في كل موسم حسيني يطل علينا بأنواره في ذكرى فاجعة الإمام أبى
عبد الله الحسين (عليه السلام) ونشهد فيه للخطيب الشيخ عبد الحميد
المهاجر تألقا يأخذ بلباب الأفئدة قبل الألباب؛ تنصرف ذاكرتنا إلى
قصة اجتماع عدد من علمائنا على منع الشيخ نفسه من ارتقاء بعض منابر
البحرين بحجة درء الفتنة!
وإذا ما تغلبنا على دلالة هذا الانصراف الذهني القهري لمصلحة ما
يراها لطف البحرانيين وتسامحهم، ثم انشغلنا بحدود اللحظة الراهنة؛
سنبتلى بأمر آخر فيه كشف لواقع مجالسنا المزري نسبة لحيوية مجلس
الشيخ المهاجر.. فلعل أجمل ما قدمه الشيخ المهاجر في هذا الموسم
الحسيني: توزيعه لصور مجزأة عن مآسي حادثة كربلاء بين ثنايا خطابه
في إسلوب جذاب ومؤثر جدا، جعل من حضور المجلس كتلة إيمانية واحدة
وقلب واحد يخفق بمودة أهل البيت (عليهم السلام).
أتصور أن الكثير من البحرانيين المتابعين لحركة المجلس الحسيني
في جزيرتنا يتفقون معي على أن هذا الأسلوب المميز الذي اتبعه الشيخ
المهاجر وسجل به رقما قياسيا في عدد المريدين والمتابعين
والمشاهدين، كان في حقيقة الأمر يشكل ذروة العطاء الخطابي لملالي
البحرين إلى وقت قريب.
وإذا ما أضفنا إلى هذا الأسلوب الخطابي المتبع عند البحرانيين
القدامى طور النعي الشجي الذي تميز به ملالي البحرين من قبل وكانوا
فيه محل شهرة ؛ فإننا بلا شك سنبدي أسفا عظيما على الجمود الذي
أصاب الأداء الخطابي الحسيني البحراني في وقتنا الراهن وحد من أثر
المجالس وساهم في انحسار المستمعين منذ أن وقع الملالي في جزيرتنا
تحت ضغط متطلبات السياسة ونفوذ التحزب المناطقي والسياسي فضلا عن
ضغط التخلف الثقافي والحاجات الاجتماعية الملحة التي أضعفت فيهم
روح التمسك بالإرث الخطابي الأصيل وامتداده الإبداعي الذي كانت آخر
خفقاته اجتمعت في شخصيتين: ملا عطية الجمري والشيخ احمد العصفور
وفئة قليلة جدا من تلامذتهم.
وربما كانت الصورة الأكثر إثارة لدفائن أذهان العدد الكبير جدا
من البحرانيين المتابعين لمجلس الشيخ المهاجر: أن المجلس الحسيني
الذي شكل وحدة أساسية في الشعائر وورد نص مقدس في شكله ومضمونه عن
المعصومين (عليهم السلام) يمكن له أن يأخذ أبعادا إبداعية كثيرة
مستقطبة لحضور شعبي قياسي كبير إذا ما اجتمع في الخطيب شرط أساس:
الاطلاع الواسع في النصوص الدينية والحوادث التاريخية وعملية الربط
والفك بينهما تحت إشراف مرجعية دينية متصدية. وهذا شرط سهل ميسر
متاح إذا ما توافر الإيمان بقدسية الوظيفة والعرفان بحجم المسؤولية
الملقاة على الخطيب الحسيني في هذا العصر.
إذا ما تتبعنا الظاهرة الجماهيرية الواسعة في مجالس الشيخ
المهاجر، واستثنينا حجم مشاركات واجتماع البحرانيين على إحياء هذه
المناسبة بنيات صادقة لا لبس فيها، فإن كل ما هو محيط بنا
كبحرانيين من ممارسات جديدة في دائرة إحياء هذه المناسبة، يعبر عن
عجز كبير في وظائف الإبداع!.
فقد استبدلنا وظيفة الإبداع في المجلس الحسيني الذي ورد فيه نص
صريح، بوظائف أخرى اعتقدنا أنها الخيار الأمثل لملئ مناطق الفراغ
وشحذ الطاقات الموالية وإشغالها بما يوثق علاقتها بهذه المناسبة،
من نحو: المرسم الحسيني، وتسجيل أكبر عمل في (جينيس وورد ركورد)
بأشكال ووظائف مختلفة، مركزية العزاء للضبط التوجيه السياسي
والقيادي، زيادة الآلات الموسيقية في المواكب، الشعار السنوي
الموجه وشعارات الولاء الخاص، الخطب الفكرية واللافتات الدعائية،
الاستعراض العددي المركزي الكبير في المواكب في مقابل مواكب ومجالس
أخرى، التوجيه الحزبي المرجعي الحاد، وما أشبه ذلك..
ثم إذا ما خلفنا كل ذلك وراء ظهورنا ورجعنا البصر إلى مجالسنا
الحسينية التي انطلقنا من قواعدها ونواحيها؛ سنجدها خالية خاوية
على عروشها إلا من عدد قليل جدا من المستمعين من فئة عمرية متقدمة.
وإذا ما سألت عن الأسباب الكامنة وراء هذا الانحسار الخطير، قيل لك:
هي في جمود المجلس، في ضعف الملة أو الخطيب، وما إلى ذلك من مبررات
تبدو وجيهة من وجه.
لماذا عجزنا عن تطوير كل ما كان فيه نص صريح في أشكال إحياء هذه
المناسبة وعلى رأسها المجلس الحسيني، ورحنا نبدع ونسجل أرقاما
قياسية في غيرها من صور اعتقدنا فيها بديلا حضاريا يمثل اتباعه
إصلاحا حقيقيا في الشعائر.. فهل انتهت وظيفة عقد المجالس الحسينية
في أحسن صورها كشعيرة من الشعائر الحسينية حتى استسلمنا أمام حاجات
أخرى هي أقرب إلى أنفس أو أشياء تبدو لنا مثيرة وتستحق الإعجاب؟.
لو سجلنا كل النصوص الدينية الواردة عن المعصومين (عليهم
السلام) واستلهمنا منها أشكال الشعائر الدينية بمناسبة عاشوراء؛
سنجد أن إقامة المجلس الحسيني وشؤونه ومتعلقاته هو أكثر ما شهد
تأكيدا وحثا وتشويقا واتباعا.. ولو سخرنا كل جهودنا لتطوير هذه
المجالس وسجلنا أرقاما قياسية فيها وأبدعنا في مضمونها وأشكالها
لكانت محل جذب واستقطاب عام يغنينا عن الانشغال في أمور أخرى لا
نعرف مدى قربها أو بعدها عن مصادر الثواب.
أظن أن البحرانيين إذا ما استمروا في عجزهم عن تطوير المجالس
الحسينية شكلا ومضمونا، واستيقنوا بصحة بقائها على أحوالها الراهنة
بلا رعاية، فإن البحرين ستتحول في كل عام بمناسبة هذه الذكرى
العظيمة إلى موسم لاستعراض الفنون التشكيلية وضروب كثيرة من
الانتصارات في موسوعة (جينس ورد ركورد). وقد تخلوا الحسينيات خلال
العقود القادمة من خطبائها ومستمعيها معا لصالح عروض ومسابقات فنية
ولقاءات اجتماعية مفرغة المضمون.
إن الاستعداد لهذا التحول البديل الخطير في حسينيات البحرين له
معطيات متوافرة على كل الصعد حتى الآن.. ولعل ابرز ما يؤكد ذلك هو
وجود من يدفع عن قصد وتعمد بهذا الاتجاه.. فلا عجب من طفرة تحيل
الحسينيات إلى "نوادي ثقافية" بين هذا الموسم وموسم آخر قادم لا
مجال للشيخ المهاجر أن يرتقي منابرها لأنها ستصبح عندئذ بلا منابر
ترتقى!. |