(الثورة) لفظ يُقصد به التغيير الأساسي الذي يطال الأوضاع السياسية
أو الاجتماعية أو الثقافية أو ما شابه..
وانطلاقاً من هذا التعريف للفظة (الثورة)، فإننا وعند الحديث عن
المرجع الديني الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (1347-1422هـ)؛
نعتقد بأنه أحدث ثورة في عالم المرجعية الدينية من خلال الأدوار (كماً
وكيفاً) التي قام بها خلال سنوات عطائه والتي استمرت حتى آخر لحظات
حياته.
تلك الثورة التي نتحدث عنها بالتأكيد ليست ثورة عنف وسلاح، فإن كل
فكر الإمام الشيرازي قام على السلّم واللاعنف، نظرياً وتطبيقياً. وإنما
ثورة جهاد وعطاء في مختلف المجالات، متجاوزاً بأن يكون المرجع الفقيه
فحسب، كما هي الحال عند معظم مراجع الدين، على الرغم من أنه أحدث ثورة
وتجديداً مبنياً على الأصالة الدينية في البُعد الفقهي، وقد سبق غيره
في طرق أبواب مستحدثة في المجال الفقهي، وأصدر أيضاً أكبر موسوعة فقهية
إسلامية في (170) مجلداً تقريباً.
لم يكن الإمام الشيرازي مرجعاً عادياً يفتي الناس فحسب، بالرغم من
عظمة ذلك الدور. لكنه كان مرجعاً يرى أن دور المرجع الديني لا يقف عند
الفتوى فحسب، بل يتجاوز ذلك بكثير، فأئمة أهل البيت (عليهم السلام) لم
يكونوا يوماً ما؛ مجرد أئمة فتوى فحسب!
في نظر الإمام الشيرازي المرجع يفتي، ويرشد الناس، ويدعو إلى
الإسلام، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويؤلف الكتب، وينظم الحوزة
العلمية، ويبعث الوكلاء، ويصلح بين الناس، ويرسل المبشرين، ويجمع
الأموال ويوزعها، ويرفع مستوى المسلمين، ويقضي، ويحول بين الظالم
والمظلوم، ويحفظ قوانين الإسلام، ويرد المظالم، ويقضي حوائج الناس،
ويحفظ البلاد الإسلامية من الأعداء، ويؤدي مهاماً وأدواراً أخرى في
خدمة الدين والمجتمع، منها العمل على تحقيق شعار: (الإسلام يعلو ولا
يُعلى عليه)، وأن يتجاوز المرجع الديني بدوره كل تلك الأدوار
التقليدية.
إن من يطلع على مسيرة الإمام الشيرازي ويتتبع تراثه الفكري، سيقف
أمام تجربة مرجعية فريدة، لم يستطع الكثيرون استيعابها حتى هذه
المرحلة، ولذلك لا غرابة بأن يُنقل على لسان المرجع الديني السيد شهاب
الدين المرعشي النجفي (ت 1411هـ) كلمته المعروفة: "إن الدنيا لم تعرف
السيد الشيرازي، ولن تعرفه إلا بعد مئتي سنة".
بالفعل، سيتحول الإمام الشيرازي إلى أسطورة ومفخرة إسلامية، فأنت
أمام مرجع فقيه يتجاوز في فقهه المتجدد عطاء أي مرجع ديني ممن سبقه أو
عاصره. ومرجع سياسي جريء لا تأخذه في الله لومة لائم، وقد كانت له
أدواراً سياسية مميزة في العراق وفي إيران، ومنها احتضانه وتأييده
للإمام روح الله الخميني شخصياً ولثورته الإسلامية العظيمة في الوقت
الذي كان معظم مراجع الدين يومها تنأى بنفسها عن تحرك الإمام الخميني.
وقد كان الإمام الشيرازي مرجعاً دينياً مفكراً ومثقفاً من الدرجة
الأولى، وتشهد له مؤلفاته التي تجاوزت الألف ومائتي كتاب. وكان مثالاً
مميزاً للمرجعية التربوية، والمرجعية الاجتماعية، ومرجعية المؤسسات،
وسيصعب علينا بالفعل حصر مرجعيته في أدوار محددة.
وفوق ذلك نحن أمام رجل دين موسوعي، وابحث في تاريخ مراجع الدين
كافة، لن تجد مرجعاً ألّف أكثر من ألف كتاب بامتياز في تفسير وعلوم
القرآن الكريم، والفقه، والأصول، والعقائد، والحديث، والأديان،
والفلسفة، والتاريخ، والسير، والأخلاق، والنحو، والبلاغة، والشعر،
والعروض، والقصص، والاجتماع، والاقتصاد، والسياسة، والقانون، والطب،
والفلك، والرياضيات، والبيئة، والمرور، والعولمة، والاستنساخ، وتفسير
الأحلام، وغيرها.
وبالرغم من وجود مرجعيات دينية قدمت تجارب مميزة وعظيمة في التجديد
وتعدد الأدوار، إلا أن فكر الإمام الشيرازي ومسيرته خلال سنين عطائه،
يمثلان نموذجاً للتغيير الإيجابي في أدوار المرجعية الدينية يتجاوز تلك
التجارب، وذلك بالنظر إلى الكم والكيف الذي نطلع عليه في تجربة الإمام
الشيرازي.
ولن أجد لمقالي هذا من خاتمة؛ أفضل من أنقل للقارئ العزيز عبارة
لأستاذ علم الاجتماع في جامعة سيسكس البريطانية الدكتور إياد موسى
محمود، يصف فيها الإمامَ الشيرازي بأنه: "المصداق الأبرز للنيابة
العامة للإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف".
* كاتب ومؤلف من السعودية
basheerq@yahoo.com |