شبكة النبأ: اللحظات الأخيرة
والمؤلمة التي قضاها إمامنا الحسن المجتبى عليه السلام، وهو يجود
بنفسه من شدة السمّ الذي سقته زوجته الخائنة (جعدة بنت الأشعث)،
بوعد وخديعة من معاوية، شكلت بدايات الاستسلام لخيار الحرب والعنف
والكراهية من قبل غالبية الأمة، وإعطاء القياد والزمام لزمرة بني
أمية لتصوغ هيكلية الدولة الاسلامية على أساس التهديد والترغيب
والتنكيل بالحديد والنار.
إن الامام الحسن المجتبى عليه السلام، لم يقتل في مواجهة
عسكرية، كما حصل مع الامام الحسين عليه السلام، ولا كما حصل من قبل
مع أمير المؤمنين عليه السلام، عندما تعرض للاغتيال في ظل أجواء
سياسية مشحونة بالعداء والتآمر.
إنما قضى عليه السلام، وهو يسعى لتوفير أجواء السلم والاستقرار،
وأسباب العز والغلبة للأمة المتمثلة آنذاك بمن حوله من جمهور
المسلمين الذين بايعوه على الخلافة، ثم انقلبوا عليه. وما تعبئته
للجيش الاسلامي صوب الشام، إلا لمواصلة الخطوات التي مضى عليها
أبوه، أمير المؤمنين عليه السلام، لمحاربة قوى البغي والشقاق
بقيادة معاوية.
تقول المصادر التاريخية؛ ان زرافات من الناس ساروا خلف الإمام
الحسن عليه السلام، باتجاه "معسكر النخيلة"، حيث قدر المؤرخون أنهم
بلغوا (40 ألف) رجل، خرج بهم الإمام من الكوفة بعد أن خلف عليها
المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وأمره أن يحثّ الناس على
الخروج والإلتحاق به في المعسكر، فمكث هناك ثلاثة أيام يعد العدّة،
وينظم صفوف الجيش. وفي مرحلة لاحقة بعث عبيد الله بن العباس وقيس
بن سعد بن عبادة، في (12 ألف) رجل، ليكونوا في طليعة الجيش لحرب
معاوية، ثم توجه هو عليه السلام، الى المدائن، وهناك أراد اختبار
السائرين معه من جمهور المسلمين، وتمحيص أمرهم والتحقق من عمق
ايمانهم. فجمع الناس وخطب فيهم قائلاً:
"أما بعد.. فاني لأرجو أن أكون قد اصبحت بحمد الله ومنّه وانا
أنصح خلق الله لخلقه، وما اصبحت محتملاً على مسلم ضغينة ولا مريداً
له بسوء ولا غائلة، ألا وأن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما
تحبون في الفرقة..".
هذه الجملة الاخيرة كانت كافية لأن تكشف معادن المنافقين
وكوامنهم، فهم الوحيدون الذي سينظرون الى مفهوم الوحدة أو الفرقة
من زاويتهم الخاصة، وهي الخذلان والخيانة والتآمر، وكان ممن
تملّكتهم الحيرة من كلام الامام، هم الخوارج، فصاحوا فوراً: "كفر
والله الرجل..."! بمعنى أنه يريد من "الجماعة خير من الفرقة"،
الصلح مع معاوية. فهاجموا فسطاط الإمام ونهبوه، حتى سحبوا مصلاه من
تحته.
وبذلك يكررون نفس التجربة المرّة مع أبيه أمير المؤمنين عليه
السلام، في حرب صفين، عندما رفض التراجع ان التحكيم الذي أجبروه هم
عليه، وعلى هذا الأساس كفروه، ورفعوا شعارهم: "لا حكم إلا لله".
بينما في الحقيقة، كان الإمام، عليه السلام، يرمي الى تذكيرهم
بالتمسك بالولاية والدين والقيم التي يجسدها هو عليه السلام،
فالجماعة في ظله، عليه السلام، لن تكون سوى في معسكره، والفرقة لن
تكون إلا في معسكر الفئة الباغية. لكن كان لابد من استظهار النوايا
واستجلاء المواقف الحقيقية، فهي التي أجبرت الإمام على التنازل عن
حقه في الحاكمية السياسية – وليس المعنوية- الى معاوية، ويوقع معه
اتفاق "الهدنة".
ثم لا ننسى أن الظروف النفسية والسياسية في الكوفة، كانت
امتداداً لمرحلة أمير المؤمنين، عليه السلام، حيث استمرار وجود فئة
الخوارج في كيان المجتمع الاسلامي، واستمرار وجود الخطر الداهم على
الأمة من جهة الشام والأمويين، والأخطر من ذلك، وجود الثغرات
الكثيرة والواسعة في إيمان المجتمع الاسلامي آنذاك، وتحديداً مجتمع
الكوفة، وهو ما شهده الامام الحسن عليه السلام، بأم عينه في حرب
صفين. وأي حاكم آخر، يطمح لضمان مستقبله السياسي، سيفضّل خيار
الحرب والتعبئة للقتال بكل ثمن، كما فعل تحديداً معاوية، ففي ظروف
حرب صفين، قوى الغشاوة والحجب على عقول أهل الشام، مستفيداً من
وسائل الدعاية والإشاعة والتضليل وتغييب الحقائق، وما قصة ذلك
الشامي الذي عجز عن التمييز بين الناقة – أنثى البعير- وبين الجمل،
عندما رأى أحد القادمين من العراق مع ناقة له، فادعاه لنفسه، فجيء
بهم الى معاوية، فأسقط في يده و بانت الفضيحة في مجلسه، فتوجه الى
العراقي بالقول: "اذهب الى علي، وقل له: قاتلك معاوية بأناس لا
يميزون بين الناقة والجمل"!.
لكن الامام الحسن عليه السلام، لم يفعل ذلك، ولا أبوه أمير
المؤمنين، عليهما السلام، لأن الحرب لم تكن خيارهما لمواجهة
المعارضين وحتى المارقين، فقد كان قرار الحرب بدايةً، في عهد أمير
المؤمنين، عندما رفض معاوية كتاب الإمام بالعزل عن ولاية الشام،
وكان هذا بمنزلة إعلان الحرب على الدولة الاسلامية، وعلى الشرعية –
كما يصطلح اليوم-.
بمعنى أنها كانت حروباً دفاعية، اقتداءً بنهج الرسول الأكرم،
صلى الله عليه وآله، فالسلم والسلام، هو المبدأ الأساس في الاسلام،
استناداً الى الآية الكريمة: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها..". وكذلك
الحال بالنسبة للإمام الحسين، عليه السلام، عندما أصبح يوم العاشر
من المحرم أمام الجيش الذي حشده ابن زياد لحرب الإمام في صحراء
كربلاء. فقد استثمر الإمام وضع السلم وما قبل المعركة، لأن يذكر
القوم بفطرتهم وبإسلامهم الذي يدعونه، ثم بمنزلته ومكانته من
الدين، ومن الرسول الأكرم، لإلقاء الحجة كاملة، وفي هذه الفترة
الحرجة والدقيقة، كان تحول الحر الى معسكر الحق.
هذا ما يتعلق بالجانب الداخلي من كيان الدولة الاسلامية، كذلك
الحال بالنسبة للخارج، ومن هم يقفون موقف العداء ويتحينون الفرص
للكيد والفتك بالمسلمين، فانهم إن فكروا في الحرب والمواجهة، لن
يفلحوا، لأن الحق يبقى الى جانب أهله، وإن طلبوا السلم والهدنة،
فانهم ايضاً سيتعرضون لمجهر المحاسبة والتدقيق في سلوكهم
وسياساتهم، وما يجب عليهم ان يلتزموا به، وهذا تحديداً ما كسبه
الإمام الحسن، عليه السلام، بموافقته على الهدنة مع معاوية، فهو
بعد أن كشف حقيقة من حوله في الكوفة وغيرها، كشف حقيقة معاوية، ليس
له طبعاً، إنما لجمهور المسلمين، لاسيما أولئك الذين هرولوا الى
معسكر معاوية بقرقعة الدراهم والدنانير.. فلما وصل معاوية الى
الكوفة، بعد خروج الإمام الحسن وأخيه الحسين، عليهما السلام،
وتوجههما الى المدينة، توجه الى جمهور الكوفيين، وخطب فيهم تلك
الخطبة الشهيرة، التي فاجئ بها الجميع، وجاء فيها: "اني لم اقاتلكم
لتصوموا وتحجوا، إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم، وما وثيقة الصلح هذه
إلا تحت قدمي..."!.
وربما تصور الناس أن معاوية سيفي بالشروط التي قطعها عليه
الإمام الحسين، عليه السلام، بأن يترك سبّ ولعن أمير المؤمنين
وابنائه والتعرض لأهل البيت واصحابهم، وعدم تعيين ابنه يزيد خلفاً
له وغيرها من الشروط. فيما تصور معاوية أنه بحصوله على هذا
الاتفاق، إنما حقق نصراً شاملاً يضمن فيه مستقبلاً سياسياً طويل
المدى، بينما الحقيقة التاريخية تؤكد أن هذا الاتفاق هو الذي اطلق
العد التنازلي لنهاية حكم بني أمية الى الأبد، عندما تم الكشف عن
كل عوراتهم وثغراتهم أمام المسلمين والعالم، فلم يكن امامهم سوى
الإجهار بالانحراف والفسق والفجور وايضاً الظلم والطغيان. ولنتصور
أن معاوية كان يستمر في حروبه، فهل كان بالامكان الكشف عن
انحرافاته وسياساته الاجرامية والتضليلية؟.
هذه التجربة نجدها في زعماء معاصرون حرصوا على أن إيجاد أجواء
حرب واضطرابات وأزمات لتوفير الغطاء اللازم لسياساتهم وإفسادهم
وانحرافاتهم، لذا نجد من الصعب الكشف عن اللصوص والمفسدين
والمنحرفين في ظل الأزمات والفتن والاضطرابات السياسية. الامر
يدعونا الى مراجعة سيرة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام،
ودراستها بدقة ومطابقتها مع الواقع. |