كانت الشريعة الإسلامية ومنذ الوهلة الأولى شريعة متجددة
تتداخل مع مفاصل الحياة كافة، فقد اشتملت على عناوين فقهية مأطرة
بقوانين تشريعية متكاملة سواءً أكانت على مستوى الفكر أم التطبيق وبشكل
لا نظير له.
غير أن المسلمين ولا سيما في العهود المتأخرة لم يولوا هذه
العناوين اهتماماً كافياً لإعطاء القوانين صفتها العلمية لا على مستوى
الفكر ولا التطبيق بما يتلاءم وروح التطورات التي دخلت مجتمعاتنا فبقت
أكثر هذه العناوين والقوانين مجرد نصوص ومآثر تروى على شكل حكايات
لتأخذ في عصرنا الحاضر جانباً بعيداً كل البعد عما هو معاش في الحياة
الواقعية.
وبالرغم من ذلك فهذا لا يعني ابتعاد المسلمين وبصورة نهائية
عن التطبيق الحي لهذه القوانين خصوصاً بوجود علماء أفذاذ قاموا بحمل
الرسالة العلمية للإسلام وإدخالها في قبة التطبيق، ومنهم الإمام الراحل
السيد محمد الحسيني الشيرازي ومن بين تلك القوانين الفقه السياسي أو
القانون السياسي الخاص بالمجتمع المسلم، إذ يعد الإمام الرائد في وضع
اللمسات البارزة لإنشائه.
وإذا شئنا أن نوضح أهم الملامح الرئيسة التي تميز بها فكر المرجعية
الشيرازية في مجال السياسة نجده يتميز بما يلي:
1- الحركة والفاعلية المستمرة التي تميز بها هذا الفكر من خلال
احتكاكه المباشر مع أهم القضايا الجديدة والمعاصرة وتناولها وبأسلوب
إسلامي مرن أكثر جدة وأكثر عصرنة، فقد حرص على معالجة المستجدات في أي
جانب من جوانب المجتمع.
2- حرصه على الجانب التطبيقي، وهذا ما حصل في ترجمة الأفكار التي
طرحها سماحته إلى حيز التطبيق من قبل الهيئات والمؤسسات التابعة
لمرجعيته حيث أعتاد التركيز على هذا الجانب لا في مجال السياسة فحسب
وإنما تعداه إلى أن يشمل كل الجوانب الأخرى في الاجتماع والإدارة
والاقتصاد من خلال تطبيقه لمبدئي الشورى والتعددية.
والفقه السياسي عند الإمام الراحل إنما يمثل مشروعاً سياسياً قائما
على دمج الدين بالسياسة إنطلاقا من قوله تبارك وتعالى: (شرع لكم من
الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى
وعيسى أن أقيموا الدين)(1) ، بدلا من فصلها عنه لكي لا تنطلق السياسة
بشكلها المطلق فتكون وبالاً وعالماً بلا أخلاق، ولهذا فإن الإمام تجاوز
الخطأ الشائع في فهم الدين وفهم السياسة والعلاقة بينهما، فالمفهوم
الإسلامي للسياسة عند الإمام أوسع من وظيفة الدولة وأوسع من وظيفة زمن
محدد ومكان محدد(2).
ماذا نعني بشورى الفقهاء؟ وما شروط
تحققها؟
وقد كانت نظرية شورى الفقهاء المصداق الاجلى لتطبيق الفقه السياسي
الاسلامي على ارض الواقع، إذ تمثل هذه النظرية في حال تطبيقها بنجاح
الدليل على قدرة الفقه السياسي الإسلامي في التحول من مجرد حالة مثالية
الى حالة عملية تنطبق على ارض الواقع.
وقبل ان ندخل في توضيح معنى هذه النظرية لا بد لنا من نقوم بتعريف
محدد للركن الاساس الذي تبنى عليه هذه النظرية ألا وهو مبدأ الشورى
فالشورى مصطلح مأخوذ من الجذر (شَوَرَ) وكما جاء في اللسان: وشَوَّر
إِليه بيده أَي أَشارَ وأَشار عليه بأَمْرِ كذا: أَمَرَه به (4)
والمقصود بها اصطلاحاً تبادل الرأي وكذا إستشاره(3).
أما شورى الفقهاء المراجع فهي تعني إجتماع مراجع التقليد فيما بينهم
ضمن (مجلس شورى) وتبادل الرأي في القضايا العامة التي تهم أكثر أبناء
الأمة أو كلهم في زمان ومكان معينين.. ثم التنسيق فيما بينهم للعمل
والموقف المشترك(5).
وبهذه تكون الشورى لدى الإمام الراحل تحتل مكانتين لا ثالث بينهما
في نظرية شورى الفقهاء المراجع مكانة أدبية تعني: تبادل الحب
والاحترام، ومكانة إدارية تنظيمية تعني: القيام بتنظيم جبهة اتحادية
عريضة ومُهابة للتفكير والتخطيط الجماعي والعمل المتناسق الرصين
لمعالجة قضايا الامة والسير بها إلى الأمام وهذه الجبهة انما تكون
بالفقهاء المراجع.
اما الشروط التي من خلالها يتم تحقيق هذه النظرية كما يوضحها الامام
الشيرازي فهي:
أ- الشورى والاستشارة في كافة المجالات حيث قال الله تعالى:
(وأمرهم شورى بينهم) . فرئاسة الحكومة تكون عبر انتخابات حرة ينتخب
فيها الحاكم تبعاً لأكثرية الآراء، شرط أن تتوفر فيه المواصفات التي
اشترطها الله سبحانه كالعدالة والاجتهاد في الأمور الدينية والاطلاع
على شؤون الدنيا و....الخ.
ب- من الضروري توحيد البلاد الإسلامية كلّها تحت لواء حكومة
إسلامية واحدة (6).
فولاية الفقيه مقيدة بالإطار الإسلامي لدى الامام الشيرازي
الراحل، لان الله عزوجل جعل خليفة لـه في الأرض، ليقيم حكم الله، وينظم
شؤون الخلق (7)، حيث يقول الإمام الراحل:(إن القيادة الحقيقة هي لله
تعالى، والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والإمام المعصوم عليه
السلام، وفي زمن الغيبة لنواب الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه
الشريف) وهم الفقهاء العدول، والذين تختارهم الأمة بكامل حريتها، وتكون
على صيغة (شورى المراجع)، وتعمل بأكثرية الآراء ضمن الأطر الشرعية)
(8).
وبذلك اثبت الإمام وفي أكثر من مناسبة انهيار الاعتقاد السائد
بان الدين يقتصر على ممارسة العبادات والمعاملات، بل هو أيضا ممارسة
للقيم الانسانية والنظم الحياتية والأفكار البناءة التي صنعت عالم
الأمس وستصنع عالم اليوم.
لقد استطاع الإمام الشيرازي أن يجمع بين الأمرين من خلال نظرية
شورى الفقهاء المراجع التي تعني عودة الدين المحمدي وعودة الشورى والتي
تمثل الحكم الشرعي للديمقراطية الحقيقية.
................................
الهوامش :
- سورة الشورى: 13.
- الإمام الشيرازي، الفقه السياسة، ص35،دار القران
الحكيم.
- لسان العرب ، باب شَوَرَ
- ناصر حسين الاسدي، شورى الفقهاء مفتاح الاصلاح
العام،ص15،دار الصادق – بيروت.
- نفس المصدر.
- الامام الشيرازي، السبيل الى انهاض المسلمين،
ص11.
- الإمام الشيرازي الراحل، عدالة أمير المؤمنين
عليه السلام، ص13، مؤسسة المجتبى.
- نفس المصدر ،ص22.
.....................
* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com |