شبكة النبأ: في مذكراته؛ يقول
الرئيس الجزائري الأسبق "أحمد بن بلا" أن "الثورة بمنزلة العملية
الجراحية، إنما الحاجة الى الاقتصاد في الدماء". بمعنى أن أي تحوّل
سياسي واجتماعي في أي بلد بالعالم، هو بالحقيقة الانتقال من حالٍ
الى آخر، وعلى الأغلب يكون من سيئ الى أحسن، ومن الديكتاتورية –
مثلاً- الى الديمقراطية، وهكذا.. وهذا يشبه الى حدٍ بعيد، العملية
الجراحية التي يخضع لها المريض لاستئصال ورم خبيث، أو غدة ملتهبة
وسقيمة، وبالنتيجة؛ هنالك الألم والنزيف ، والمضاعفات الصحية
والبدنية، وتحمل آثار العملية الجراحية لفترة من الزمن، حتى يبرأ
موقع المبضع، وغير ذلك من مراحل الشفاء.
في مقابل هذا النوع من التحوّل، من حالٍ الى آخر، أمامنا تجربة
تحوّل أخرى، ليس في حياة شعب واحد، كما عبر عن ذلك، أحد قادة
الثورة الجزائرية، وهو يتحدث عن تجربة شعب واحد، ذو خصوصيات وظروف
محددة، و بلد واحد، ذو حدود جغرافية خاصة، إنما نحن أمام تجربة
تفيد شعوب ما دون الحدود والخصوصيات، وهي تجربة النهضة الحسينية في
أرض كربلاء سنة (61) للهجرة. هذه الثورة والنهضة، صحيح أنها اصطبغت
بالدم، واشترطت التضحيات والوقوف أمام هطول السهام وضرب السيوف، في
مواجهة غير متكافئة مع الجيش الأموي آنذاك. وصحيح أيضاً أن مسيرة
هذه النهضة تتطلب نفس التضحيات وتوطين الأنفس على المواجهة الشجاعة
بإرادة حديدية لا تلين، نظراً الى أن جبهة الباطل تمتلك – على
الأغلب- الامكانات والقدرات العسكرية والمالية والمخابراتية. إلا
ان هذه المسيرة الثورية – التغييرية، تقدم لمن يواكبها اكثر مما
تأخذ من التضحيات والدماء التي لابد منها لتحقيق التغيير أو
الإصلاح. ألم يضمن لنا الإمام الحسين، عليه السلام، قيم الدين
وأحكامه ونظامه، بل ومستقبله بالنهضة المدوية التي قام بها برفضه
بيعة يزيد كخليفة للمسلمين؟
هذا النوع من الإبداع في التضحية والموت من أجل العقيدة
والمبدأ، - كما عبّر عن ذلك الشاعر الجواهري في عينيته المعروفة-
خلّف لنا، بل للأجيال و الانسانية، ثروة هائلة من القيم الانسانية
والاخلاقية، والقواعد التي نبني على أساسها حاضرنا ومستقبلنا، فقيم
مثل؛ التضحية والوفاء والصدق والتحدي وغيرها، ليست بسيطة وسهلة
المنال عندما تكون في أسمى درجاتها وأرقى تطبيقاتها. والثمن الغالي
لها يكمن في قوة تأثيرها على الواقع، حتى وإن كان أقوى من الحديد،
وأصمّ من الصخر.. وربما نلاحظ الحساسية والهاجس الذي يبديه أو
يخفيه الضعفاء أمام المسيرة الحسينية، من حكام وجماعات وحتى أفراد،
يكمن في هذه النقطة بالذات.. وهي الثروة الهائلة التي لا تقدر بثمن
بتاتاً، فهي ليست في حدود الارقام، حتى يتمكنوا من التنافس عليها
او ايجاد رديف أو يفكروا في تحجيمها.. إنما شيء كبير وعظيم ذو بعد
معنوي لا يفهموا كنهه، فهم في حيرة من أمرهم.. كيف يمكن لذكرى
حادثة، أن تترك أثرها في انسان، وتحوله بدرجة (180)؟ وكيف يمكنها
ان تحرك شعوب بكاملها لتنتفض على واقعها السيئ والمريض، فتصلحه أو
تستأصله بشكل نهائي؟ بينما نلاحظ أن هنالك الملايين ، بل المليارات
تصرف اليوم لتغيير نظام حكم واحد، وهو لا يمتلك القدرات المالية
الكبيرة، إلا ان تلك الاموال تذهب أدراج الرياح، ولا يتحقق المطلوب
، وهو تغيير الواقع السياسي او الاجتماعي في ذلك البلد.
من أبرز الامثلة على عظمة الثروة في "الثورة الحسينية"، ما
نشهده لدى الشعب العراقي.. فقد بذل الحكام على مر السنين، لاسيما
خلال القرن العشرين، الكثير الكثير من الاموال والامكانات، و جربوا
كل الدسائس والمؤامرات الطائفية والسياسية، ليصنعوا من المجتمع
العراقي شكلاً آخراً، غير الذي يستقي منه جذوره التي تعود الى
الثورات والانتفاضات الشيعية في صدر التاريخ الاسلامي، فكانت
النتيجة التي نراها اليوم، وهي السير حفاة لزيارة الامام الحسين،
عليه السلام، يوم الأربعين، كما فعل الصحابي الجليل جابر بن عبد
الله الانصاري – رضوان الله عليه- قبل أكثر من ثلاثة عشر قرناً من
الزمن. وكذلك إقامة مجالس العزاء وسائر الشعائر الحسينية، التي
تقام مع غير قليل من التكاليف والجهود الكبيرة خلال شهري محرم
وصفر. فعندما يسأل السائل إي انسان يؤدي هذه الشعائر؛ عن السبب في
تجشمه العناء وبذل الاموال والجهد الكبير، والتخلّي عن اهتماماته
ومصالحه من اجل إحياء هذه المناسبة، سيأتي الجواب: انه "للحسين".
الاجابة تختزل منظومة فكرية وثقافية كبيرة، وإلا فالجميع لا يجهل
أن الامام، عليه السلام، ليس بحاجة الى موائد الطعام والشراب
والحشود المليونية والضرب على الصدور والرؤوس والبكاء المرّ. إنما
الناس هم الذين يستثمرون هذه الشعائر كل عام، بل ويجتهدون في صحة
وقوة الاستثمار حتى يخرجوا بنتيجة أكبر وأرقى في التغيير الذاتي
والمعنوي، التي تكون مقدمة للتغيير على الصعيد الخارجي ، وعندما
يكون التغيير الداخلي جذرياً وعميقاً وقوياً، فان التغيير الخارجي
يكون تبعاً له قوياً وشاملاً لا مجال فيه للتنازل والمهادنة.
من هنا؛ فان الشعب الذي يمتلك هكذا ثروة وقدرة على استثمارها
بالشكل الصحيح والمثمر، فانه لن ينثني مهما كانت الاسباب والعوامل
والظروف. فكما ان جبهة الامام الحسين، عليه السلام، التي كانت تشكل
من الناحية المادية (72) مقاتلاً أو اكثر – حسب الروايات- ، صمدت
وكسّرت السيوف بالدماء ، وانتصرت معنوياً وحضارياً على جبهة
التخلّف والجاهلية، فان التجربة قابلة للتكرار كل يوم وكل زمان وكل
مكان. |