قبل أن يصل عالَمنا الراهن الى ما وصل إليه بعقود عديدة، أطلت
علينا أفكار المجدد الثاني الامام الشيرازي (قده) عبر مؤلفاته المثمرة
لتسهم في تقويم المسار الانساني وهو يدخل نفق التناحرات الطويل حيث
أنتجت هذه الافكار الانسانية الشاملة منظومة عملية وأخلاقية عميقة شملت
ذلك (النفق المظلم) بضوء وافر يفتح الطريق الى عالم تتوافق فيه الغايات
والوسائل والتناقضات العالمية وصولا الى مجتمع بشري تسوده المحبة وتسدد
خطواته السماحة والتراحم وتبني حاضره ومستقبله نفحات اللاّعنف التي
كانت ولا زالت تنبعث من بين طيات الافكار والمؤلفات القيمة التي انتجها
قلم الامام وسيرته المعطرة بحيوات وخطوات أئمة وقادة الاسلام الحنيف
الأطهار.
إن عالم اليوم غني عن التعريف لكل متفحص يبحث في تناقضاته وطبيعته
عن كثب، وان الحراك الراهن والشامل للمجتمع البشري ينم عن تصادم واضح
للعيان بين الرغبات والتمنيات وبين سبل تحقيقها كما ان التسابق المحموم
لتكريس التسلط على مقدرات الانسان في عموم المعمورة من لدن فئة دون
أخرى أضفى على الحراك البشري نوعا من (الاستحواذ الفوضوي) قاد العالم
الى صراعات رئيسة وثانوية أدخلته في نفق التسلط المقيت وبالتالي أصبحت
لغة العنف والإقسار هي اللغة (الأقوى فعلا والأعلى صوتا) في عالم
اليوم، وهذا ما استشرفته رؤية الامام الشيرازي (قده) عبر أفكاره
وخطاباته ومؤلفاته التي ظل طيلة حياته الغنية يركِّز فيها على طبيعة
العنف البشري المتأصلة ونزعة الاستحواذ والتعنت ويحذر منها ويوجِّه
الانسان المؤمن أينما كان إلى وجوب التنبّه نحو مغريات وملذات الحياة
اللاّمشروعة ورصد نزوات النفس البشرية التي تميل الى فرض رغباتها على
الآخرين بعيدا عن التوافق وإهمالا تاما للتشاور الذي أوجبه الاسلام
طريقا قويما للاصلاح والتراضي والتحاقق بين بني الانسان.
وفي جل كتابات الامام الشيرازي برزت بوضوح مفردة الانسجام كمعنى
يذهب الى التراضي والاتفاق المتأتي من (نصف الانسان الأفضل) النصف
الايجابي من النفس البشرية، ذلك النصف الذي تنبع منه نفحات التسامح
والمحبة والإيثار. ولعل التركيز على مبدأ اللاّعنف هو العمود الفقري
لكل طروحات الامام الشيرازي معرفةً منه بأن التخلص من (مرض العنف) يقف
في الصدارة من متطلبات صناعة المجتمع الانساني القويم، وطالما كان
الفرد هو العينة الصغرى من هذا المجتمع وطالما انه كان ولا يزال مصدر
العنف وكابحه الأقوى، لذلك ظل الامام المجدد الثاني ينحت ويصقل في هذه
المفردة (اللاّعنف) شكلا وجوهرا حتى انها شكلت المركز والبؤرة والنقطة
المضيئة في معظم طروحاته لكي يكون الانسان على معرفة تامة بخطورتها
وكيفية التعاطي معها في رحلة الحياة الملغومة بالتسلط والاقتتال،
(فالشخص العنيف يفقد التوافق الذاتي الداخلي وتختل لديه بنفس الوقت
العلاقة مع الآخر)-1- ، وطالما كان الانسان الفرد هو اللبنة الاولى في
بناء المجتمع لذا توجَّب التركيز على هذه اللبنة منذ نشأتها مرورا
برحلتها في الحياة التي تتطلب متابعة وتوجها وتذكيرا متواصلا مخافة
الميل الى ما لا تحمد عقباه، وقد كانت جهود الامام الشيرازي ولا زالت
تصب في هذا الاتجاه، ذلك أن العالم كان ولا يزال خائضا في النفق الطويل
المعبَّأ برغبات الانسان المتناقضة لا سيما نزعته (القاتلة) نحو التسلط
والطغيان وفرض الآراء على الآخرين من دو وازع أو مبرر منطقي يحتكم الى
الدين او العرف او العقل وما شابه ذلك.
لقد كان الامام رحمه الله واعيا لما ستؤول إليه نتائج الرحلة
البشرية من تناحر وتحكم بمقدرات الشعوب، خاصة ما يتعلق بالغرب
وامتلاكهم للتكنلوجيا الحديثة والسلاح الفتاك، لذلك كانت أفكاره ولا
زالت تحمل طابعا انسانيا لا تحده فئة بعينها ولا تعني مجموعة من البشر
دون غيرهم، (فطموح الامام الشيرازي أن يغير كل شيء حتى الغرب، وليس
المسلمين وحدهم، وله في ذلك كتب ومناهج ونظريات مطروحة للبحث العلمي
المقارن في المدارس الفكرية التي تنادي بالتحرر والتحرير)-2- ، ولقد
استشرفت رؤيته واقع العالم الراهن بكل ما يضج به من تناحرات وتجاذبات
متضاربة، ولهذا السبب ركَّز جل طاقته الفكرية من أجل تعميق مبدأ
اللاّعنف في النفس البشرية وتغليب الجانب الايجابي فيها على الجانب
السلبي، من هنا نجد في الجهد الفكري الكبير الذي خلفه الامام الشيرازي
بعد رحيله سبيلا واضحا لدرء خطر التناحر ودعوة مفتوحة لا يحدها زمان او
مكان لتغليب الجانب المضيء في الانسان على جانبه المظلم كما اننا نلاحظ
بقوة ووضوح تلاقي هذا الارث الفكري البديع مع الإرث الانساني الذي يصب
باتجاه تحييد النزعات الشريرة في النفس البشرية مما يقود او يساعد على
بناء مجتمع انساني متوازن تتعالى فيه المثل الراقية وتسمو فيه النفوس
السوية على الصغائر.
إن ما يميز إرث الامام الشيرازي الفكري هو الطابع الانساني لهذا
الفكر والطموح المتواصل للمساهمة في تغيير العالم نحو الأفضل، لذلك فإن
الامام على سبيل المثال وليس الحصر قد (وضع في سلَّم أولوياته موضوع
تغيير الغرب، وتحييد مفكريه وكبار رجاله من غير الجبابرة المتغطرسين،
ثم تقريبهم الى الاسلام لكونهم ذوي مدنية تملك ما تملك من وسائل
التدمير والمدنية والعلم والتكنلوجيا في آن واحد. فمثلها كمثل السلاح
الفتاك في يد رجل لا يحسن التصرف به، لفقدانه الحكمة والصواب، مما يلزم
العقلاء ان يتعاملوا معه بحكمة حتى ينتزعوا السلاح المدمر من يده) -3-.
بهذه الرؤية المتفحصة والدقيقة يتعاطى هذا الفكر الخلاق مع دقائق
الامور صغيرها وكبيرها، وبهذه الرؤية الحكيمة الشاملة يتصدى هذا الفكر
العميق للمخاطر التي تواجه الانسانية جمعاء، ذلك انها رؤية حددت مكامن
الخلل والخطورة القائمة في عالم اليوم ووضعت طرائق الخلاص والسمو كما
انها حدست قبل عقود ما ستكون عليه طبيعة العالم الملتهب وصراعاته التي
تقدِّم الذات على غيرها وتفضِّل المصلحة الفردية الصغرى على المصلحة
العالمية الكبرى.
إنها رؤية القلب المؤمن والعقل السليم والروح التواقة الى السلام
العالمي الذي يعم ربوع المعمورة، من هنا كان لزاما على المعنيين،
مسلمون وغير مسلمين، دراسة وتمحيص رؤية الامام والإفادة منها في ترصين
الوضع الانساني وتنقيته من نزعات النفوس (الأمارة بالسوء)، وإعادة
مسيرة الانسان المنحرفة الى الجادة الصحيحة من خلال تعاضد الافكار
الخلاقة مع بعضها بكل انتماءاتها الانسانية المتنوعة، وهذا ما هدفتْ
إليه تحديدا المسيرة الفكرية للمجدد الثاني الامام الشيرازي رحمه
الله.
..........................
هامش:
1- اللاعنف والتسامح قمة التوافق النفسي/ د. أسعد
الامارة
2-ا لامام الشيرازي وتغيير الغرب/ الشيخ محمد سعيد
المخزومي/ مجلة النبأ/ ع 69 .
3- المصدر نفسه. |