لاشك أن الانتصار للحق هو انتصار للمبادئ والقيم الحقيقية والتي
يعتقد بها كل صاحب رسالة، وهو انتصار للرسالة السماوية التي جاءت
من أجل هذه القيم وهذه المبادئ والتي حاول أعداء الإسلام طمسها
وتغييبها وتحريفها وجعلها تتناسب مع أهوائهم ورغباتهم وشهواتهم،
فقد حاولوا أن يفرغوها من كل قيمة من شأنها أن تعزز مكانة الإنسان
وتحميه وتحمي حقوقه الطبيعية وتميزه على سائر المخلوقات.
وهو انتصار للفضائل النبيلة والمثل العليا التي فُطر الإنسان
عليها فهي من الأمور الطبيعية في حياة البشر والتي ينبغي على
الإنسان المؤمن أن يجعلها نصب عينه، في أن يكون واعياً يقضاً ذو
إرادة وعزيمة وقوة راسخة، يدافع عن المبادئ والقيم التي سعى من
أجلها رسولنا العظيم صلى الله عليه وآله وسلم وضحى من أجلها وأهل
بيته وصحابته الأجلاء، وسيرة الأئمة حافلة بالجهاد والتضحية وكل
إمام من الأئمة كان يمارس دوره الذي يتطلب منه ممارسته بحسب الظرف
والمكان والزمان، فقد انتصروا للرسالة السماوية ودافعوا عن الحق
وأعطوا الصورة الواضحة والنقية للإسلام، كما جاء على لسان القرآن
الحكيم { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ
الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْمُشْرِكُونَ 33 سورة التوبة} والذي كان هو انتصاراً لقيم السماء
ليصلح بها كل معوج ويعالج الفساد المستشري في الأمة، ويوقظ الضمير
الإنساني المغيب طوال التاريخ وإلى يومنا هذا هناك تعتيم على ما
يجري في العالم وتزييف للحقائق.
فبعد وفاة رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله مرت الأمة
الإسلامية بتحديات كبيرة ومنعطفات خطيرة، تتابعت وتتالت أدخلت
الأمة في حروب وصراعات وظلم وانتهاكات، فمنذُ أن غصبت الخلافة
وأقصي الإمام الحق المُنّصب من الله سبحانه وتعالى ورضي المسلمون
مع الأسف بذاك الانقلاب بعد أن سلّموا على صاحب الحق بإمرة
المؤمنين في آخر حجة لرسول الله صلى الله عليه وآله. وغيبت الحقيقة
انقسم المسلمون وبدأت الخلافات تعصف بالأمة، ومع ما حصل من تجاوز
للخليفة الشرعي وتغييب لدوره في الأمة ألا أنه كان حاضراً في
الأمة، ينتصر بعدله للمظلوم من ظالمه ويأخذ للضعيف حقه ممن تعدى
على حقوقه، كانت الرسالة التي يحملها للأمة واضحة وجليه فلم يحمل
السيف في وجه ظالميه ومناوئيه ومغتصبي حقه، فلم يكن للانتقام أو
التعدي على حقوق معانديه ومناوئيه من مكان في أدبيات التعامل
والمطالبة، وتلاحقت الأحداث وعلي يلملم جراحاته، وبعد أن ضاق صدر
الأمة بالانحراف جاءت تطلب المنقذ الذي هجرته أن يحافظ على ما تبقى
من نظارة الإسلام وتنشد العدل الذي غاب عنها طويلاً.
جاءت إلى علي عليه السلام وكأنها أحسّت بمظلوميته ورفض بإصرار
لكنها أبت إلاّ أن تسلمه مقاليدها. اسمعه ماذا قال؟.. قال عليه
السلام: والله إن خلافتكم هذه لا تساوي شسع نعلي إلاّ أن أقيم حقاً
أو أدفع باطلاً. حتى قبل بالأمر وعادة له الخلافة ومسك بزمام
أمورها وبدأ يعالج ما حرف من شرع الله وما تلاعب به من أحكام دين
الله ورفض كل التجاوزات التي حصلت والتلاعب في ثروات الأمة من
تقسيم غير عادل ونهب وتمييز، حتى شُنت عليه الحروب ولكنه صمد
وأنتصر للحق وأشعل شعلة الحقيقة التي حاول إطفائها المنافقون..
وفي واقعة كربلاء صرح الإمام الحسين عليه السلام بأهداف ثورته
المباركة لجماهير الأمة ولتوضيح منطلقاته وأهدافه من قيامه بالثورة
والنهوض في وجه الظلم وهي رسالة للذين كانوا يحاولون خذلانه وتثبيط
عزيمته بكل الأساليب والإغراءات والتي باءت كلها بالفشل فلم تثنيه
عن القيام بثورته المباركة مخاطباً أياهم (إني لم اخرج أشرا ولا
بطرا ولا ظالما ولا مفسدا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في امة جدي
رسول اللّه(ص). أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة
جدي وأبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فاللّه أولى
بالحق، ومن رد علي اصبر حتى يقضي اللّه بيني وبين القوم بالحق،
وهو خير الحاكمين).
كانت هذه هي الدعامة الرئيسية للنهوض بالأمة وإخراجها من مستنقع
الظلم، كان الحق نصب عينه والحقيقة واضحة كوضوح الشمس، هناك خطر
يهدد الأمة وينبغي مقاومته والوقوف أمامه حتى لو تتطلب ذلك الشهادة
في سبيل بقاء الدين كما جاء به النبي الأكرم (ص) وقد بين الشاعر
ذلك في مقولته الخالدة (أن كان دين محمد لا يستقم... ألا بقتلي فيا
سيوف خذيني).
فقد وقف أمام الظلم والجور والفساد الأموي البغيض المستشري في
الأمة، والذي بدأ ينهش في جسد الأمة ويدمر القيم ويعبث في
التشريعات الإلهية بالتحريف تارة وبالأكاذيب والتزييف تارة أخرى،
وبعد أن كثر الإسفاف وتفاقم الباطل في معالجة النصوص ضمن أهواء
وأباطيل حكام بني أمية حتى وصل الأمر إلى انتهاك الحرمات وقتل
النفس المحترمة وتحريف الدين والعبث بالتشريعات السماوية، وسلب
الناس حقوقهم والسكوت على الظلم وتغييب العدالة وانتهاك حرمة
الإسلام وإكراه الناس على البيعة بالتنكيل، حتى وصل الأمر بأتباع
يزيد بن معاوية بأخذ البيعة من الناس بالإكراه وتحت تهديد القتل،
وهكذا كانت أوامر يزيد عندما طلبوا من الإمام الحسين عليه السلام
أن يبايع تحت تهديد السيف أو القتل والتنكيل وأن كان متعلق بأستار
الكعبة، الأمر ما يعتبر تعدي سافر وتجني فاضح على الله وعلى رسوله
الكريم يرفضه الوجدان ولا يقبل به الضمير الإنساني اليقظ، هذا
الأسلوب الرخيص والقدر في طريقة أخذ البيعة من سبط رسول الله (ص)
إنما ينبئ عن حقد دفين ومخطط غاشم للقضاء على الإسلام والقيم
الإلهية، ولكنه يكفيه فخراً هذا الوسام الرباني وهذا الشرف العالي
ما قاله رسول الرحمة في حقه وحق أخيه الحسن (الحسن والحسين سيد
شباب أهل الجنة).
وفي تقديري أن هذا تأكيد من الرسول الأعظم (ص) على الدور
القيادي للإمام الحسين في قيادة الأمة حينما قال {حسين مني وأنا من
حسين} وكقد كان يؤكد ذلك مراراً وفي أكثر من موقف، ما يعني أن
الدور الذي يقوم به الإمام الحسين هو امتداد للرسالة المحمدية وهو
نفس الدور الذي قام به جده رسول الله (ص) أو يقوم به لو كان
حاضراً، ما يفيد ذلك أن تشخيص الإمام الحسين (ع) للقيام بالنهضة
الحسينية هو من تشخيص رسول الله (ص)، فما قام به يزيد وبني أمية ما
هو إلا انحطاط في القيم الدنيئة التي غرسها بني أمية بين أتباعهم
حتى تمكنوا من ممارسة الظلم والجور دون أي رادع يردعهم، ولكن صريح
آيات القرآن تؤكد غير ذلك بقوله تعالى{ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ
نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن
يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ 32 سورة التوبة }..
والإمام الحسين عليه السلام وقف أمام هذا التظليل وهذه الثقافة
الباطلة بحزم وإصرار، فقد رفض الإمام الحسين البيعة ليزيد بقوله {
لا بَيعةَ لِيَزيد، شارب الخُمور، وقاتِل النَّفس المحرَّمة} وهذه
من الأسباب التي لا تخول زيد لأن يكون والياً على الأمة وما ينبئ
عن ما وصلت إليه من التيه والضياع...
قبل واقعة كربلاء تحدث الإمام الحسين عليه السلام طبيعة عن
الفساد والدمار والانحطاط وما سيؤول اليه أمر الأمة، بعد أن شخص
المشكلة الحقيقية في الأمة ووجد نفسه معنياً لمعالجة ما يجري
والوقوف أمام المنكر والتجاوزات والسلب والنهب بحكمة ووعي، كشف
الدور المطلوب منه فو خليفة الله تعالى والإمام المفترض الطاعة
{إنه قد نزل من الأمر ما قد ترون وإن الدنيا تغيّرت وتنكرت وأدبر
معروفُها، ولم يبق منها إلا صبابةٌ كصبابة الإناء وخسيس عيش
كالمرعى الوبيل، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به و إلى الباطل
لايُتناهى عنه}، ورفع الإمام شعار بطلان حكم الخلافة القائم وان
فيه خطرا على الإسلام حيث قال{وعلى الإسلام السلام إذ قد بليت
الأمة براع مثل يزيد} وإعطاء تصور لمشهد ما سيجري عليه وأهل بيته
وأصحابه، وأذن لأصحابه ممن يرغب في الرحيل ولا يرغب في القتال معه
بالانصراف..
فقد رُسم لسيد الشهداء خط الشهادة من قبل السماء من حين ولادته
عندما بكاه جده المصطفى ولما سأل عن ذلك قال الآن جاءني جبرائيل
وأخبرني أن أبني هذا تقتله أمتي، كان رسول ا لله يهيئ أسرته لهذا
الأمر الإلهي، لهذا اختار أمير المؤمنين فاطمة أم البنين حتى تنجب
له ولداً يقف إلى جنب أخيه الحسين يوم عاشوراء وهو أبو الفضل
العباس (عليهم السلام) فأصبحت تضحيته خالدة وجهاده حق مقدس ونضاله
مشروع ضمن القيم الطبيعية وبالشكل الذي أُريد له أن يكون من قبل
السماء، فبقى صوته ما يزال يردد هيهات من الذلة في كل ضمير إنساني
يسمع عن واقعة كربلاء الأليمة، وما تزال دمائه الطاهرة رطبة في
قلوب المؤمنين الذين وجدوا في شهادته المتنفس الحقيقي لحرية البشر
من قيد الاستعمار والظلم والجور، من هنا نجد أن في هذه النهضة
ثوابت تؤكد على ضرورة الوقوف مع الحق والنهوض في وجه الظلم والفساد
والتضحية لبقاء قيم الدين الحنيف ناصعة وتعاليم الإسلام السمحاء
بعيدة عن التحريف والتضليل.
فلا تزال أحداث كربلاء رسالة للضمير الإنساني اليقظ.. ولا تزال
الدماء السائلات رطبة تنبعث منها روائح زكية فكربلاء بقدر ما هي
عَبرةَ فهي عِبرة أيضاً.. من كربلاء نتعلم دروس في التضحية
والفداء.. ونتعرف على الكرامة والإباء ونتعرف على الحقائق المغيبة
طوال التاريخ.. ونستعرض مشاهد البطولة والصمود.. ونستشعر الظلم وما
جرى يوم عاشوراء من ظلم وقتل وسفك للدماء وحرق للخيام وتشريد
للأيتام وسبي النساء.. فقد كان لزينب في مدرسة عاشوراء من الدور
الذي لا يمكن أن تتحمله غيرها من النساء تحملت كل المصائب والألآم
وصبرت حتى خجل الصبر من صبرها وقفت شامخة أمام الظلم لم تنهار ولم
تضعف ولم تتنازل عن حقها، بل كشفت الأقنعة المختبئة وراء الدين
وفضحت يزيد أبن معاوية أمام الملأ.. كان وقوفها أمام يزيد انتصار
للحق وتحدي لغطرسته وكبرياءه.. كانت كلماتها صرخة في وجه الظلم
وتعريه للضمائر المقنعة و كان وقوفها رسالة للعالم كله..
alinalsayegh@hotmail.com |