شبكة النبأ: الفجر كاد أن يلملم
آخر ما تبقى من خيوط الليل والركب الحسيني وصل في مسيره على مشارف
قرى الطف وهو يجتاز مرحلة من مراحل السير الى الله موطناً نفسه على
الشهادة في سبيله.
كانت تلك المرحلة مرحلة قصر بني مقاتل الذي ينسب الى مقاتل بن
حسان بن ثعلبة ونسبه ياقوت الحموي في معجم البلدان الى امرئ القيس
بن زيد بن مناة بن تميم ويقع هذا القصر بين عين التمر والقطقطانة
والقريات، إذ أمضى الركب ليلتهم في هذا المكان الموحش فغمروا ليله
بأنفاس التسبيح والتهليل وتلاوة القرآن والصلاة ثم يملأ القوم
قربهم من الماء ويتأهب الركب للرحيل عن هذا المكان.
وبينما هو في مسيره إذ تخلل صفوف الركب صوت: ( إنا لله وإنا
إليه راجعون, والحمد لله رب العالمين) كان صوت قائد الركب الإمام
الحسين (ع)، وكانت الطمأنينة تنبعث من صوته لتملأ قلوب الركب
إيماناً على إيمانها بعدالة النهضة الحسينية ومشروعية ثورته ضد
الظلم الأموي، إذ كان الركب يضم الصفوة التي تيّفنت قوله (ع)
وتابعته عليه ( من كان باذلاً فينا مهجته موطناً على لقاء الله
نفسه فليرحل معنا )، وتكرر صوت الإمام الحسين (ع) مرة ثانية: ( إنا
لله وإنا إليه راجعون, والحمد لله رب العالمين) ... وهنا تقدم علي
الأكبر من أبيه وكان على فرس وقال: ( إنا لله وإنا إليه راجعون,
والحمد لله رب العالمين, يا أبتِ جعلت فداك مِمَ استرجعت وحمدت
الله؟) فقال له الإمام الحسين (ع): ( يا بني خفقت برأسي خفقة فعن
لي فارس على فرس فقال: ( القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم فعلمت
انها أنفسنا نعيت إلينا )، فقال له علي الأكبر: ( يا أبتِ لا أراك
الله سوءاً ألسنا على الحق؟)، فقال الإمام الحسين (ع): ( بلى والذي
إليه مرجع العباد) فقال له الأكبر (ع): ( يا أبتِ إذن لا نبالي أن
نموت محقين) فقال له الإمام الحسين (ع): ( جزاك الله من ولد خير ما
جزى ولداً عن والده ).
وردت هذه الحادثة في الكثير من التواريخ والتراجم والمقاتل
بألفاظ مختلفة ومضمون واحد ففي تاريخ الطبري ج6 ص 231، وردت مطابقة
لما ذكرنا وفي مقتل العوالم ص 48: ( ان الإمام الحسين (ع) نام
القيلولة بالعذيب فرأى في منامه قائلاً يقول: تسرعون السير
والمنايا تسرع بكم الى الجنة )، وفي مقتل الخوارزمي ج 1 ص 226: (
نزل الحسين الثعلبية ونام وقت الظهيرة فانتبه باكياً فسأله ابنه
علي الأكبر عن سبب بكائه فقال (ع): ( يا بني انها ساعة لا تكذب
فيها الرؤيا واني خفقت برأسي خفقة ... ) الى نهاية الحادثة كما
رويت هذه الحادثة في مصادر أخرى إتفقت في نقلها على مضمونها على
جواب علي الأكبر لأبيه الإمام الحسين ( ع ) وموقفه العظيم فنقلت
إحدى الروايات في جوابه (ع) قوله: ( لا نبالي إذا كنا على الحق
أوقعنا على الموت أم وقع الموت علينا ).
إن أول ما يُستشف من هذه الحادثة هو الأخلاق العظيمة والأدب
الجم والعقيدة الراسخة والثبات واليقين والشجاعة التي اجتمعت في
شخصية هذا البطل العلوي. وقد التمسنا بذكر هذه الحادثة باباً
للدخول الى حضرة شبل الحسين (ع) وحفيد الكرار والذي وصفه أبوه
الإمام الحسين بقوله:(أشبه الناس برسول الله (ص) خَلقاً وخُلقاً
ومنطقاً وكنا إذا اشتقنا الى رسول الله نظرنا الى وجهه)، وليس أدل
على التعريف بهذه الشخصية العظيمة من هذا الوصف إذ أنه يسلط الضوء
على مزايا علي الأكبر الفريدة وأخلاقه الحميدة فمما لا شك فيه أن
رسول الله (ص) هو أكرم بني آدم طراً أخلاقاً وأشرفهم طبائعاً حتى
وصفه الله تعالى بقوله: ( وإنك لعلى خلق عظيم ) وعلي الأكبر هو
أشبه الناس برسول الله (ص)، وهذا ما جسده في كل مراحل حياته حتى
ختمها بأشرف خاتمة وهي الشهادة في سبيل الله مع أبيه الإمام الحسين
(ع).
كان علي الأكبر مجمع الفضائل وملتقى الصفات العظيمة
ورث الصفات الغر وهي تراثه عن كل غطريف وشهم أصيدِ
في بأس حمزة في شجاعة حيدر بإبى الحسين وفي مهابة أحمدِ
وتراه في خلق وطيب خلائق وبليغ نطق كالنبي محمدِ
فهو من بيت الوحي وملتقى الملائكة.
كانت ولادته الشريفة في شهر شعبان من سنة ثلاث وثلاثين للهجرة
قبل مقتل عثمان بن عفان بسنتين، وعلى هذا القول يكون عمره الشريف
يوم الطف سبعاً وعشرين سنة، ولقب بالأكبر لأنه أكبر أولاد أبيه (ع)
وكنيته أبو الحسن وبما أن نسبه من جهة أبيه أشهر من أن يذكر وأجل
من أن يوصف فهو ابن سادة الخلق وابن من قرن الله طاعته بطاعتهم
فالى شرفهم يطأطئ كل شريف والى عظمتهم ينحني كل عظيم لذلك فسنكتفي
بتسليط الضوء على نسبه من جهة أمه فأمه فهي السيدة ليلى بنت أبي
مرّة بن عروة بن مسعود الثقفي وهي من أشرف بيوت العرب فجدها عروة
أحد العظيمين بمكة والطائف ولعظمه في قريش فقد أرسلته يوم الحديبية
لعقد الصلح مع رسول الله (ص)، وكان كافراً ثم أسلم سنة تسع من
الهجرة ورجع الى قومه وأظهر إسلامه ودعا الى ذلك قومه فرموه بالنبل
فكان الدم يسيل منه وهو يجهر بالشهادتين فقيل له: ما ترى في دمك؟،
فقال: كرامة أكرمني الله بها وشهادة ساقها الله إلي ليس فيّ ما في
الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله (ص) فادفنوني معهم فلما مات
دفنوه مع الشهداء، وقال رسول الله (ص) في حق عروة: ( ليس مثله في
قومه الا كمثل صاحب ياسين في قومه )، أما أبو مرة والد ليلى فهو
ابن عم المختار الثقفي الآخذ بثأر الحسين (ع)، فقد ولد في عهد رسول
الله (ص) ولما قتل أبوه عروة جاء الى رسول الله مع أخيه وأعلماه
بقتل أبيهما وأسلما على يديه أما أم ليلى فهي ميمونة بنت أبي سفيان
ولذلك حاول البعض من الجيش الأموي استمالة الأكبر الى جانبه عن
طريق هذا الاتصال فقال له:
( ان لك رحماً بيزيد )!!
لكن الاكبر الذي تربى في بيت الوحي لا يمكن أن يركن للظالمين
وأبت نفسه الشريفة الا المضي على نهج أبيه فألقم القائل حجراً
بقوله:
(إن رحم رسول الله أحرى بأن يرعى من رحم أبن آكلة الأكباد )
فكان من الطبيعي على من ينشأ في حجر سيد الشهداء وأبي الأحرار
أن يكون هذا إيمانه وبصيرته وتضحيته في سبيل إعلاء كلمة الله
ومناصرة أهل بيت رسول الله وبلغ الأكبر غاية الفضل حتى قال فيه
الشاعر:
لم تر عين نظرت مثله من محتف يمشي ومن ناعلِ
يغلي نهئ اللحم حتى إذا أنضج لم يغل على الآكلِ
كان إذا شبت له ناره أوقدها بالشرف القابلِ
كيما يراها بائس مرمل أو فرد حي ليس بالآهلِ
لا يؤثر الدنيا على دينه ولا يبيع الحق بالباطلِ
أعني ابن ليلى ذا السدى والندى أعني ابن بنت الحسب الفاضلِ
وهذا المدح لم يكن من باب المبالغة والإفراط، بل تجسدت كل تلك
الصفات في شخصية الأكبر حقاً وحقيقة، ولعل أروع تجسيد لهذه الصفات
هو ما تجسد منه يوم الطف وموقفه العظيم في الدفاع عن الإسلام
والذود عن آل الرسول وقد جسد في ذلك اليوم شجاعة جده علي بن أبي
طالب (ع) فبرز وهو يقول:
أنا علي بن الحسين بن علي نحن ورب البيت أولى
بالنبي
تالله لا يحكم فينا ابن الدعي أضرب بالسيف
أحامي عن أبي
ضرب غلام هاشمي علوي
فزلزل هذا الغلام الهاشمي العلوي أركان الجيش الأموي وأعاد
عليهم صولات جده بصفين حتى سقط شهيداً في سبيل الله بين يدي الحسين
(ع) لينال بذلك أسمى مراتب الخلود في الدنيا والجنة في الآخرة. |