محمد
محفوظ
المقدمة
تعيش الأمة الإسلامية اليوم، أحلك الظروف وأصعبها، حيث تزداد المشاكل
والتحديات التي تواجه حاضر الأمة وتهدد مستقبلها. وتتكثف المخططات
الأجنبية التي تستهدف أمن ومقدسات وثوابت وثروات أمتنا.
ولعل مما يزيد من هول هذه المخاطر والتحديات، أنها تأتي في حقبة زمنية
تمتلئ في بلاد المسلمين ومجتمعاتهم الفتن والفرقة والانقسامات الداخلية
التي تزيدنا جميعاً تراجعاً وضعفاً. وإن هذا يحملنا جميعا مسؤولية
العمل على جمع شتات الأمة ولم شعثها في هذه الأيام العصيبة التي تحيطنا
الأخطار من كل جانب، ليتعارف المتنابذون، ويتواصل المتقاطعون، متعاونين
على رفع راية الإسلام وتعزيز مكانة مجتمعنا وأمتنا في هذا العالم.
ونحن في هذه الظروف الحساسة، أحوج ما نكون إلى دراسة تجارب العلماء
والحركات الإصلاحية والتجديدية في الأمة، واستيعاب العبر والدروس منها،
وذلك من أجل أن ننطلق في عملنا الثقافي والاجتماعي والعلمي من النقطة
التي وصلوا إليها، ونستفيد من كل العمل المتراكم الذي قاموا به في فترة
حياتهم.
فقراءة تجارب العلماء والمصلحين وفكرهم وعطاءهم، هو من الروافد
الأساسية التي تغنى واقعنا، وتثري معارفنا، وتزيدنا تواصلا مع عظماء
تاريخنا.
ومن الشخصيات الهامة في تاريخنا المعاصر، التي نحن بحاجة إلى دراسة
تجربتها، وقراءة عطاءها، وفهم اتجاهاتها الفقهية والسياسية والثقافية
والاجتماعية، هو الإمام الشيرازي رضوان الله تعالى عليه. حيث أن تجربته
مرت بمراحل وحقب متعددة، كما أن عطاءه واهتمامه الفكري والعلمي استوعب
دوائر ومجالات عديدة، كما أنه لم يحصر اهتمامه بقضايا بسيطة.
فالهموم التي يحملها تتسع لكل الدوائر والقضايا، وأنه لم يتخلى لحظة
واحدة عن تتبعه واهتمامه بقضايا الإسلام والمسلمين في سائر بقاع الأرض.
فهو مرجعية دينية لم تعرف الفصل بين الشأن الفقهي والشأن السياسي
والاجتماعي، فكل هموم الأمة همومه، ومارس الخدمة والعطاء في حقول
الحياة المختلفة. فهو رجل العلم والعمل، ورجل الاجتهاد والجهاد، عاش
عمره الشريف كله للإسلام، فدافع عنه بفكره وقلبه، وعرّف به بلسانه
وقلمه وأخلاقه، وخاض كل معاركه تحت راية الإسلام. فكانت حياته كلها
للإسلام. فشعوره ووجدانه مغمور بحب الرسول الأكرم (ص) وأهل بيته
الأطهار (ع)، وبعقله وبفكره أنار طريق الأمة، وبلور أحكام الدين، وعمل
بكل الوسائل على كشف حقائقه ومضامينه للناس. فكان نموذجا لذلك الإنسان
الذي نذر حياته كلها للإسلام.
إذ يقول تبارك وتعالى: {إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ
وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ
أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}..
وفي الذكرى السنوية الخامسة لرحيل الإمام الشيرازي، نجدد عهدنا بتلك
القيم والمبادئ الإسلامية التي صاغت فكر الراحل، وعمل من مواقع متعددة
على نشرها في ربوع العالم عبرا لتأليف والإنتاج الثقافي والعلمي وبناء
المؤسسات والمعاهد والمراكز الإسلامية وبناء الدعاة والخطباء والمبلغين
وإرسالهم في بقاع الأرض لنشر رسالة الإسلام وتعريفهم بقيمه ومثله
العليا.
وفي هذه الذكرى نود أن نؤكد على النقاط التالية:
1- إن الإسلام بمبادئه ونظمه وتشريعاته وثقافته ومناقبياته، هو الذي
منح الإمام الشيرازي القدرة على صقل مواهبه وبلورة طاقاته، والانطلاق
في رحاب البناء والعمران في مختلف مناحي الحياة. لذلك ونحن نحيي ذكرى
وفاة هذا العملاق، ينبغي أن تتطور من خلال عملية إحياء علاقتنا
بالإسلام ونجدد وعينا بقيمه ومبادئه ودورها في الحياة.
وذلك لأن الإسلام في مجالنا الحضاري، هو الذي وهب العظماء عظمتهم،
والذي منح للعلماء قدرتهم العقلية والاستنباطية لاكتشاف حقائقه
ومضامينه الحضارية والإنسانية.
من هنا وفي هذه اللحظة التاريخية الهامة، نحن أحوج ما نكون كأفراد
ومجتمعات إلى تطوير علاقتنا بالإسلام وتجديد وعينا بقيمه ومبادئه. وأنه
لا مخرج من واقعنا السيئ إلا بالالتزام بقيم الإسلام وبناء حياتنا
الخاصة والعامة على أسس ومرتكزات الإسلام الحضارية.
2- استطاع ثلة من العلماء والمصلحين والمفكرين في التجربة الإسلامية
المعاصرة، من صياغة رؤية حضارية شاملة لهذه التجربة في مختلف مراحلها
وأطوارها.
إذ تمكن هؤلاء من رفد هذه التجربة بعلم غزير وإنتاج معرفي وفكري ثر،
يجيب على أسئلة الواقع، ويبلورا لحلم والأمل المستقبلي، ويحدد أولويات
التجربة الإسلامية المعاصرة. ولا شك أن الإمام الشيرازي هو أحد هؤلاء
الكبار الذين أثروا هذه التجربة بعطاء فكري وثقافي متميز، كان له الأثر
الفعال في هذه المسيرة وخياراتها الثقافية والسياسية والاجتماعية. فلقد
صاغ الإمام الشيرازي منظومة فكرية متكاملة، لبناء تجربة إسلامية ناجحة
في هذا العصر المليء بالتعقيدات والتحديات.
وكان المبدأ العام الذي وجه الإمام الشيرازي في كل عطاءه وإنتاجه
الفقهي والعلمي والثقافي، هو أن الإسلام مشروع حياة، وإن قيم الإسلام
العزيز قادرة على الإجابة على كل أسئلة الواقع، وإنه بإمكان المجتمعات
الإسلامية اليوم، إذا التزمت بقيمها ومبادئها أن تجترح تجربتها و
فرادتها في مضمار التقدم والعمران الحضاري.
من هنا تنبع أهمية انفتاحنا الفكري والثقافي على هذه العطاءات الفكرية
المتميزة، والتي رفدت التجربة الإسلامية المعاصرة بالعديد من الأفكار
والمشروعات المتميزة.
فإحياء الذكرى يدفعنا إلى التواصل المعرفي الجاد مع هذه العطاءات، حتى
نطور من معارفنا ونراكم خبرتنا الفكرية والثقافية، ونستفيد بأقصى درجات
الاستفادة من إبداعات العلماء والمصلحين وعطاءاتهم الفكرية والثقافية
والسياسية.
فالإمام الشيرازي ترك لنا مئات الكتب والأبحاث والدراسات في مختلف
التخصصات، وإحياء ذكراه السنوية تعني فيما تعني الانفتاح والتواصل
النوعي مع إرثه العلمي والفكري والثقافي.
3- إن الحرية بكل مستوياتها هي من أهم الأفكار والمبادئ التي عمل
الإمام الشيرازي على بلورتها والدعوة لها. لذلك عمل على محاربة
الاستبداد بكل صنوفه وأشكاله. واعتبر أن الحرية هي من صميم الدين، ولا
يمكن أن تستقيم الحياة الإسلامية بدون الحرية ونبذ الاستبداد السياسي
والاستئثار بالرأي والقرار. فالإسلام هو دين الحرية والشورى، ولم يقم
هذا الدين على اضطهاد مخالفيه أو مصادرة حقوقهم أو تحويلهم بالكره عن
عقائدهم أو المساس الجائر بأموالهم وأعراضهم ودمائهم، وإنما قام على
الحرية والشورى والتسامح والمياسرة واللطف وفضائل الأخلاق.
فالإسلام في جوهره هو حرب لا هوادة فيها ضد الاستئثار والاستفراد
والاستبداد السياسي. ولقد أجاد الإمام الشيرازي في العديد من كتبه
وأبحاثه في تجلية هذه الحقيقة وبيان مفهوم الحرية في الإسلام. بحيث أن
المتأمل في فكر الإمام الشيرازي، يجد أن الحرية والشورى والدعوة لهما
في كل الحقول والمستويات، هي من أفكاره المحورية وقناعاته الثابتة
والكبرى، والتي ألتزم بمقتضياتها ومتطلباتها في كل عطاءاته واستنباطاته
الفقهية والسياسية والإدارية والثقافية.
لذلك فإن من مقتضيات إحياء الذكرى السنوية للإمام الراحل العمل على نشر
مفاهيم وحقائق الحرية والشورى وحقوق الإنسان في أرجاء مجتمعنا وأمتنا.
لأنها خشبة خلاصنا، وجسر عبورنا للمستقبل.
وفي الختام رحم الله الإمام الشيرازي، لقد فقدت فيه الأمة علما من
أعلامها الأعلام، وفقدنا نحن فيه المرجع المصلح والرائد الأمين..
ووفاءَ لذكراه وعرفانا لفضله، هذه بعض الكلمات والأوراق التي كتبت
لبيان بعض جوانب فكره، فأرجو أن أكون قد وفقت لذلك..
وجزى الله الإمام الشيرازي عن الإسلام وأمته بخير ما يجزي به عباده
الصالحين، والحمد لله رب العالمين.
الحلقات القادمة:
فقه الحقوق في فكر الإمام الشيرازي
الحركة الإسلامية في فكر الإمام الشيرازي
الإمام الشيرازي والتراث العلمي الضخم |