نزار حيدر
اذا كانت مهمة الفقيه، استنباط الاحكام من اصول الشريعة، بما
يساعد الناس على الوقوف عند حدود الشرع والدين، في كل عصر ومصر، فلقد
أبدع المرجع الراحل الامام الشيرازي بشكل منقطع النظير في هذه المهمة.
وبمراجعة متانية لاسفاره العظيمة التي ورثها للاجيال، نلحظ انه
حاول جاهدا من اجل ولوج المساحات المتروكة واحيانا تلك التي حرم
الكثيرون حتى التفكير بها، لاثارتها في تفكير الناس، من خلال البحث
فيها واستنباط الحكم الشرعي لها.
لقد كانت منهجية الراحل المرجع الشيرازي، تعتمد اسلوب اثارة
العقل في اقصى مدياته، ليفكر بما سيكون من حاجات الزمن القادم، فكان
يطرح السؤال الجديد واحيانا (غير المعقول) {كما كان يصفه الجهلة من
ابناء الامة، لعجزهم عن استيعاب ما كان يريد ان يقصده من وراء التفكير
بالسؤال المطروح للنقاش فقهيا، ولذلك اتهم الراحل بتهم شتى، لان الناس
اعداء ما جهلوا، كما تقول الحكمة}.
وتلك هي محنة العظماء مع الناس على مر العصور والازمنة، فلقد
اتهم امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام بنعوت شتى، كلما حاول
ان يتكلم بما يشير الى قراءته للمستقبل، لان الناس عادة لا يستوعبون
المستقبل بقدر استيعابهم للماضي او الحاضر كاقصى مدى.
لقد طرق الراحل ابواب كل جديد في الفقه الاسلامي، فلم يكن يكتفي
بطرح الاسئلة الروتينية التي تجيب على حاجات عصره فحسب، وانما كان
يحاول طرح اسئلة افتراضية (غير منطقية) في نظر الكثيرين، او غريبة على
العامة والخاصة، لينطلق بالامة في تفكيرها من الحاضر الذي تعيشه الى
المستقبل الذي لم يأت بعد، لتستعد له بوعي وبصيرة، وبذلك كانت محاولات
الراحل توكيد حقيقة ان الاسلام دين لكل عصر ومصر، من خلال قدرته على
استيعاب حاجات كل عصر، ليجيب عليها بموقف شرعي واضح، من دون الهرب
منها، لعجز او ما اشبه.
وكلنا يتذكر، مثلا، البحث الذي طرقه الراحل بشأن الموقف الشرعي
من زراعة الاعضاء للانسان، وبالتحديد زراعة الراس، وما هو الموقف
الشرعي المترتب على الانسان الجديد.
لقد بحث الراحل هذا الموضوع الشائك يوم كان الناس حتى لا يحلمون
بيوم يتطور فيه العلم الحديث ليصل الى تحقيق مثل هذا الامر، ولذلك سخر
منه اناس وكذبه آخرون واتهمه غيرهم، لدرجة ان بعضهم وصفه بما وصف به
رسول الله (ص) بالسحر والشعوذة والجنون.
لم يثن كل ذلك الراحل عن الاستمرار في هذا البحث ليقدم الموقف
الشرعي من ذلك فيما اذا حصل الامر في يوم من الايام، لانه، وكما قلت،
كان ينطلق ببحوثه الفقهية، من ايمانه العميق بان الاسلام دين لكل
الازمنة، فلا بد انه قادر على ان يجيب عن حاجات كل عصر من دون استثناء،
فالاسلام لا يمكن ان يقول لا اعرف اذا ما تحلى الفقيه بالشجاعة
والكفاءة والقدرة والقابلية الذهنية التي تؤهله على استنباط ما يحتاجه
الناس دائما وابدا.
ومرت السنين لتتحول زراعة الاعضاء، بما فيها الراس(في الحيوان
حاليا) الى حقيقة علمية، لا يستغرب منها احد او ينظر اليها بنصف عين.
ذات الامر بالنسبة الى موضوع الولادة بالانابيب والصلاة في
الفضاء والسبل الكفيلة بمعالجة الزحام في موسم الحج الى بيت الله
الحرام، ما يجعله يستوعب 10 مليون حاج ومعتمر، من خلال الاجتهاد في
تنظيم اعمال الحج والعمرة، وغير ذلك الكثير.
ولست هنا في معرض ذكر ما ابدع فيه الراحل على هذا الصعيد، فان
ذلك بحاجة الى استنساخ نصف كتبه وموسوعاته الفقهية، وهو الامر الذي
يضيق فيه المقال والمقام، الا انني احاول الاشارة فقط الى نماذج منها،
متمنيا على الباحثين عن الحقيقة، مطالعة كتب الراحل وبحوثه، للوقوف على
ما قدمه من خدمة عظيمة للاسلام، من خلال ما طرقه من ابواب شتى.
لقد شرعن الراحل المرجع الشيرازي، حاجات العصر بامتياز، فتميز
بابواب لم يطرقها فقيه من قبله، فطرق باب السياسة وعلم الاجتماع والعمل
الحركي ومجموعة القيم والمبادئ التي تقوم عليها الدولة والسلطة، مثل
الحقوق والانتخابات والديمقراطية وادواتها وتداول السلطة وحق الاجيال
في كنوز الارض، وهو الامر الذي يتصارع عليه الناس في هذا العالم، والذي
يعد سبب الكثير من الحروب المدمرة.
بعبارة اخرى، فان الراحل بذل جهدا عظيما من اجل احياء البعد
الاجتماعي من الاسلام، بعد ان اقصره الآخرون على البعد الفردي فقط،
بسبب الظروف السياسية القاهرة التي مر بها الفقهاء والحوزات العلمية
الدينية، الا ان الراحل تحدى المعوقات السياسية والامنية، كما تحدى
ظاهرة التحجر في الفكر التي شاعت في الامة وعند الكثير من العلماء
والفقهاء والباحثين، ليناقش القضايا التي تخص الانسان المجتمع، وليس
الانسان الفرد فقط، فبحث السياسي والاجتماعي والحركي والاقتصادي
والحقوقي والسلطة والحرية والحقوق والواجبات والحكم والبيئة والعولمة
واللاعنف، وكل شئ، لايمانه بان البعد الاجتماعي في الاسلام اهم بكثير
من البعد الفردي، الذي هو عبارة عن علاقة بين العبد وربه، اما البعد
الاجتماعي، فهو العلاقة اليومية بين بني البشر، وهو مقياس دين الناس
والتزامهم بشرع الله تعالى، كما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (ص)
{الدين المعاملة} والتي ارادها الاسلام ان تكون حسنة وعلى احسن ما
يرام، ولذلك نرى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وسيرة اهل البيت
عليهم السلام، اهتمت بهذا الجانب اضعاف اهتمامها بالجانب الاخر، لان
الهدف الاسمى للاسلام هو بناء مجتمع منسجم قائم على اساس الحرية
والاحترام المتبادل والاخوة والتكافل الاجتماعي، والا ما قيمه افراد
(خيرون ومقدسون) غير قادرين على العيش المشترك السليم؟.
انطلاقا من هذا الفهم لرسالة الاسلام، عاش الراحل هاجسه في شرعنة
مقومات بناء مثل هذا المجتمع المتآخي القادر على ان يعيش بوئام
وانسجام، لا يظلم فيه احد، ولا معنى فيه للطبقية السياسية والاجتماعية
والاقتصادية، وان كل الناس فيه متساوون في الحقوق والواجبات، وامام
القانون، لا فضل فيه لأبيض على اسود ولا لعربي على اعجمي ولا لرجل على
امراة الا بالتقوى التي تعني (حسن الاداء) من خلال الخوف من الله في
السر والعلانية.
كما تصدى الراحل للرد على الشبهات التي تثار عن سماحة الاسلام
ورحمة المشرع وانسانية الدين، خاصة تلك التي تستغل موضوع القصاص لتشويه
سمعة الاسلام، فافرد مجلدات كاملة لتوضيح فلسفة الحدود والقصاص، مبينا
بمنطق عال ولسان بليغ وقلم سيال، شروطه الاجتماعية والفردية التي لا
يجوز انزال القصاص بالمذنب اذا لم تكن متوفرة، ما يعني ان الاسلام وضع
العديد من الشروط كقوة ردع للفرد قبل ان يحاسبه الشرع على الذنب، بمعنى
آخر، فان مسؤولية المجتمع والحكومة ازاء الفرد مقدمة على القصاص، ومن
الواضح فاذا تحققت كل شروط العيش الكريم للفرد في المجتمع الاسلامي في
ظل حكومة عادلة، فان الذنوب الاجتماعية والفردية ستقل وربما ستختفي من
المجتمع، وبالتالي فسوف لن يكون مثل هذا المجتمع بحاجة الى ان يشهر سيف
القصاص ليل نهار بوجه الخارجين عن القانون.
ولهذا السبب حصرا، نسي الخلفاء حدود الكثير من الجرائم، لانها
اختفت من المجتمع لفترة زمنية طويلة، وعندما وقعت ذات مرة جريمة
(منسية) اختلف الفقهاء والخليفة في حدها، لانهم لم يحكموا بها منذ مدة
طويلة من الزمن.
بعبارة اخرى، فان قوانين القصاص هي قوة ردع للجريمة، فهي تقي
المجتمع من الجريمة قبل وقوعها، كما ان شروطها تعالج الاسباب قبل حدوث
الجريمة.
بقي ان نشير هنا الى موضوع هام جدا كان الراحل قد تحدث وكتب فيه
كثيرا، ذلك هو موضوع اللاعنف، فلقد شرعن الراحل نظرية اجتماعية متكاملة
تحقق السلم الاهلي والدولي، من خلال معالجات دينية وحضارية وانسانية،
جذرية، لظاهر العنف والارهاب، وللاسباب السياسية والاقتصادية
والاجتماعية والتربوية، المحلية والعالمية، التي تغذي ظاهرة العنف
والارهاب.
كما انه نظر لنظرية العولمة التي تشغل بال البشرية، خاصة الدول
الفقيرة، فتاه الناس بين رافض بالمطلق لها، وبين قابل بالمطلق بها، اما
الراحل فقد خط في موقفه طريقا وسطا، من خلال رؤى الاسلام ومصادره
الاربعة، القرآن الكريم والسنة الشريفة والعقل والاجماع.
NAZARHAIDAR@HOTMAIL.COM |