بعدَ استشهاد الإمام الحسيّن(ع)، أصبح الإمام علي بن
الحسيّن(ع)، إماماً مطلقاً للأمّة الإسلامّية. وأصبح الإمام
السجّاد(ع)، أمَامَ مسؤولياتٍ تاريخيةٍ جسيمةٍ. فمثلما أصبح الرجل
الوحيد، المسؤول عن كلّ النتائج المأساويّة لمعركة الطّف. أصبح
كذلك، المسؤول الوحيد، عن حفظ بيّضة الإسلام، وتوجيه الأمّة نحو
طرق الخيّر والرشاد. والمتصدي لمعالجة مشاكلها العقائديّة
والفقهيّة والفكريّة. إنّها مسؤوليّة تحتاج لهمّة عالية، ورباطة
جأش كبيرة، وإيمان صلب، وشجاعة قويّة.
كلّ التداعيات كانت تشير بوضوح، بأنّ الأمّة التي استنهضها
الإمام الحسين(ع)، لتكون بمستوى النُضج الرّسالي، كما هو مطلوب
منها، لمْ تكنْ كذلك، ولمْ تكنْ أيضاً، مستعدّة لتلبية نداءِ
إمامِها المعصوم. وإنّها آثرت السكون والسكوت والاستكانة والخذلان،
على الثوّرة ونصرة الإمام الثائر، الذي طالب بحقّها، وأراد دفع
الضيّم والظلم عنها. وبعد سماع الأمّة بخبر مقتل الإمام الحسين(ع)،
ومشاهدتها بأم العيّن، سبي عياله واقتيادهم من بلد إلى بلد،
كالأسرى إلى الشام، تحت لهيب الشمس، وحرّ سياط الجلادين. مع ذلك
لمْ يهتزّ لها ضمير، ولمْ تتحرك بها نخوة. ولولا دوّر الأئمة
وثوّرات العلويّين، وحركة التوّابين، لما انكسرت شوّكة الإرهاب
الأمويّ المقيت. وهذا المؤشر يوحي بمدى الإنحراف الخطير، الذي
مُنيَت به الأمّة، وكم ابتعدت عن مبادئ الإسلام، وكم استمرأت حياة
الاستعباد والخنوع والقهر.
فخطط الإمام السجاد(ع) لوضع استراتيجيّته لتحقيق ثلاثة أهداف
اساسيّة، هي:
الهدف الأوّل؛ الحاق هزيمة معنويّة، بكلّ مستويات نظام السلطة
الحاكمة. فاعتمد الإمام السجّاد(ع)، إسلوب مخاطبة الجماهير، كوسيلة
إتّصال مباشرة بهم، للتّعريف بقضيّته وفضح أكاذيب السلطة. فكانت
كلماته(ع) مع النّاس، أثناء مرور قافلة السبايا بهم، وخطبته في
بلاط يزيد، عاملاً أيّقظ مشاعر الجماهير، التي أخذتها الغفلة أو
التّغافل. ونجح(ع) باستثارة الضمائر التي ضللتها الماكنة
الإعلاميّة والدعائيّة للسلطة الأمويّة. فأغلب الذين سمعوا
خطاباته، سواءً كان ذلك في الشام، أو أثناء مرور السبايا بالقرى
والقصبات، أصغوا إليّها، وأعلنوا النّدامة على ماهم فيه من زيغ
وانحراف. وأكثر من ذلك، فقد نجح الإمام(ع) بكسب مشاعر غيّر
المسلمين أيضاً لصالحه.
أمّا الهدف الثاني للإمام علي بن الحسيّن(ع)؛ فكان يتمحوَر
بتعريف الجماهير بإمامته وقيادته الرّسالية. وتعريف الأمّة بأهميّة
تطبيق مفاهيم الإسلام، عملاً وسلوكاً. وكذلك تعريف الجماهير بحقّها
وحريّتها وكرامتها، التي أهدرها الطغاة.
والهدف الثالث؛ الذي سعى الإمام السجّاد(ع) لتحقيقه، تبلّوَر في
شحن الأمّة روحياً. وذلك باتباع فلسفة الدُعاء، كوسيلة لتحقيق مبدأ
عبوديّة الإنسان المطلقة، لله تعالى وحده. والتأكيد على انعتاق ذات
الإنسان، من تأثيرات أيّة قوّة دنيويّة، وتحقيق موضوع ارتباط
الإنسان بخالقه. وهذا المنهج الذي اتّخذ من الدُعاء، وسيلة لتهذيب
النّفس البشريّة، وتأديبها بأدب القرآن، كان بمثابة مدّرسة، أعادت
التّوازن الرّوحي عند الكثير من أبناء المجتمع. بعدما طغت عليهم
روح الأنانيّة وعبادة الذّات، وضعف العلاقة الروحيّة بيّنهم وبيّن
الخالق تعالى. فهذه المدّرسة أعادت بناء الإنسان من الدّاخل، بعدما
سيطرت عليه الحياة الماديّة وبهرجتها.
وعندما بَصَرَتْ الجَماهير، الحقيقة التي تتجلّى بقيادة الإمام
السجاد(ع) ومنهجه. أخذت تميل إليه، وتترك ولاية الظالمين سراً
وجهراً. ولا أدلّ على ذلك، من اكتظاظ الناس عليه، وسعة جماهيريّته.
فأثناء حجه(ع) لبيت الله الحرام، كان ازدحام الناس شديداً على
البيّت الحرام، وأراد(ع) استلام الحجر الأسود، فانفرج الحجيج أمامه
سماطين، إجلالاً واحتراماً لشخصيّته ومكانته. وكان في نفس الساعة،
هشام بن عبد الملك في الحرم المكّي الشريف، يقف عاجزاً عن الوصول
إلى الحجر، لكثرة الزّحام وعدم اكتراث الناس به. مما أثار حفيظته،
وأخذ يتسائل بتهكّم، وعنجهيّة فارغة وخيلاء خاوٍ، متخذاً دور
التصنّع، بعدم معرفة سيّد الساجدين(ع)، فأجابه الفرزدق بقصيدته
العصماء:
هذا الذي تَعْرِفُ البَطحَاءُ وَطأتَهُ...والبيتُ يعرفُهُ
والحِلُ والحَرَمُ
ولمّا ذاع أمر الإمام(ع) بين القاصي والداني، أخذ الناس يسألون
أهل العلم عنه. فكانت إجابة الإمام مالك بن أنس: (سميَ زيّن
العابدين لكثرةِ عبادته). وكانت إجابة الإمام الشافعي: (علي بن
الحسين أفقه أهل المدينة). وقال عمر بن عبد العزيز بحقه: (سراج
الدنيا، وجمال الإسلام، زيّن العابدين). وحتى السلطان الجائر اضطر
أنْ يقول الحقيقة، التي واراها نظام الحكم الأموي لعقود طويلة،
فقال عبد الملك بن مروان مخاطباً الإمام زيّن العابدين(ع): (ولقد
أوتيتَ مِنَ العِلْم والدّينِ والوَرعِ، مالمْ يُؤتِهِ أحدٌ مثلُكَ
إلاّ مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِك).
وإذا كانت تلك فاعلية قيادة الإمام السجّاد(ع) الروحيّة، فإنّ
هناك فاعلية أخرى تركها الإمام(ع) على مسرح حياة الأمّة. هي
حرصه(ع) على ضمان الحياة الكريمة للأمّة، من خلال تحريرها مِنْ
سيّطرة التبعيّة الإقتصاديّة، للإمبراطوريّة الرومانيّة. ففي زمن
عبد الملك بن مروان، ذلك الأموي الحاقد على ذرية محمد(ص) ومن
شايعهم. تعرّضت الدّولة الأمويّة، إلى حصار اقتصاديّ فرضته عليها
الإمبراطوريّة الرومانيّة، للحَدِّ من نفوذها. فاحتار عبد الملك،
وضاقت به الدّنيا، فكان يمشي حائراً، قابضاً على لحيته وهو يقول:
(أحسبُني أشأمُ مولودٍ وُلِدَ في الإسلام). فجمع أهل الرأي
لاستشارتهم لإيجاد مخرج من هذا المأزق، فأشاروا عليه بقولهم: (إنّك
لتعلم الرأي والمخرج من هذا الأمر، فقال: ويحكم مَنْ؟. قالوا:
الباقي من أهل بيت النبي(ص)، قال: صدقتم).
ففزعت السلطة الحاكمة إلى الإمام زيّن العابدين(ع)، لتستعين
بنجدته ونصرته على هذا الخطب. ولو كان في هذا الموقف غير
الإمام(ع)، لثأر لدم أبيه(ع) على الأقل، فيبخل عن إعطاء النّصيحة.
ولكنْ الأخلاق الرّساليّة تأبى ذلك، إضافة إلى أنّ الأمر في تصوّر
المعصوم، يخصّ شأن الأمّة وحياتها ومستقبلها، وهو المسؤول عن
انقاذها مما هي فيه. فالأئمّة(ع) هُمْ ملاذ الأمّة وركنها الأمين
وحصنها المنيع. فاستجاب الإمام علي بن الحسيّن(ع)، لمطلب عبد الملك
بن مروان، وأرسل(ع)، ولده الإمام الباقر(ع)، ممثّلاً عنه يحمل
توجيهاته المباركة، لرأس السلطة الأمويّة. فأشار الإمام(ع) على عبد
الملك بن مروان، بأنْ يجمع من الحُلي الذهبيّة، ويصهرها ويضرب
عليها صورة نَقْدٍ خاصّ بالدّولة، وهذا ما يطلق عليه اليوّم،
بسياسة الإستقلال الإقتصادي. وهذه القضيّة أسّست، لتأريخ العملة
المسّكوكة عند المسلمين. وانتقل الإقتصاد الإسلامي من مرحلة
التّعامل بالعملة الرومانيّة، إلى مرحلة التعامل بالنّقد الإسلامي.
وتحوّل الإقتصاد الإسلامي على يد الإمام السجّاد(ع)، مِنْ إقتصاد
تابع جامد، إلى إقتصاد متطوّر مرن، يعتمد على حركة عملة الدّولة،
وقيمتها الماديّة والمعنويّة. فسلام على الإمام زيّن العابدين(ع)،
يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً، والعاقبة للمتّقين.
* كاتب وباحث عراقي
mjsunbah1@gmail.com |