شبكة النبأ: وعندما أحتز رأسه
الطاهر صرخ القاتل في حالة من الجنون (لقد قتلت الملك المحجبا..
قتلت خير الناس أما وأبا) ويقصد بالملك الملاك حيث تلفظ بفتح اللام
وليس بكسرها.
لماذا قتل الشمر الحسين (ع)؟
انه لا يتحمل ان يرى كل هذا الطهر على الارض..
في فنون التعبير المختلفة (قصة – رواية – قصيدة – لوحة) كثيرا
ما استلهم المبدعون العراقيون والعرب، مفردات من واقعة الطف
التاريخية، واصبحت بعد الاشتغال الفني عليها وحسب ماتتوفر لديهم من
امكانيات التحويل، ذات دلالات وابعاد اخرى، تاخذ طابعا محملا
بالرموز.
بالاضافة الى الماء، والقيود، والسيوف، والدماء، والصحراء،
وغيرها من تلوينات واقعة الطف، اخذ الراس المقطوع رمزية مكثفة في
التعبير الفني، ففي الشعر هناك ديوان (الراس المقطوع) للشاعر
اللبناني انسي الحاج، وقصة الرأس المقطوع للمغربي محمد برادة،
وقصيدة (مرآة الرأس ) للشاعر السوري ادونيس، وغيرها من نتاجات
تعبيرية استلهمت الراس المقطوع في مضامينها..
نستطيع تحديد قواعد وأسس مدرسة الفنون التّشكيليّة
العاشورائيّة, كما يذكر الفنان التشكيلي اللبناني (حسين أحمد سليم)
في مقاله الموسوم (الفنّ التّشكيلي العاشورائي) التي نستكمل
إستنباط عناصرها التّشكيليّة ونطمع لترسيخها وتثبيتها كمدرسة
فنّيّة تشكيليّة عالميّة, بمجموعة من الرّموز العاشورائيّة, والتي
نُلخّصها: بشكل السّيف الذي يقطر دماً أحمراً قانياً, والذي يرمز
تعبيريّا إلى إستشهاد الإمام الحسين فوق أرض كربلاء في العراق,
وبالرّأس المقطوع عن الجسد والمرفوع على الرّمح, تعبيرا رمزيّاً
لرأس الإمام الحسين الذي رُفع على الرّمح والسّير به إلى الشّام,
والأكفّ المقطوعة وقربة الماء الممزّقة والتي تُعبّر عن شخصيّة
العبّاس الذي لُقّب بساقي العطاشى, لتتماذج هذه الرّموز مع العناصر
الفنّيّة التّشكيليّة العاشورائيّة, كالصّور التّعبيريّة للإمام
الحسين والعبّاس وعليّ الأكبر, وصور السّبايا: زينب وزوجات الإمام
الحسين وزوجات أهل بيته وأصحابه مع الأطفال والجميع مكبّلين
بالأصفاد والحديد ومُتشحات بالسّواد, وكذلك صورة الحصان المُدمّى
والمثقل بالجراحات, والمُأطيء الرّأس حزنا وألماً على فقدان فارسه
الإمام الحسين, إضافة للحروفيّات الكتابيّة التي تتناغم وتتكامل مع
تشكيلات الرّسومات الفنّيّة, لتؤلّف العمل الفنّي الإبداعي
العاشورائي, ناهيك عن منظومة أطياف الألوان التي تتميّز بها اللوحة
العاشورائيّة, وخاصّة اللونين الأحمر والأسود, بحيث يرمز اللون
الأحمر إلى لون الدّمّ ويُعبّر عن القتل والشّهادة, فيما يُعبّر
اللون الأسود عن الحزن والحداد والفاجعة والمأساة في كربلاء, إضافة
لرمزيّته للظّلم بحقّ النّاس...
كيف استلهم الفن التشكيلي رمزية الراس المقطوع في عدد من
اللتجارب؟
الفنان العراقي عبدالرزاق الياسر له سباعية ملحمية ارخ فيها
للعراق المعاصر، عبر سبع لوحات قدمت قراءات متنوعة لهذا الواقع..
احدى اللوحات حملت اسم (رأس يبحث عن كتف) يبدو في أعلاها صف من
الرؤوس(26 رأساً) جانبيّاً متوجّهاً إلى اليمين، وأوّلها من اليمين
هو قائدها الذي يتراءى كاملاً، وقد رفع يده اليسرى آمراً
بالمسير…يلي الصف هذا من اليسار صف آخر، وهو من المحاربين (حملة
الدروع) يمثلون التوحّد والقوّة وهم يمضون قدماَ إلى الأمام،
بالعكس من الوهن والتخاذل اللذين يمثلهما الرأس المقطوع الذي يلقي
بظلّه على العراق. وتحتهم تبدو ثلاث عشرة امرأة ينتحبن، يعولنّ،
يشقّنّ صدورهنّ ويخرمشن وجوههنّ في أوضاع هستيريّة تراجيديّة
رهيبة، وتتراءى أصابعهنّ المحروقة، وكذلك المزيد من تواريخ البلايا
والرزايا المنقوشة على ملابسهنّ. وفي مركز اللوحة ثمة 12 رجلاً،
يمثلون الأئمّة الإثني عشر. ستة ظاهرون للعيان والستة الآخرون
لامرئيّون في الطرف الآخر المتخيّل، وجوههم جانبية ذات ملامح
آشوريّة و أقدامهم سومريّة الشكل، وأيديهم محروقة الأصابع. يطغى
اللون الأخضر على أزيائهم المنقوشة بالكتابات. متسلّحون بالسيوف
والخناجر، يمشون حفاة على الأسلاك الشائكة، وهم يشيّعون رأسيّ
العراق وسرجون الأكدي الملفوفين بالعلم العراقي، والمسجيين على
(الإيزار) الرامز للتقشف في منام فقراء جنوبيّ العراق بالأخص، وتحت
الإيزار سعف النخيل المترابط رمزيّاً مع الضحيّتين.
اللوحة الثانية حملت اسم (عيشة الخوف) واشتملت على عشر مجموعات،
وكلّ مجموعة تُعَدّ لوحة بحدّ ذاتها؛ إذا ما أستلّت…وتنتظم جميعها
في جوّ الخوف والقلق…
يتراءى في وسط (مركز) اللوحة من جهتها العليا إثنا عشر فارساً
يرمزون إلى ملحمة (الطّف) وشهدائها مع الإمام الحسين(ع) وكلّ واحد
منهم يحمل رأسه المقطوع ويلوّح به، وطبعاً يمثلون أيضاً حاضر
العراق. وكذلك تتوسّط اللوحة العشرات من المسلّحين بالسيوف والرماح
الحاملة للرؤوس البشريّة، وتدلّ أزياؤهم الحديثة على انّهم مهرّجو
سياسة معاصرون..وتعلوهم فوانيس(12فانوساً) يتحلّق نورها رأس الإمام
الحسين(ع) المغطى بسعفات نخلة منحنية و حادبة عليه.
وفي وسط اللوحة أيضاً وتحت المشهد السابق وحتى قاعدة اللوحة نرى
إمرأة شابة تنبيء حركة رأسها بالفزع والقلق على طفلها الذي أخرجته
من المهد الفولكلوري، وهي ترقّصه، ويبدو معصمه مشدوداً بخرقة خضراء
كتعويذة حامية له من التفجيرات. ويوجد بالقرب من المهد والمرأة ما
يدلّ على العيش البسيط: فانوس، ساعة منضدية، مذياع قديم و صينيّة
عليها قوري وشكردان واستكان شاي حتى النصف، وثمّة في الصينيّة
أيضاً رأس امرأة مقطوع، وهو رأسها الذي تتخيّله مقطوعاً في أيّة
لحظة؛ إثر عمليّة إرهابيّة عشوائيّة.
وعلى يمين هذه المرأة مشهد من مدرسة، حيث يتخيّل التلاميذ
رؤوسهم الطائرة! وثمّة أيضاً طفلة تلعب بحماسة وبراءة غير فاطنة
إلى مصيرها الفاجع المحتمل، وتمدّ يدها إلى نخلة، لكنّ سلكاً
شائكاً يقطع هذا التواصل.
الفنان الاخر هو الرسام العراقي علي طالب، والذي يرمز لديه
(الرأس المقطوع) الى محنة الإنسان.
والراس المقطوع هو الثيمة المهيمنة على تجربته والذي يشكل
الهيكل البنائي في أعماله، والذي أتخذه الرسام مرتكزا في متحفه
الشخصي؛ فقرابة ربع قرن، كان يلف هذا الرأسَ لغزٌ مثيرٌ يبقيه
محفوفا بأسراره، وأحزانه، وخوالجه، ومآسيه، كان ذلك الرأس يبدو
شخصيةً ذاهلةً تظهر والظلام يلفها من كل زاوية، لكنها رغم ذلك،
تؤكّد وجودها برد فعل ليس أقله عدم الاكتراث الذي تبديه تجاه
الآخر(المتلقي)؛ ومثلما كان جايكومتي يعتقد (أن الوجه الإنساني
غابة لم تكتشف بعد) فأن علي طالب يبدو مؤمنا بذلك تماما، وهو الذي
انفق أكثر من ربع قرن يستقرئ الوجه الإنساني ويوظفه، بل ويختزل
الواقع، ومحنة الإنسان فيه، بكل تعقيداتها إلى علامة واحدة هي ذلك
الوجه.
اما الفنان عاصم عبد الامير كما يرى الدكتور كاظم نوير فانه
يوظف شكل الرأس المقطوع بوصفه دلالة درامية على ما تعانيه تلك
البيئة/ المجتمع من هموم الحرب فضلاً عن كونه دلالة تاريخيه /دينية
ارتبط بوضوح في الكثير من رسومات وأثار الفن العراقي الحديث، كونه
جزءاً من ذاكرة شعبية ودينية لهذا البلد، فرسامين مثل: (كاظم حيدر،
ضياء العزاوي، علي طالب، إسماعيل فتاح الترك، علاء بشير، هاشم حنون
ماهود احمد فاخر محمد...) كانوا أن وظفوا هذا الشكل (الرأس
المقطوع) في لوحاتهم، مع علمنا إن هذا الشكل رافق تجارب عاصم عبد
الأمير السابقة، وهو هنا يحاول رسمه في سياق مختلف، فهو مرة دلالة
قلقه واغترابه، ومرة دلالة الحرب، وأخرى للموت، ومرة إشارة للإنسان
العراقي ومرة للاغتراب الذي يبرر ابتعاد أشكال الأطفال إلى أن
تتموضع في مساحات أخرى بعيدة، وانه يريدها أن تحلم بعيداً عن الموت
والحروب والمستقبل المخيف الذي ينتظرهم.
وشكل الرأس المقطوع، المشوه / المخيف / المأساوي تلفه ويستقر في
الغالب على ارض ترابية جرداء، ويقابله من الجهة الأخرى البعيدة
أجواء الطفولة والحلم بعيدة تنساب بخفة مع الامتداد الفضائي /
السماوي مع الأرض، لكن ما يجعل فضاء العمل وسماويته تتوحد مع مأساة
الإنسان وأمله وأحلامه أن فضاءاته تميل إلى الغروب والظلمة وكأنه
يشير إلى مجهولية المستقبل ومجهولية تحقيق هذا الحلم/ الأماني (
للفنان/كائناته/ مجتمعه)، ويفعل شكل الدائرة فضاء اللوحة فيرسمه
إشارة للقمر :(الدائرة البيضاء، الدائرة البرتقالية، الدائرة
الحمراء) تقف قريبة من نهاية فضاء اللوحة، تناظرها من الجانب الأخر
أشكال الأشجار الطائرة بعيداً عن الأطفال ومكان اللعب / الحلم، فهي
بعيده في مكان آخر/غريب/غير مستمكن، إنها قريبة من ذلك الغموض الذي
يلف السماء بأنجمه وطيوره.
لايقتصر تناول الراس المقطوع على ما ذكرنا من اسماء بل انه
يتعدى ذلك الى الكثيرين في مختلف الدول العربية والاسلامية. |