بكاؤهم نابع من خسارة فقدت ولن تعوض، قد تكون خسارة أو فراق أو
هزيمة..
بكاؤهم يجر النفس الى الضعف والقلق واليأس والقنوط..
بكاؤهم يؤدي الى السلبية في النظرة الى الحياة، أو طرق التعامل
معها..
بكاؤهم محدود بين قوسي الانفعال الذاتي، متموضع في خصوصية
العاطفة الشخصية ومدى ما ترتبط به من الموقف..
بكاؤهم عقيم لا يولد مواقف ولا يكتسب قيم بل إن ابعد مدى فيه :
أن يكون سلوكا معبرا.
هكذا بكاؤهم وهم محقون حينما يدينون مثل هذا البكاء،
ونحن ندين البكاء الذي يمرض الروح، ويهين النفس، ويعذب العاطفة
بأوجاع اليأس..
نحن ندين كل بكاء فيه رائحة الهزيمة والاستسلام والضعف والمرض.
نحن نرفض أن يكون البكاء عقيم في زنزانة النرجسية.
إن بكائنا على الإمام الحسين هو ليس لا من حيث السبب ولا من حيث
المفهوم أو التأثير أو الموقف مثل بكائهم..
إننا لا نبكي الحسين لأنه مات (استشهد) فخسرناه لان مثل الحسين
حي بشهادة الله عز وجل، في قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في
سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون* فرحين بما آتاهم الله
من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم
ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر
المؤمنين) سورة آل عمران 169-171.
إن الدموع التي نذرفها في عاشوراء، أو عند ذكر فاجعة كربلاء ما
هي إلا أواصر نريد منها الالتحاق العاطفي بما يمثله الحسين بصورة
عامة، ومواقفه في عاشوراء بصورة خاصة.
إن دموعنا هي دليل على صدق انتمائنا للقضية الحسينية وما تمثله
ضد معسكر الظلم والانحراف وامتهان كرامة الإنسان.
إن الأئمة الأطهار أوصونا بالبكاء (عن الباقر (عليه السلام)
قال: «كان أبي ـ علي بن الحسين صلوات الله عليه ـ يقول: أيما مؤمن
دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي (عليه السلام) دمعة حتى تسيل على
خده بوّأه الله تعالى في الجنة غرفاً يسكنها أحقاباً، وأيّما مؤمن
دمعت عيناه حتى تسيل على خده فينا لاذى مسّنا من عدوّنا في الدنيا
بوّأه الله في الجنة مبوّأ صدق، وأيّما مؤمن مسّه أذى فينا فدمعت
عيناه حتى تسيل على خده صرف الله عن وجهه الاذى وآمنه يوم القيامة
من سخطه والنار»(كامل الزيارات: 100).
وقال الامام الرضا(عليه السلام)(فيما أخرجه الصدوق في أماليه):
«من تذكر مصابنا وبكى لما ارتكب منا كان معنا في درجتنا يوم
القيامة، ومن ذكر مصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون،
ومن جلس مجلساً يحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»(أمالي
الصدوق: المجلس 17 الرقم 4).
وفي قرب الاسناد عن بكر بن محمد الازدي قال: قال أبو عبد الله ـ
الصادق ـ (عليه السلام) لفضيل بن يسار: «أتجلسون وتحدّثون؟» قال:
نعم جعلت فداك، قال (عليه السلام): «إنّ تلك المجالس أحبّها،
فأحيوا أمرنا، فرحم الله من أحيى أمرنا، يا فضيل: من ذَكَرَنا أو
ذُكِرْنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه».
إلى غير ذلك من صحاح الاخبار المتواترة عن أئمة الابرار(راجع: بحار
الانوار 44 / 278 ـ 296 الباب 34)) فان لم يبكي احدنا فليتباكى.
والتباكي استحضار للمشاعر التي تؤدي للبكاء، فدموعنا ليست ردة
فعل أو استجابة غير واعية لفاجعة آل بيت الرسول، بل إنها موقف
عاطفي واعي ومدرك ومسؤول تجاه ثورة الإمام الحسين ومبادئها القيمة.
وهذا ما جعل الكثيرون ممن لم يفهموا العلاقة بين الإنسان الشيعي
وعاشوراء يستغربون من متانة الاستجابة العاطفية وقوتها وديمومتها
لهذا الإنسان، فهو يعيش هذه العلاقة كل عام، بل يعيشها البعض كما
هو سائد لمدة أربعين يوما، وفي الأغلب يحيي الموالي لآل البيت هذه
العاطفة طيلة أيام السنة وبصورة متواصلة دون أن تفقد العاطفة
حرارتها أو تغير اتجاهها ولعل ما يصدمهم إنها تزداد قوة وثراء في
نمو روحي ونفسي ومعرفي يمتلئ به ذلك الانسان.
إن بكائنا أكثر من دموع انه مشاركة عاطفية لموقفنا مع الحسين
ونهجه في الدفاع عن الدين وكرامة وحقوق الإنسان في الحياة.
وإذا كان بكاؤهم هزيمة فان بكائنا هو المشاركة فيما انتصر به
الحسين وأصحابه، وكل السائرين على دربه من انتصارهم على طواغيت
الأمم وفراعنة الشعوب، وسلاطين الظلم والرذيلة.
لم يكن الحسين صاحب حملة عسكرية أو شهوة سلطة هدفها إخضاع الناس
لسيطرته وتحقيق مكاسب دنيوية هنا وهناك.
كان الحسين محبا وحينما يكون القلب مقدسا فما اطهر المحبة التي
يحتويها..
كان محبا لله فما طاق أن يشوه المنحرفون دين الله فسار الى
الموت كما يقول الشاعر (إن لم يستقم دين جدي إلا بقتلي فيا سيوف
خذيني).
وكان محبا للمستضعفين الذين امنوا به فلبى ندائهم حتى بعد أن
علم إنهم لا يطيقون إعلان الولاء له، وان خذلت الأمة حسينا لكنه لم
يخذلها وأمام ضميرها الصامت ارتكب الظالمون جريمتهم الشنعاء بحقه.
فالبكاء على الحسين ليس بكاء على ميت بل إيقاظا للأمة مما مات
من ضميرها واستجماعا لإرادتها للنهوض بوجه ظالميها.
بكاؤنا ليس ضعفا بل إن دموعنا الحسينية شرارات توقد في القلوب
روح التصدي ومواجهة المستكبرين وكل الظلمة والمنحرفين، وهذا ما
وعاه جميع طواغيت الأمة حيث اكتشفوا إن للبكاء طابعا احتجاجيا
وبراءة رمزية من جرائمهم وظلمهم، لذا حاربوا الشعائر الحسينية
ومنعوا مظاهر الحزن والحداد في عاشوراء واعدموا الناس على الظن
والتهمة بسبب دمعة أو قصيدة رثاء.
بل إن الشيء الذي لم يتهاون فيه سلاطين الدكتاتوريات هو الشعائر
الحسينية وخصوصا مظاهرها العاطفية.
وبكاؤنا ليس سلبي متقوقع حول الاستجابة العاطفية للذات لمثير
داخلي أو خارجي،
بل انه تعبير عن موقف يتطلب إدراك ووعي بل ومسؤولية (فالإنسان
الشيعي مضطهد في مراحل التاريخ بسبب صلابة عقيدته ورفضه الظلم
والانحراف ومهادنة الحكومات الظالمة).
هذا الوعي مهيأ لاكتساب قيم ومبادئ النهضة الحسينية، وهذا
الإدراك يكتسب مواقف عاشوراء تجاه المفاهيم المطروحة أو محل التدبر
والتأمل.
إن ملحمة الطف كقصة تاريخية يمكن أن تختزل في دراما محدودة،
لكنها كملحمة عقائدية وثقافية ودينية وفكرية وشعبية لا يمكن
اختزالها، فكل من يشعر بالانتماء إليها مدعو للقيام بدور فيها في
هذا الزمان او في غيره، و في هذا المكان او في غيره.
فكل يوم عاشوراء وكل ارض كربلاء.
بل إن فضاءات الملحمة تتسع لكل إنسان يمكن أن يسجل فيها موقفا
مع أو ضد أو متفرج.
إن فضائها الإنساني كان على الدوام محفزا لمواقف مفكرين وثوار
وقادة وفلاسفة لم يكونوا مسلمين ولا عربا.
وعندما نبين الفرق بين بكاؤنا وبكاؤهم لا نقصد المقارنة من اجل
الفوارق أو تقييمها أو تمييزها، وان كان ذلك كله له مشروعية الكشف
ومعرفية الهوية، لكننا قصدنا في تبيان ذلك إن هناك فروقا ومميزات
على الطرف الآخر أن يفهمها ويعيها بعد أن تحملنا عنه مؤونة الكشف
عنها ولا يظل يحكم علينا من منظوره الذاتي وما يتصوره هو عن الآخر،
لان مثل هذا السلوك أمسى مرفوضا في عالم اليوم، عالم ثقافة الحوار
وتقبل الآخر.
rasolpyscho@yahoo.com |