شبكة النبأ: لا نجد أدل وأعمق من
كلمة الإمام الحسين (عليه السلام) في وصف النفوس العظيمة الأبية
التي تحلى بها أصحابه الشهداء من كلمته الخالدة بحقهم (إني لا أعلم
أصحاباً أوفى ولا خير من أصحابي).
فهذه الثلة الخيرة من أصحاب الوعي والبصيرة وفرسان المصر وأبطال
المواقف الخالدة قد استجابوا لنداء الحق فوجههم نحو الحقيقة فساروا
إليها بإدراك ومعرفة ملبين نداء الله تحت لواء الحسين(عليه السلام)
وهم في أعلى درجات اليقين حتى سجل التاريخ لهم تلك الكلمات المشرفة
من فم سيد الشهداء فكانوا بحق قدوة للثائرين بوجه الظلم والإضطهاد
ومدرسة لصناعة الحياة الحرة الكريمة.
وفي طليعة هؤلاء الأبطال (برير بن خضير الهمداني المشرقي)
الشهيد الذي لم يمنعه عمره الذي جاوز التسعين عن الجهاد في سبيل
الحق والحقيقة ومقارعة الفساد والإفساد الأموي.
كان برير شيخاً، تابعياً، ناسكاً، قارئا للقرآن ومن شيوخ القراء
في جامع الكوفة وكان من خلص أصحاب الإمام أمير المؤمنين(عليه
السلام) ومن أشراف الكوفة من الهمدانيين وله في الهمدانيين شرف
وقدر، وصفته المصادر بأنه من الزهاد الذين (يصومون النهار ويقومون
الليل) كما عرف بـ(أقرأ أهل زمانه) و(سيد القرّاء).
صحب برير الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) ورافقه في جميع
مشاهده ثم صحب بعده الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام) ولما سمع
بخروج الإمام الحسين(عليه السلام) من مكة إلى الكوفة خرج برير من
الكوفة حتى التحق بالإمام الحسين في بعض المنازل التي نزلها في
مسيره.
عندما نزل الإمام الحسين كربلاء في اليوم الثاني من محرم الحرام
جمع أهل بيته وأصحابه وخطب فيهم وأذن لهم بالإنصراف فتكلم الإنصار
وأكدوا على إصرارهم في البقاء مع سيدهم والموت دونه فكان مما قاله
برير في ذلك اليوم (يا ابن رسول الله لقد منّ الله بك علينا أن
نقاتل بين يديك تقطع فيك أعضاؤنا ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة).
لقد كان برير من خلص أصحاب الإمام الحسين(عليه السلام) وكان
مستميتاً في الدفاع عنه وحريصاً على الذود عنه فكانت له محاولة
لصرف عمر بن سعد عن ولائه للسلطة الأموية وتركه قتال الحسين ولكن
عبثاً فإن ابن سعد ممن غرتهم الحياة الدنيا وممن باعوا دينهم
بدنياهم.
جاء برير إلى الإمام الحسين وقال: (يا ابن رسول الله ائذن لي أن
آتي هذا الفاسق عمر بن سعد فأعظه لعله يتعظ ويرتدع عما هو عليه)
فقال الحسين: (ذاك إليك يا برير) فذهب إليه حتى دخل على خيمته فجلس
ولم يسلم فغضب عمر وقال:
(يا أخا همدان ما منعك من السلام عليَّ ألست مسلماً أعرف الله
ورسوله وأشهد بشهادة الحق)؟
فقال برير: (لو كنت عرفت الله كما تقول لما خرجت إلى عترة رسول
الله تريد قتلهم وبعد فهذا الفرات يلوح بصفائه ويزلج كأنه بطون
الحيات تشرب منه كلاب السواد وخنازيرها) فأطرق عمر بن سعد ساعة إلى
الأرض ثم رفع رأسه وقال:
(إني والله أعلم يا برير علماً يقيناً أن كل من قاتلهم وغصبهم
حقوقهم في النار لا محالة ولكن ويحك يا برير! أتشير علي أن أترك
ولاية الري فتصير لغيري؟ ما أجد نفسي تجيبني إلى ذلك أبداً).
لقد وردت هذه الرواية في العديد من المصادر بألفاظ مختلفة
ومضمون واحد وهي تدل دلالة واضحة على الأهداف السامية التي كان
يحملها برير وقاتل من أجلها والأهداف الدنيئة التي جاء من أجلها
عمر بن سعد لقتال الإمام الحسين فابن سعد وأصحابه ركنوا إلى الذين
ظلموا فنالوا خزي الدنيا وباؤوا بعذاب الخلد وبقي برير وأصحابه
الشهداء على مرور الأجيال والأحقاب مناراً يستضاء بهم ونالوا
الدرجات العليا في الجنان.
كان لبرير خطبة يوم عاشوراء كان فيها حريصاً على أن لا يسفك دم
ابن بنت رسول الله. حيث استأذن الحسين في أن يكلم القوم فأذن له
فوقف قريباً من القوم ونادى: (يا معشر الناس إن الله بعث محمداً
بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله وسراجاً منيراً وهذا ماء الفرات
تقع فيه خنازير السواد وكلابه وقد حيل بينه وبين ابن بنت رسول الله
أفجزاء محمد هذا؟)
لكن تلك النفوس المتعطشة للدماء استحوذ عليها الشيطان فأبت أن
تستمع لنصائح برير فقال بعضهم:
(يا برير قد أكثرت الكلام فاكفف عنا فوالله ليعطش الحسين كما
عطش من كان قبله)!!
لم يستسلم برير أمام هذا الجواب الخاذل أراد برير أن يوقظ
ضمائرهم الميتة، ويزيل الغشاوة عن قلوبهم. أراد أن يقول لهم هذا
الحسين ابن بنت رسول الله مع أهل بيته فهل تريدون حقاً قتلهم فصاح
فيهم:
(يا قوم إن ثقل محمد قد أصبح بين أظهركم وهؤلاء ذريته وعترته
وبناته وحرمه فهاتوا ما عندكم وما الذي تريدون أن تصنعوه بهم)؟
فقالوا: (نريد أن نمكن منهم الأمير عبيد الله بن زياد فيرى فيهم
رأيه)
تباً لهم ما أسخفهم، وما أغواهم، وما أضلهم.
سألهم مستنكراً جوابهم الضال: (أفلا تقبلون منهم أن يرجعوا إلى
المكان الذي جاؤا منه؟ ويلكم يا أهل الكوفة أنسيتم كتبكم وعهودكم
التي أعطيتموها وأشهدتم الله عليها ويلكم أدعوتم أهل بيت نبيكم
وزعمتم أنكم تقتلون أنفسكم دونهم حتى إذا أتوكم أسلمتموهم إلى ابن
زياد وحلأتموهم عن ماء الفرات بئسما خلفتم نبيكم في ذريته مالكم لا
سقاكم الله يوم القيامة فبئس القوم أنتم).
ولم ينفع كل هذا التذكير والنصح والإنذار لعاقبة ما قد جاؤا
لأجله فقال له نفر منهم: (يا هذا ما ندري ما تقول)!!
ولما يئس برير منهم رفع يديه إلى السماء وقال:
(الحمد لله الذي زادني فيكم بصيرة اللهم إني أبرأ إليك من فعال
هؤلاء القوم اللهم ألق بأسهم بينهم حتى يلقوك وأنت عليهم غضبان).
وكأن هذا الدعاء قد أوغر قلوبهم وهيج الشياطين في دواخلهم
فجعلوا يرمونه بالسهام فتراجع.
لقد أدى برير رسالته ونصحه على أكمل وجه لو كان يفيد النصح
والإرشاد لقد جعل الشيطان في آذانهم وقراً فلم يسمعوا كلام الحق
ولم يعوه. وأعجب من ذلك جرأتهم وتجاسرهم بجوابهم لبرير بنزول أبيّ
الضيم وسيد الأحرار الإمام الحسين(عليه السلام) على حكم ابن
الزانية عبيد الله بن مرجانة أو القتال!! أترى برير وأصحابه أبطال
المسلمين وفرسان الوغى ينزلون على حكم هذا الفاسق الفاجر فضلاً عن
سيد الإباء أبي عبد الله الحسين(عليه السلام) وهو القائل كلمته
الخالدة (ألا إن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة
والذلة وهيهات منا الذلة)؟!!
إنه ابن الذي قال (فوالذي نفس علي بن أبي طالب بيده لأنا آنس
بالموت من الطفل بمحالب أمه) سيد الشجعان وفارس الإسلام الأول
وبرير أحد تلاميذ تلك المدرسة العلوية التي خرجت الأبطال والشجعان
الذين يحسب لهم ألف حساب. أتراه يرهب الموت الذي يهدده به هؤلاء
الفسقة الجبناء؟
فلنستمع إلى المصادر عن كيفية قتال برير واستشهاده (رضوان الله
عليه)، ناداه أحد أفراد الجيش الأموي المرتزقة ويدعى (يزيد بن
معقل): (يا برير كيف ترى صنع الله بك)؟ فقال له برير بلهجة الواثق
من نفسه المطمئن من سلامة موقفه: (صنع الله بي خيراً وصنع بك شراً)
فقال يزيد وقد أغرته كثرة الهمج الرعاع في جيش ابن الطلقاء وقلة
أصحاب البصيرة من أنصار الحسين وقد نسي قوله تعالى: (وأكثرهم للحق
كارهون) وقوله: (وقليل من عبادي الشكور):
(كذبت وقبل اليوم ما كنت كذاباً!! أتذكر يوم كنت أماشيك في (بني
لوذان) وأنت تقول كان معاوية ضالاً وإن إمام الهدى علي بن أبي
طالب) الله أكبر..، إن هذا المغرور يعترف بإن بريراً لم يكن من
الكذابين بل لم يكذب في حياته وهو يكذِّبه في أصدق المواقف وأوثق
الأقوال!! وهل يشك أحد بأفضلية علي(عليه السلام) على كل الصحابة
الكبار فضلاً عن معاوية بن أبي سفيان الطليق بن الطليق رأس الكفر
والنفاق؟
هكذا يشتري ابن زياد ويزيد من هؤلاء دينهم وذممهم. (أجل كان هذا
رأيي) قالها برير وهو متمسك به. يرتفع صوت يزيد الذي مات ضميره
وداس على حيائه ليشهد له الجيش بتزلفه وتملقه لبني أمية فيقول:
(وأنا أشهد أنك من الضالين) فدعاه برير إلى المباهلة فرفعا أيديهما
إلى الله سبحانه يدعوانه أن يلعن الكاذب ويقتله..، ولا أدري كيف
يرفع يزيد يديه إلى الله وقد أتى لحرب الله ورسوله بمجيئه إلى حرب
الحسين؟ ألم يسمع قول رسول الله وهو في الكوفة معقل الشيعة (حسين
مني وأنا من حسين) (أحب الله من أحب حسينا)؟ أجل لقد سمعها ولكن
أموال بني أمية قد أعمت عينيه. وقد عجل الله بروح هذا الكذاب
الفاسق إلى النار على يد برير فقد تضاربا فضربه برير على رأسه ضربة
قدت المغفر والدماغ فخر كأنما هوى من شاهق وسيف برير ثابت في رأسه.
الله أكبر لقد عُرف الآن من هو الصادق ومن هو الكاذب فهل اعتبر
الجيش الأموي من هذه المباهلة والمبارزة؟ كلا بل ازدادوا طغياناً
وكفراً، وتستمر صولات برير فبينما برير يريد أن يخرج سيفه من رأس
يزيد إذ حمل عليه منافق آخر هو (رضى بن منقذ العبدي) واعتنق بريراً
واعتركا فصرعه برير وجلس على صدره وأحب أن أذكر القارئ بأن بريراً
قد جاوز التسعين من عمره. فأيّ بطولة حملها هذا المجاهد المغوار؟
وأيّ صلابة؟ وأيّ إيمان؟ في موقفه العظيم هذا.
لقد تجسد في برير قول أمير المؤمنين(عليه السلام): (من أحدَّ
سنان الغضب لله كان قوياً على قتل أشداء الباطل) أجل لقد غضب برير
لله فأعطاه الله تلك القوة التي لا يمكن أن تكون لشخص في مثل سنه.
لقد صرع برير رضى مما جعل رضى يستغيث بأصحابه ويستنجدهم لكي يخلصوه
من هذا الأسد الغاضب الرابض على صدره فأتاه أحد أصحابه وهو (كعب بن
جابر بن عمرو الأزدي) ليخلصه من برير كان الجميع يعرف من هو برير
(سيد القراء) لذا صاح أحد أفراد جيش ابن سعد وهو (عفيف بن زهير بن
أبي الأخنس) بجابر: (هذا برير بن خضير القارئ الذي يقرؤنا القرآن
في جامع الكوفة) ولا أدري لماذا لم ينصح عفيف نفسه بمقالته تلك وهو
ينظر إلى تلك الصفوة الخيرة والنخبة الواعية وبرير أحدهم الذين
نصروا الحسين ليكون معهم بدلاً من أن يقاتلهم؟ وهل كان برير أفضل
من الحسين(عليه السلام) وقد جاء هو لقتال سيد شباب أهل الجنة ليس
هناك تفسير لمقولته هذه سوى النفاق ولأن النفاق قد استشرى في ذلك
الجيش فلم يعد أحدهم يأبه بما يفعل وكأنهم قد سلخت منهم آدميتهم
فصاروا كالوحوش ففعلوا في كربلاء ما يندى له جبين الإنسانية.
لم يلتفت جابر لقول عفيف وطعن بريراً في ظهره فلما أحس برير
بحرارة الطعنة برك على وجه رضى وعض وجهه وقطع طرف أنفه فألقى كعب
برير برمحه عنه وضربه بسيفه فقتله (رضوان الله عليه) لقد قاتل برير
دون الحسين إلى آخر رمق فكان حقيقاً مصداق هذه الآية (من المؤمنين
رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر
وما بدلوا تبديلا). |