اتصبو بنا

ملف المناسبة

الصفحة الرئيسية

 

 

 

الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة وأسبابها في ضوء طروحات الإمام الشيرازي

الدكتور احمد باهض تقي الحميداوي/مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية

تأتي الطروحات النظرية في المجال الاقتصادي للإمام السيد محمد الشيرازي الراحل (قدس سره) منسجمة بشكل تام مع تلك الطروحات التي يقدمها لنا القران الكريم والسنة النبوية الشريفة، فضلا عن تلك المنطلقات الفكرية التي قدمها الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

ومدرسة أهل البيت عليهم السلام تعج بتلك النجوم الزاهرة اللامعة التي تلألأت لتنير الدرب بأضوائها أمام الدارسين والباحثين والموالين في كل المجالات، ولما للاقتصاد من اثر بين وهام وبارز في حياة الناس، فان العلماء المتصدين لم يغفلوا هذه الناحية وأولوها الاهتمام الكافي لتكن ركيزة أساسية وركنا متميزا من أفكارهم ونظرياتهم في تصديهم للأفكار المضادة من جهة أو في تقديمهم للحلول المناسبة لمشاكل المجتمع والاقتصاد من جهة أخرى.

 أما بالنسبة إلى الإمام الشيرازي الذي نحتفي به اليوم مفكرا وقائدا مجاهدا، فإننا نجد في خزانة أفكاره وطروحاته الكثير الكثير الذي يحتاج أي باحث فيها لمؤلفات متعددة كي يميط اللثام عن أفكار السيد الراحل ليقدمها للناس كخطة عملية لبناء مستقبلهم الاقتصادي، وجاءت مؤلفاته المتعددة في هذا المضمار لتعبر اصدق تعبير عن طبيعة النهج الفكري له، وما أكثرها وأوسعها تفصيلا وأدقها منهجا وأغزرها علما.

واليوم إذ يعيش العالم بأسره نتاج الزعامة الرأسمالية وأطروحاتها التي تعبر عن سلوكها الأخلاقي وجسامة تساقط ذلك السلوك على حياة المجتمعات والشعوب والدول، حري بنا أن نتمعن بما طرحه الإمام الشيرازي وبشكل مبكر ليحذر من مخاطر سيادة الأفكار الموغلة بالمادية على الحياة الاقتصادية في العالم، ويأتي ذلك ليعبر عن ماجاء به القران الكريم:  (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً) سورة الفرقان: 67، وقول الإمام علي (ع): (ماعال من اقتصد) وقوله (ع) في رسالته إلى زياد: (ودع الإسراف مقتصدا).

ويفرق المفكرون الإسلاميون وعلى رأسهم الإمام الشيرازي الراحل قدس بين الاقتصاد كتدبير لشؤون المال، وبين المذهب الاقتصادي المفروض إتباعه في الحياة العامة أي أن تدبير المال علم، وتوزيعه فكر، لينسجم ذلك مع ماجاء به أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة الذي تضمن الجانبين المشار إليهما، أي يؤكد على حقيقة أن الإسلام يتضمن مبادئ وفنون علم الاقتصاد والأسس والمنطلقات والمقومات التي يقوم عليها المذهب الاقتصادي برمته، ومن الأخطاء الجسيمة والكبرى التي وقع بها العديد من الباحثين هي الظن إن الإسلام يعتني ويتناول المذهب الاقتصادي فقط، بل إن الإسلام كفكر ومنهج في الحياة فصل وتطرق وشرح الشؤون المتعلقة بالإنتاج وفنونه، ويكفينا التمعن والتأمل بتلك المقولة الخالدة للإمام أمير المؤمنين (ع) حول الجرادة هذه الحشرة الصغيرة إذ يقول(وان شئت قلت للجرادة..... إلى أن يقول وجعل لها الحس القوي ونابين بهما تقرض، ومنجلين بهما تقبض يرهبا الزراع في أرضهم ولايستطعيون ذبها، ولو اجلبوا بجمعهم حتى ترد الحرث في نزواتها، وتقضي منه شهواتها، وخلقها كله لايكون إصبعا مستدقة).

ومنذ أكثر من قرنين عبر الزمان، ظهرت المدارس الفكرية الحديثة لتتصدى عبر نظرياتها لحياة الناس، فكانت هناك المدرسة الرأسمالية التي جاءت ابرز أفكارها على يد ادم سميث وريكاردو في النصف الأخير من القرن التاسع عشر لتعلن بدء مرحلة جديدة وعصر آخر في كل من أمريكا وأوربا على حد سواء وتحت منظومة فكرية رأسمالية قائمة على المبدأ الشهير للرأسمالية الكلاسيكية (دعه يعمل دعه يمر) أي الحرية في الاقتصاد والتجارة وانتقال العمالة والمال والمواد الأولية والمصنعة، وسادت تلك الأفكار والنظم حتى اصطدم العالم بأسره بنتائج ذلك النظام المقيت الموغل والمفرط بالحرية الفوضوية والموجهة لحساب جني الأرباح على حساب حريات الشعوب الأخرى ونهضتها وتطورها، فكانت المنافسة كمبدأ أساس ومرونة الأسعار والأجور كمبدأ رديف وأساس آخر، لتكون النتيجة حربين عالمتين لايفصل بينهما سوى عشرين عاما، وبينهما أزمة كساد كبير عمت العالم لقصور هذه النظرية الرأسمالية عن إيجاد الحلول لفائض العرض، فكان الكساد الكبير الذي استمر من عام 1929 حتى عام 1936 وظلت آثاره السلبية حتى قامت الحرب العالمية الثانية والتي كان الكساد أهم أسبابها الخفية غير المعلنة وذلك للسيطرة على الثروات من جهة والأسواق التي تعاني من ضيق حينها من جهة ثانية.

 وجاءت الدعوات إلى تدخل الدولة على يد المفكر الرأسمالي اللورد(مينارد كينز) لتعلن تراجعا فكريا في أهم أسس المنظومة الرأسمالية ألا وهو عدم التدخل الحكومي في الحياة الاقتصادية، فكان استعمار الشعوب وكان نتاجه التخلف ونهب الثروات والفقر لشعوب العالم غير الرأسمالية. وحينها ظهرت الشيوعية كرد فعل عنيف على الرأسمالية فقتلت الحريات وأصبحت دكتاتورية الدولة كبديل فكري وعملي عن الرأسماليين في البلدان الرأسمالية لتسدر في غيها وتقحم العالم في حرب ضروس انتهت بانهيار الشيوعية وتراجعها وتفكك اكبر دولة راعية لها ألا وهي الاتحاد السوفيتي السابق، ليروج المفكرون الرأسماليون إن النظام الرأسمالي قد انتصر في الصراع الفكري على الشيوعية وان الرأسمالية هي النظام المثالي لقيادة العالم نحو الرفاهية، حتى انبرى الكاتب (فوكاياما في بداية التسعينات من القرن الماضي) ليعلن إن العالم وصل إلى نهاية التاريخ وان الرأسمالية انتصرت، ليتراجع بعد حين في أطروحته تلك.

الأزمة الحالية وطروحات الإمام الشيرازي

يعيش العالم ومنذ أكثر من شهر أزمة مالية اقتصادية ضربت في بدايتها عقر النظام الرأسمالي في الولايات المتحدة الأمريكية، وإذا كان ينظر للازمة الحالية عندما بدأت بكونها أزمة ناجمة عن الرهن العقاري وإنها مقتصرة على القطاع العقاري فحسب، فإنها وبعد مضي هذه الفترة أصبحت أزمة كلية تعصف بالاقتصاد الأمريكي لتنتقل إلى الاقتصاد العالمي برمته، ولعل ابرز معالمها هي الانهيارات المالية الكبرى التي عصفت بكبريات المصارف في أمريكا وأوربا وعلى رأسها بنك (ليمان بروذرز) رابع اكبر مصرف ائتماني في أمريكا الذي أشهر إفلاسه ليخسر نحو 630 مليار دولار بين ليلة وضحاها علما بان إعصار تسونامي الذي ضرب آسيا نتجت عنه خسائر قدرت بنحو 600 مليار دولار، ولعل المحلل ايا كان مشربه لا ينظر إلى الأزمة المالية العالمية الحالية إلا بعين التشاؤم، وإنها اليوم تكاد تلقي بالعالم نحو أفق مجهول تسلب فيه حقوق الناس وتدمر أموالهم ويخسرون حينها رفاهيتهم التي روجت لها كثيرا الرأسمالية الجديدة.

وعندما نستشرف أفكار الإمام الشيرازي الراحل بتبشيره قبل أكثر من أربعين عاما بالأزمة الحالية كأمر واقع لا محالة، فإننا حينها نستشرف كما أسلفنا الفكر الإسلامي الرائد الذي وضع السبل والمناهج والحلول لكل مشاكل الحياة.

• يقول الإمام الشيرازي: إن النظام الاجتماعي والاقتصادي السائد في الغرب أي يقصد الرأسمالية يفسد المجتمع من خلال الحرية المفرطة في السلوك والتي جاءت في أعقاب كبت شديد من طبقة الحكام للشعوب وكبت الكنيسة التي تشددت حينها تشددا دينيا غريبا حتى أنها أحرقت الألوف من العلماء وحظرت العلم (وحظرت حتى ترجمة الإنجيل والتوراة) فكانت النتائج خطيرة والعواقب وخيمة:

1. إفراط في الحرية كرد فعل للكبت.

2. تباعد بين الطبقات الاجتماعية فبعضها بالقمة وبعضها بالحضيض بسبب النظام الكنسي الذي سبق بروز الرأسمالية مما أدى إلى أن تعمل الرأسمالية على إيجاد التساوي الافراطي بين الناس.

3. تفشي الإلحاد والرذيلة بشكل مخيف.

4. بروز التمسك المفرط لدى الأقوام المختلفة بالقومية المرتبطة باللون والأرض والقبيلة البعيد عن موازين العقل، حتى برزت القومية باعتبارها الصنم الجديد الذي يعبد من دون الله سبحانه وتعالى، ومنها نشأت وترعرعت النازية والفاشية اللتين دمرتا العالم بالحروب.

5. وحيث انهزم الدين عن الساحة (كما يؤكد الإمام الشيرازي الراحل) أخذت المادة مكانه فحدث الاستعمار والاحتلال والنهب لثروات الشعوب الأخرى، لان المادة غير متسعة ضيقة توجب التناحر والتنافس غير المتكافئ ومن الصدام والصراع وهذه لعلها أهم سمات الرأسمالية.

6. أما الدين فهو واسع رحب يتسع لكل الأقوام والأجناس والألوان فما بالنا بالدين الإسلامي المتكامل(اليوم أكملت لكم دينكم).

• اليوم نجد أنفسنا ونحن جزء من هذا العالم الذي غرق بالرأسمالية وممارساتها، نجد أنفسنا اليوم إننا في مواجهة صعبة والعالم اقتصاديا يسير نحو تراجع في الانجاز الذي تحقق جزء كبيرا منه على حساب حريات الشوب وظلم الطبقات الفقيرة وسحق كلمة الحق. يقول الإمام الشيرازي الراحل: إن الحالة التي يعيشها العالم في وقتنا الحاضر هي حالة مرضية (هنا لابد من الإشارة إن هذا الحديث كان قبل أكثر من ثلاثين عام) بكل ماتعنيه خصائص المرض ومالم ترفع هذه الحالة إلى حالة صحية فستظل الدنيا تتخبط في دياجير وظلمات ومشاكل أسوء من المشاكل التي كانت الدنيا تتخبط فيها قبل ظهور الإسلام، فهي جاهلية ثانية أسوء من الجاهلية الأولى.

• وهكذا نجد إن الإمام الشيرازي الراحل قدس يؤكد: من خلال أطروحاته إن الأنانية وعدم الركون إلى الموازين الإنسانية التي يجب أن تسود بين الناس أفرادا وشعوبا.فلا غرابة أن ينظر للأمر بالشبهات والريبة لايزوج لايتزوج ويطرد من البلاد ولاحق له في البيع الشراء وغير ذلك إلا تحت شروط قاسية، وهذا مايسود الرأسمالية اليوم وخصوصا تلك الرأسمالية الوافدة إلينا.

• اليوم يعيش العالم بأسره أزمة اقتصادية رأسمالية لم تفد بها الحلول والمهدئات والمضادات، فالفيروس الذي ينخر في الجسد الرأسمالي خطير، كما أشار إليه الإمام الشيرازي، وانه مهما تؤدي الحلول والمعالجات إلى كبح جماح هذا المرض الخطير وتأخير حالة الوفاة فانه بالتأكيد سيأتي اليوم الذي تحرر فيه شهادة الوفاة لتعلن للعالم إن الإغراق في المادية الرأسمالية سيؤدي حتما إلى الغرق.

العراق والحاجة إلى المراجعة في المنهج الاقتصادي

وإذ تتجلى الأزمة الاقتصادية العالمية أمام العالم اليوم فانه حري بالعراق وصناع القرار فيه تحديدا أن يتأملوا كثيرا ويتمعنوا أكثر قبل الولوج إلى المنظومة الرأسمالية وبشكل غير محسوب، كي لايسقط العراق واقتصاده وشعبه في دوامة الفلك الرأسمالي واخذ الاعتبار من الأزمة الحالية كي يتم تنفيذ مشاريع الأعمار والبناء بشكل ينسجم وطموحات الشعب وآماله في الحرية والرفاهية وعدم الانجرار إلى الخطط والمشاريع التي يرسمها صندوق النقد والبنك الدوليين دون اعتبار لمصالح الطبقات الفقيرة والمحرومة وما أكثرهم في العراق. ولذلك لابد من مراجعة شاملة ودقيقة للمنهج الاقتصادي المعتمد حاضرا كي لانضيف هموما ومتاعب ومشاكل جديدة إلى المواطن العراقي تضاف إلى همومها السابقة.

* مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية

http://fcdrs.com

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 18/تشرين الأول/2008 - 18/شوال/1429

اتصبو بنا

ملف المناسبة

الصفحة الرئيسية

 

 أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 6

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1428هـ  /  1999- 2007م

annabaa@annabaa.org