قال الشاعر:
أيها القائلون جهلا حسينا
أبشروا بالعذاب والتنكيل
قد لعنتم على لسان ابن داود
وموسى صاحب الإنجيل
شبكة النبأ: في الإنجيل، والإنجيل
يعني: البشارة صلى السيد المسيح(ع)، عشية تسليمه، وناجى الله
قائلا:
(إن كان يستطاع فلتعبر عني هذه الكأس.. لكن ليس كمشيئتي بل
كمشيئتك أما الروح فمستعد وأما الجسد فضعيف ولكن كيف تتم الكتب
فإنه هكذا ينبغي أن يكون).
ضعف الجسد: مصدر الألم واستعداد الروح لتنفيذ المشيئة العليا:
يصلها ينبوع السرور الخالد، فلا موت. النصر الحقيقي لا يكون إلا
انسجاما مع التوجه الينبوعي الطاهر، وهل ينتصر من يخسر نفسه ولو
ربح العالم؟ (1).
بهذا المقياس الانتصاري، ماذا يقول العالم بثورة الحسين بن
علي(ع)؟
هل انسجم الحسين مع التوجه الينبوعي الطاهر، فكان منتصرا في
شهادته وشهادة آل بيته ؟. فطن المؤرخون والباحثون لرمزية الثورة
الحسينية، استعذبوا تكرار السيرة الحسينية: استلهاما لها، واستقواء
بروح صاحبها.
يقول الباحث السيد أنطوان بارا، في بحثه(الحسين في الفكر
المسيحي) ما خلاصته: (لم يسجل التاريخ شبيها لاستشهاد الحسين في
كربلاء). فاستشهاد الحسين وسيرته، عنوان صريح لقيمة الثبات على
المبدأ، لعظمة المثالية في أخذ العقيدة وتمثلها. لذلك، غدا حب
الحسين الثائر: واجبا علينا كبشر، غدا حب الحسين الشهيد جزءا من
نفثات ضمائرنا.
فقد جاءت صيحة الحسين: نبراسا لبني الإنسان في كل عصر ومصر، تحت
أية عقيدة انضوى، إذ أن أهداف الأديان هي المحبة والتمسك بالفضائل،
لتنظيم علاقة الفرد بربه أولا، وبأخيه ثانيا.
إن بحث السيد أنطوان بارا يؤكد حقيقة تجلت له، جسدها بقوله:
(فقد كان الحسين (ع) شمعة الإسلام، أضاءت ممثلة ضمير الأديان الى
أبد الدهور).
إن هذه النتيجة مثيرة للغاية، لأنها تحكم الماضي والمستقبل،
ومقياس الحكم فيها ثورة الحسين الواقعية، ثم مثالية الرمز في
شخصيته، فكيف يخرج هذا الحكم الذي يبدو كأنه انخطاف بالتأثر حتى
الغلو؟ مثل الحسين ضمير الأديان، في الماضي، وهل يمثله في
المستقبل؟
ضمير الأديان، بمقياس المسيحية، وصيتان:
الأولى:(أحبب الرب إلهك، بكل قلبك، وكل نفسك، وكل ذهنك).
الثانية: (أحبب قريبك كنفسك).
بهاتين الوصيتين: يتعلق الناموس، كله، الأنبياء، إن ضمير
الأديان: محبة لله، وتحاب بين العباد، كما يفهم من عبارة السيد
المسيح. فكيف يفهم ضمير الأديان من القرآن الكريم؟
آيات المحبة، في القرآن الكريم، تؤكد ضمير الأديان، هذا، فضمير
الأديان، محبة وتحاب، ومن صيغ التعبير عن هذه الحقيقة، قوله
تعالى:(يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه، فسوف يأتي الله
بقوم: يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين،
يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ؛ ذلك فضل الله يؤتيه
من يشاء، والله واسع عليم) المائدة/54.
قوم الله، يحبونه، وهو لذلك يحبهم. فدينه ؛ المحبة، ولا يقبل
قوما يرتدون عن هذا الدين، أو يتقاعسون في تنفيذ أخلاقه التي أشارت
إليها الآية: رحمة، شدة، جهاد، شجاعة.
هذا ضمير الأديان في الصيغة الإسلامية، وفي الصيغة المسيحية
السابقة. إنه، المحبة والتحابب، فكيف مثله الحسين بن على (ع)
بالثورة؟
خير الأمم، امة هديت الى الحق فهدت به، والتزمته بالعدل، وما
الحق الذي يجعل الأمة خير الأمم؟
إنه الإخلاص لله، التعايش بالمعروف المطهر من المنكر. النصوص
القرآنية تؤكد مقاييس خير الأمم، بصيغة جديدة لدين الحب والتحاب،
فهل كانت ثورة الحسين تمثيلا عمليا لضمير الأديان هذا؟
يقول الإمام الحسين(ع): (إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي،
أريد أن: آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق،
فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا، أصبر حتى يقضي الله بيني وبين
القوم بالحق، وهو خير الحاكمين).
من دروس المعروف الخالدة في الثورة الحسينية: الحرية، الإيثار،
التطور، الإبداع، ألا تمثل هذه الدروس ضمير الأديان الى أبد
الدهور؟
ثورة الحسين (ع) كانت وثبة شجاعة من أعماق سجون التسلط في عصره،
ليخترق جدران العبودية، مطلقا هواء الحرية بالفداء في فضاء الزمان،
ليصل الهواء النقي ببعضه، من ماض وحاضر وآت. فالهواء حر، من طبعه
الحرية، لا يستطيع الحياة بين جدران، الهواء الحر؛ يحيي، والهواء
الحبيس ؛يقتل.
لقد لعن المسيح قاتلي الحسين(عليه السلام) وأمر بني إسرائيل
بلعنهم، قال: (من أدرك أيامه فليقاتل معه، فإنه كالشهيد مع
الأنبياء مقبلا غير مدبر، وكأني أنظر الى بقعته، وما من نبي إلا
وزارها، وقال إنك لبقعة كثيرة الخير، فيك يدفن القمر الزاهر).
في هذا الإيراد ثلاث نقاط ذات دلالة وأهمية:
1- لعن المسيح لقاتلي الحسين، وأمره لبني إسرائيل بلعنهم.
2- الحث على المقاتلة معه، بإيضاح أن الشهادة في هذا القتال
كمثلها مع الأنبياء.
3- التوكيد على زيارة كل الأنبياء لبقعة كربلاء، بالجزم التام
على أن (ما من نبي، إلا وزارها).
تذكر بعض المراجع التاريخية (2) أن عيسى بن مريم (ع) مر بأرض
كربلاء. توقف فوق مطارح الطف، ولعن قاتلي الحسين ومهدري دمه الطاهر
فوق هذه الثرى.
نبي كعيسى وشهيد كابن مريم(ع)، لابد وأن يقف على أمر الشهيد
الذي سيليه بعد أحقاب من الزمن، ليتم ما بدأه من إحقاق للحق، ونصرة
للمظلوم، وإسعاد للبشرية المعذبة، وتخليصها من نير العبودية.
الصحيفة التي قرأ بها عيسى عن مجيء الحسين، قرأ بها يحيى عن
مجيء المسيح قبل أن يأتي، ألهمها قولا واضحا ونبوءة محددة، فقال
(ع): (سيأتي من بعدي من لست أهلا لأن أحل له سير نعله)(3).
وفي الآية الكريمة: (وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن
نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وأخذنا منهم ميثاقا غليظا)، ما يدل على
ان ميثاق النبيين والشهداء مأخوذ منهم قبل أن يكونوا، وأن لا مفر
من الرضوخ لهذا الميثاق كما تشاء العزة الإلهية.
وفي إنجيل القديس يوحنا يبشر المسيح تلامذته بإرسال مؤيد
لشهادته، يكمل من بعده رفع راية الحق الإلهي.. فوق الخطيئة والبر
والحكم، فيقول(ع):
إني ذاهب الآن الى الذي أرسلني
وما من أحد منكم يسألني: الى أين تذهب؟
غير أني أقول لكم الحق
من الخير لكم أن امضي
فإن لم أمض، لا يأتكم المؤيد
أما إذا مضيت فأرسله إليكم
ومتى جاء، أخزى العالم على الخطيئة والبر والحكم (4).
بعد المسيح(ع) جاء محمد(ص) خاتما للأنبياء، بعد رسالة الإسلام
ما نزل للبشر رسل ولا هادون، فهل كان المسيح يتنبأ بقدوم الحسين؟
كان عيسى لما تمثل له أهوال الشهيد الحسين(ع) فوق الأرض التي
زارها والتي صارت مسرحا لشهادته، قد تأثر ولع قاتليه، وأمر بني
إسرائيل بلعنهم، وحث الذين سيدركون أيامه على القتال معه.
شهادة الحسين في سفر المسلمات الإلهية، المعادلات البشرية،
كشهادة ؛ قربت بعظمتها وخطر نتائجها وعظمها، الى حدود النبوة وقربت
شهيدها الى حدود ما في النبوة من قدسية وخلود، فكانت ظلا للنبوة،
وكان الحسين(ع) شبيها بالرسل.
.............................................
1- متى:16/ 26.
2- إكمال الدين للصدوق/ 295.
3- يوحنا:1/27-28.
4- يوحنا: 16/5-6-6-8. |