إن روح الإمام علي (ع) ما زالت تسبح بين جنبيه، وقلب ذاك البطل
الشجاع يربض كالجبل في أعماقه.
لقد رحل ابن رسول الله (ص) وهجر مدينة جده (ص) إنه قادم على أمر
عظيم، لقد أبى البيعة ورفض الخنوع لسلطة الطاغية يزيد، وما عسى
الأمة أن تنتظر؟ ها هي ديار علي والحسين والزهراء قد أمسى عليها
ليل الفراق وأحاطتها وحشة البعد والغربة وأمست المدينة موحشة تبكي
سيدها الراحل والقلوب يعتصرها الأسى والنفوس يفترسها الألم، وسيغيب
الحسين عن سماء المدينة نجم ليس بوسع السماء أن تلمع بمثله، ها هي
داره مطفأة الأنوار وها هو بيته الرفيع أمسى خربة مهجورة، لقد كانت
بالأمس تعمرها الصلاة وتتعالى في أرجائها أصوات المتهجدين ويرى
الناس فيها وديعة رسول الله (ص) وبضعة الزهراء البتول وبقية أهل
الكساء، وقد أمست اليوم صوت ناعي يبكي الراحلين وقلب آسي ينعي
المغتربين، لقد بقيت الدار هي الأخرى معلماً من معالم الإحتجاج
وقلعة من قلاع الصمود. ومن يوم هجرها الحسين (ع) وحتى آخر عهدها
يندبها الشعراء ويناجيها الأدباء.
لقد أصبحت الطلول تشكو غياب الحسين (ع) وتندب الراحلين في ظلمة
الليل البهيم بصمتها الناطق وسكوتها المعبر وربوعها الخالية
وشموخها المهيب، وراح ركب الحسين (ع) يطوي الفلاة ويعد السير حتى
بلغ مكة المكرمة ودخل أرض الحرام (ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان
دخلها وهو يقرأ قوله تعالى: -(ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن
يهديني السبيل).
حلّ الحسين (ع) في مهبط الوحي ومدينة السلام مكة المكرمة، فنزل
في دار العباس بن عبد المطلب. سرى نبأ قدوم الحسين (ع) إلى مكة
وانتشر خبر خروجه من المدينة ورفضه لبيعة الطاغية يزيد، وبدأت
الوفود والرسائل تفد عليه من أرجاء شتى، وبدأ يبعث بالكتب والرسل
ويدعو للثورة وإسقاط سلطة يزيد وخلع بيعته التي أخذها بالقهر
والإرهاب والرشاوي، وبدأ التكتل وعقدت الإجتماعات في أماكن مختلفة
من العالم الإسلامي، واستبشرت الجماهير بتحرك الحسين (ع) وكان من
آثار هذا التحرك أن دبت روح الثورة في العراق مركز الحركة السياسية
الموالية لأهل البيت آنذاك.
فقد اجتمع زعماء المعارضة من أنصار الحسين (ع) في الكوفة في بيت
سلمان بن صرد الخزاعي واستعرضوا الأوضاع السياسية والإجتماعية وموت
الطاغية معاوية بن أبي سفيان وانتقال السلطة إلى الطاغية يزيد.
وقرروا نصرة الحسين (ع) والإنضواء تحت قيادته وإعلان الولاء له،
فقام سلمان بن صرد الخزاغي فألقى خطاباً في الحاضرين قال فيه:- إن
معاوية قد هلك وإن حسينا قد تقبض (أي اشمأز وامتنع عن البيعة)، على
القوم بيعته وقد خرج إلى مكة وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم
تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوه وتقتلوا أنفسكم دونه، فاكتبوا
إليه وأعلموه، وإن خفتم الفشل والوهن فلا تغروا الرجل في نفسه،
قالوا لا بل نقاتل عدوه ونقتل أنفسنا دونه، قال اكتبوا إليه فكتبوا
إليه:- بسم الله الرحمن الرحيم سلام عليك فإننا نحمد إليك الله
الذي لا إله إلا هو، أما بعد فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار
العنيد الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها وغصبها فيئها وتآمر
عليها بغير رضى منها.. إلى آخر الكتاب. وسيروا الكتاب مع عبد الله
بن سبع الهمداني وعبد الله بن وال، واستمرت الكتب والرسائل تتوارد
على الحسين (ع) وصيحات الإستغاثة تنطلق: (ليس علينا إمام فأقبل لعل
الله يجمعنا بك على الحق والهدى وفي رسائل أخرى (إن الناس ينتظرونك
لا رأي لهم غيرك فالعجل العجل ثم العجل العجل).
وبعد كل المعلومات التي توفرت لدى الحسين (ع) أصبح العراق هو
البلد المرشح للإنطلاق وإعلان الثورة وقيام دولة الإسلام الراشدة.
إنطلق الركب يوم الثامن من ذي الحجة ومضى الحسين (ع) لا يلوي
على شئ، فقلبه يحوم حول مصرعه في أرض الميعاد وقطاره يستحث الخطى
نحو سرادق الشهادة. واصل المسير وفي نفسه شوق وتطلع لمعرفة الأوضاع
السياسية وطبيعة الرأي العام في العراق، فصادفه الشاعر المعروف
(الفرزدق) في موضع (الصفاح) فسأله الحسين ( ع) وطلب منه أن يصور له
الأوضاع التي خلفها وراءه فوصفها الفرزدق بقوله:-( قلوب الناس معك
وسيوفهم مع بني أمية والقضاء ينزل من السماء والله يفعل ما يشاء)،
فقال الحسين (ع) صدقت، لله الأمر والله يفعل ما يشاء وكل يوم ربنا
في شأن، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان
على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يعتد من كان الحق
نيته والتقوى سريرته.
سرى نبأ مسير الحسين (ع) فاضطرب الموقف الأموي وشعرت السلطات
بالخوف من انقلاب سياسي يطيح بعرش الطاغية يزيد، فتناهى الخبر إلى
عبيد الله بن زياد وهو والي يزيد على الكوفة، فأعد جنده ورجاله
ووضع خطة لقطع الطريق أمام الحسين (ع) والحيلولة دون وصوله إلى
الكوفة، فبعث مدير شرطته الحصين بن نمير التميمي وكلفه بتنفيذ
المهمة، فاختار الحصين موقعاً استراتيجياً يسيطر على طريق مرور
الحسين (ع)، فنزل في (القادسية) واتخذها مقراً لقيادته، ونظم خطاً
عسكرياً يمتد من القادسية حتى (خفان)، وآخر يمتد إلى (قطقطانة)،
ومد انتشار هذه القوات حتى جبل (لعلع).
أما الحسين (ع) ما زال مجداً في السير، تطوي ظعائنه أبعاد
الفلاة ويواصل الزحف نحو العراق حتى بلغ موضعاً يسمى (الحاجر)، ومن
هناك كتب كتاباً إلى أهل الكوفة يشحذ فيه هممهم ويحثهم على الثبات
والمواجهة ويعلمهم بمسيره وقدومه.
طوى الحسين (ع) وأوفد قيس بن مسهر الصيداوي لهذه المهمة، فانطلق
نحو الكوفة يحمل كتاب الحسين (ع) ويبشرهم بقدوم القائد المغوار،
إلا أنه وقع أسيراً بيد قوات الحصين المنتشرة في القادسية، فنقل
إلى عبد الله بن زياد. طلب منه أن يصعد المنبر ويسب الحسين (ع)
وكان جريئاً وبطولته نادرة، فصعد المنبر وحث الناس على نصرة الحسين
(ع)، ولعن بن زياد وآبائه واستغفر لعلي فاستشاط ابن زياد غضباً
وطلب من جلاوزته أن يصعدورا به إلى أعلى القصر ويرموه إلى الأرض.
وألقي به من فوق قصر الامارة وتقطع جسده الطاهر واستشهد رضوان الله
عليه. ووصل خبر أسر الرسول واستشهاده للحسين (ع) في موضع يدعى
(زبالة).
وهكذا راحت تتوارد على الحسين (ع) أنباء الإنتكاسة وتلوح له
بوادر الإنعطاف الخطير، وشعر بالخذلان ونقض العهود.
إستقر الحسين (ع) تلك اليلة في منطقه يقال لها (زبالة)، وهو
ينعي مسلم وهاني وعبد الله بن يقطر، ويقلب الأمور في مستقبل الحركة
ومصير الأمة.
وحين أذن الصباح بالإفصاح تحركت القافلة الحسينية وواصل المسير
ماراً (ببطن العقبة) عبر مسالك الصحراء الوعرة والمستقبل البهيم
يرتسم أمامه والثقة بالله تملأ جوانحه، وتابع المسير حتى بلغ موقع
يقال له (شراف)، وفي الطريق فوجئ الحسين (ع) وأصحابه مع قلة العدد
وعدم التهيأ للقتال وانكشاف الأرض بهذا الجيش الكثيف الزاحف نحوهم
من القادسية، فاستشار أصحابه وسألهم أما لنا ملجأ نلجأ إليه في
ظهورنا ونستقبل القوم بوجه واحد؟ فأشاروا عليه بالإتجاه إلى جبل
(ذو حسم) والتحصن به. |