغية القاتل شارب الخمر المعلن بالفسق
والفجور ابن آكلة الاكباد يزيد بن معاوية مأجور على كل حال، فهل
يرضى من يسرد هذا الحديث قولنا ان من يقتل امام النار فقيه موزة
(القرضاوي) او من يقتل (ولي امرهم) كبير اسرة آل سعود الفاسدة (عبد
الله) يؤجر في كل الاحوال؟.
انظروا الى اي حد وصلت عملية الاستخفاف بالعقول وتسطيح الوعي
والمعرفة؟ ويا ليتهم يكتفون بالتاريخ، الا انهم يستصحبون هذا الفهم
الى اليوم فيفتون ان من يفجر نفسه في وسط الجموع البريئة فيقتل
ويقتل، بفتح الياء في الاولى وضمها في الثانية، فسيحضر على مادبة
الغداء مع رسول الله (ص) في الجنة.
هنا، اذا تخيلنا عظم الجهد التضليلي الذي وظفه الطاغية يزيد
لقلب الحقائق، فسنتخيل، بالمقابل، عظم الجهد الاعلامي الذي بذلته
عقيلة الهاشميين زينب الكبرى بنت علي عليهما السلام، لتوعية الناس
بالحقيقة.
امرأة واحدة صادقة في مواجهة جيش من الكذابين الوضاعين
المضللين، ولانها كانت على الحق، فلذلك تغلبت على الباطل كله،
بجبروته وادواته القمعية، فتحقق ما تحدت به الطاغية بقولها {فوالله
لا تمحو ذكرنا}.
وهذه هي مشكلة الانسان عندما يمنح عقله، وهو اعظم ما خلق الله
تعالى، اجازة مفتوحة ليملا راسه بمثل هذه الفتاوى الساذجة والافكار
العقيمة، اذا برؤوسهم مملوءة بالحجارة بدل العقل، فماذا ننتظر، يا
ترى، ان تكون النتيجة؟ نموذجها اليوم في العالم العربي الذي يتقاتل
بالنيابة عن الاخرين ممن ينعتونهم بالكفار والنصارى واليهود وما
الى ذلك، وصدق الشاعر الذي قال: يا امة ضحكت من جهلها الامم.
انهم يستخفون بعقول الناس، ويضحكون عليهم، ويسطحون وعيهم
وفهمهم، وكأن الناس في رؤوسهم عقول البط يصدقون كل ما يقولون.
انها قاعدة الطغاة، وظفها فرعون قبلهم، فتحدث عنه القران
الكريم بقوله {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ
أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن
تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ* أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا
الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ* فَلَوْلا أُلْقِيَ
عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ
مُقْتَرِنِينَ* فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ
كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ* فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا
مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ* فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا
وَمَثَلا لِلْآخِرِينَ}.
كذلك، وصف امير المؤمنين (ع) حال اصحاب صفين مع هذه القاعدة،
بقوله: {أَلاَ وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً، اللمة، بالتخفيف
الجماعة القليلة، مِنَ الْغُوَاةِ وَعَمَّسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ،
عمس عليهم الخبر: ابهمه عليهم وجعله مظلما، حَتَّى جَعَلُوا
نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ، الاغراض جمع غرض: وهو الهدف، الْمَنِيَّة}.
حفنة من المضللين، بفتح الضاد، اذن، تكفي لتضليل امة كاملة،
وهذا ما يفعله الطاغوت دائما، فيختار حثالة ممن باعوا دينهم بدنيا
غيرهم او استهوتهم المناصب او خدعتهم الاموال الحرام التي يهبها
لهم السلطان الجائر، او ممن اماتوا ضمائرهم فلا يقدسون كلمة ولا
يحترمون رسالة سامية، ليسخرهم في تضليل الراي العام، خدمة لأهداف
الطاغوت.
فلنحذر من ان يكون احدنا من لمة الطاغوت يعمس علينا الخبر
فنصدق، ويزور الصور والافلام فنباشر بتوزيعها على مواقع التواصل
الاجتماعي، ويلقننا كذبة فنطير بها في الافاق مبشرين ومنذرين،
ويغذينا بدعاية او بانجاز لم يفعله فنسوقه من المسلمات.
الى متى نظل هدفا لأكاذيب السلطة؟ والى متى نبقى نصدق دعايات
المسؤول التضليلية؟ والى متى نظل ضحايا الكذب والدجل والتزوير
والدعايات الرخيصة التي تسوقها لنا جماعات العنف والارهاب؟ الى
متى؟.
لننتبه الى انفسنا ولنحترم عقولنا ولنحترم وعينا ولنحترم
شيبتنا، فلا نتناقل الاكاذيب فنساهم في خدمة السلطان الجائر من حيث
شعرنا ام لم نشعر، فلا ننشر كل ما يصلنا، قبل ان نتحقق ونمحص
ونتثبت ونتأكد، فلقد قال العزيز في محكم كتابه الكريم {وَلاَ
تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ
وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} واذا كان
ما وصلنا صحيح الا انه مثير للفتنة، فلتقف الفتنة عندنا بدلا من ان
نخوض بها.
يجب علينا الن نكون حذرين من كل ما يصل الينا عبر وسائل
التواصل الاجتماعي، وليكن الاصل في التعامل مع المادة التي تصلني
هو الشك ما لم يثبت العكس.
لقد وظف اعداؤنا، وخاصة التكفيريين القتلة، مجموعات تعمل ليل
نهار على بث الاكاذيب ونشر الافلام والصور المفبركة، لاثارة الفتنة
في صفوف المؤمنين وانصار الحسين (ع) وان ما يدمي القلب حقا هو ان
البعض منهم ينخدع بها فاذا به يتحول الى اداة فعالة في مساعدتهم في
نشر هذه الاكاذيب، فيكون اداة لزرع الفتنة ونشرها من حيث يريد او
لا يريد، وعامل من عوامل التضليل.
انهم، اعداء الحسين (ع)، لم يدعوا انصاره ان يتمتعوا بالاجر
والثواب الذي اكتسبوه من الايام العشرة الاولى من المحرم الحرام
وهم يعزون بعضهم البعض الاخر بالمصاب الجلل، ويقيمون المجالس
ويحيون الشعائر المقدسة، حتى تنتشر فجأة مواد الفتنة والتي تصلنا
عادة من الانصار قبل ان تصلنا من الاعداء.
عجيب امرنا ايها الاحبة، الهذه الدرجة بات ظهرنا ضعيف مستضعف،
يحمل في ذاته القابلية الاستثنائية على الركوب من قبل جماعات
الفتنة من الوهابيين الارهابيين وامثالهم؟.
لننتبه الى انفسنا، ولنحذر ان نكون عكس ما اوصانا به امير
المؤمنين (ع) {كُنْ فِي الْفِتْنَةِ كَابْنِ اللَّبُونِ، لاَ
ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ، وَلاَ ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ} اذا ببعضنا له ظهر
تركبه الفتنة وضرع تحلبه الفتنة، عجيب.
مرة اخرى، لا تتعامل مع كل ما يصلك كمسلمات، فتبادر فورا الى
نشرها وتوزيعها بحجة او باخرى، وليكن الشك هو الاصل ما لم يثبت
العكس، ولا تتباهى بعدد ما ترسل الى الاخرين من رسائل وانما تباهى
بالنوعية، والا فستكون اداة طيعة بيد التضليليين والارهابيين
والمخادعين من حيث لا تشعر، واحذر ان تكون مطية الكذابين، يركبون
ظهرك متى ما شاؤوا، ويحلبون ضرعك متى ما احبوا وارادوا.
انتبه ان تصيب قومك بجهالة، وانت تشارك الكذابين نشر اكاذيبهم
وتوزيع تضليلهم، وتذكر قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن
تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ
نَادِمِينَ} فان ما تتداوله رسالة، ان خيرا فخيرا، وان شرا فشرا.
(14)
كفان ما جاد بهما الزمان ابدا، في الكرم والوفاء والجود
والاخلاص والشجاعة والثقة والايمان، انهما كفا ابي الفضل العباس بن
علي اخو الحسين عليهم السلام، وحامل لواءه في كربلاء يوم عاشوراء،
سلمه الامام الراية لانه اشجع من حضر كربلاء، وهو من اوثق اهل بيته
واصحابه في يوم عاشوراء.
ولقد اختبر الله تعالى صاحب هذين الكفين عدة مرات قبل ان
يصطنعه لنفسه.
المرة الاولى؛ كانت عندما حاول شمر لعنه الله ان يستدرجه الى
صفه من خلال اثارة النعرة العنصرية وصلة الرحم، مقدما له ولاخوته
الامان من الطاغية ابن زياد فرفض العباس (ع) في معرض الحوار
التالي:
ولمَّا أخذ عبد الله بن حزام ابن خال العباس (ع) أماناً من ابن
زياد له ولأخوته من أمِّه، قالوا {لا حاجة لنا في الأمان، أمانُ
الله خير من أمان ابن سميَّة}.
ولمَّا نادى شِمر: أين بنو أختنا؟ أين العباس وأخوته؟ فلم يجبه
أحد، فقال الحسين (ع) {أجيبوه وإن كان فاسقاً، فإنَّه بعض أخوالكم}
فقال له العباس (ع): ماذا تريد؟ فقال الشمر: أنتم يا بني أختي
آمنون
فقال له العباس (ع) {لَعَنَك الله، ولعن أمانك، أتؤمِّننا وابن
رسول الله لا أمان له؟!}.
المرة الثانية كانت عندما طلب من الامام ان يأذن له للبراز الى
ساحة المعركة، فقال له الامام: يا أخي أنت صاحب لوائي وإذا مضيت
تفرق عسكري، فقال العباس (ع): قد ضاق صدري وسئمت من الحياة وأريد
ان اطلب ثأري من هؤلاء المنافقين، فقال الحسين (ع): فاطلب لهؤلاء
الأطفال قليلا من الماء.
فذهب العباس (ع) ووعظهم وحذرهم فلم ينفعهم، فرجع إلى أخيه
فاخبره فسمع الأطفال ينادون: العطش...العطش، فركب فرسه واخذ رمحه
والقربة وقصد نحو الفرات فأحاط به أربع الآف ممن كانوا موكلين
بالفرات ورموه بالنبال فكشف عنهم وقتل منهم مقتلة وهو يقول:
لا ارهب الموت إذا الموت زقا*****حتى أوارى في المصاليت لقا
نفس لنفس المصطفى الطهر وق*****أني أنا العباس أغدو بالسقا
ولا أخاف الشر يوم الملتقى
فقاتل حتى دخل الماء، فلما أراد ان يشرب غرفة منه ذكر عطش
الحسين (ع) وأهل بيته فرمى الماء وقال:
يا نفس من بعد الحسين هوني*****وبعده لا كنت او تكوني
هذا الحسين وارد المنون*****وتشربين بارد المعين
هذا هو العباس (ع) رمز الاخوة الصادقة والوفاء النادر في ساعة
الشدة، يرفض الامان ويختار الموت صبرا في سبيل الحق، ويختار ان
يواسي الحسين (ع) في عطشه بعد ان تمكن من الماء.
ولكل ذلك وصفه الامام علي بن الحسين السجاد زين العابدين (ع)
بقوله {رحم الله عمي العباس بن علي، فلقد آثر وأبى، وفدى اخاه
بنفسه، حتى قطعت يداه فابدله الله بجناحين ليطير بهما مع الملائكة
في الجنة، كما جعل لجعفر بن ابي طالب، وان للعباس عند الله تبارك
وتعالى منزلة يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة} وفي قول آخر
له (ع) {كان عمّي العباس بن علي عليه السلام نافذ البصيرة صلب
الإيمان}.
واذا كان العباس (ع) هو النموذج الذي يقتدى والاسوة الحسنة،
فهذا يعني ان علينا ان نتعلم منه ما يلي:
اولا: ان نكون على ثقة عالية بانفسنا، فلا نخدع ولا ننهار ولا
نتردد ولا نشكك بما نعتقد به.
ثانيا: ان يكون الواحد منا صلبا في مواقفه، شجاعا ومقداما، لا
يتقدم خطوة ويتراجع خطوات.
ثالثا: ان نكون اوفياء لمبادئنا ولبرامجنا الانتخابية ما
استطعنا الى ذلك سبيلا، فنكون عند حسن ظن من يثق بنا ويمنحنا صوته
ورأيه وثقته.
رابعا: ان نكون مصدرا للنصيحة الحسنة، فلا نبخل بكلمة الحق ولا
نتردد في قول الكلمة الطيبة لمن يطلبها منا، نشير بصدق على من
يستشيرنا، وننتقد مع حضور البديل او الحل، لياتي نقدنا ايجابيا
يساهم في البناء وليس في الهدم، ففي زيارة المعصوم للعباس (ع)
{والنصيحة لخلف النبي المرسل، والسبط المنتجب، والدليل العالم،
والوصي المبلغ، والمظلوم المهتضم}.
خامسا: التسليم والتصديق بالحق وان كان مرا، فلا تاخذنا العزة
بالاثم، والتبليغ له بلا مواربة، فلا تاخذنا في الله لومة لائم، ف
{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا
يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}.
سادسا: واخيرا، لنقدر الاخوة حق قدرها، سواء اخوة الدم او اخوة
الدين او اخوة العلاقة الاجتماعية الحميمة، الصادقة والسليمة، فان
تقدير الاخوة دليل على سلامة العلاقات الاجتماعية.
لقد اعطى العباس (ع) كل شيء من اجل الله تعالى، قدمه له بين
يدي اخيه سيد شباب اهل الجنة، فاعطاه الله ان جعله رمزا لكل قيم
الانسانية ليس عند الشيعي او المسلم فحسب وانما عند كل الناس،
فتراهم يحلفون برأسه، ويقسمون على الامانة والوفاء عند مرقده
الشريف، وكلهم يؤمن بانه (ع) يعطيهم مرادهم وينتقم منهم اذا ما
خانوا عهدا او لم يلتزموا باتفاق، بما له من منزلة عظيمة عند الله
تعالى.
فالسلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى اولاد الحسين وعلى
اصحاب الحسين وعلى العباس بن امير المؤمنين اخي الحسين وعلى زينب
الكبرى بنت امير المؤمنين اخت الحسين ورحمة الله وبركاته.
* مختصر سلسلة محاضرات القيت في الفترة
(1 الى 13) محرم الحرام عام 1435 للهجرة الموافق (4 الى 17) تشرين
الثاني 2013 ميلادية، في مجلس {هيئة اهل البيت (ع)} في عاصمة ولاية
فرجينيا، ريجموند، في الولايات المتحدة الاميركية
NHAIDAR@HOTMAIL.COM |