عرض كتب للكاتب: بشير البحراني
الكتاب: هكذا ربانا الإمام
الشيرازي
الكاتب: حسن آل حمادة
الناشر: دار العلوم، بيروت
سنة النشر: ط1، 1424هـ
الصفحات: 183 صفحة من القطع
الكبير
مرة جديدة يؤكد الكاتب السعودي حسن آل حمادة تأثره
المباشر بفكر الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره الشريف)، وذلك
بمجموعة من المقالات والدراسات حول فكر الإمام الشيرازي، كان من آخراها
كتابه القيم: (الكتاب في فكر الإمام الشيرازي)، الذي قدمت له عرضاً
وقراءة نشرت مسبقاً أكثر من مرة(1)، فهو متأثر به إلى
حد كبير، بل يعده الشخصية الأكثر تأثيراً عليه(2)،
ولذلك لا عجب أن نرى مؤلفات أخرى في المستقبل لآل حمادة حول الإمام
الشيرازي وفكره.
ونلمس من مقدمته تعليلاً لهذا التأثر، حيث يقول
(ص17): "هذا الإمام العظيم الذي رأينا فيه تجسيداً رائعاً وفريداً؛
لأخلاقيات بيت النبوة (صلوات الله عليهم)، يبقى حجة علينا -أمام الله-
بما عمل وقدَّم، طوال حياته الحافلة بالخير والعطاء".. ولعل كلمة
(فريداً) التي اختارها المؤلف تدعونا للتوقف أولاً للتعرف على هذا
التفرد، الذي جعل من الإمام الشيرازي الشخصية المؤثرة في فكر الملايين
-مع اختلاف حجم ذلك التأثير-، والإجابة نجدها في كلام المفكر الإسلامي
الشيخ محمد محفوظ مدير تحرير مجلة الكلمة الذي قدَّم للكتاب، حيث يقول
(ص11): "الإمام الشيرازي (رحمه الله تعالى)، هو من أولئك الرجال الأفذاذ
الذين تمكنوا بعلمهم وجهادهم وعطائهم المتواصل في مختلف الميادين من كسر
محاولات التنميط وحشره في زاوية واحدة. بل تمكن هذا الرجل العملاق بإرادة
لا تلين وبمعنويات وأخلاقيات وروحية لا تعرف التراخي والتأجيل من بناء
ملحمة علمية-ثقافية متعددة الأبعاد والمجالات، فهو الفقيه والمؤلف
والمرجع الديني والقيادي والإداري والمجاهد الذي تجاوز الكل، "فهو ممسك
للمجد من طرفيه: من طرف العطاء والعلم والإبداع، ومن طرف التواضع والكرم
ونبل الأخلاق" (ص13).
هذا التفرد الذي يصعب اختزاله في كتاب أو حتى
عشرات المجلدات، هو الذي دعا المؤلف ليعلن عن قصوره على أن يضع عظيماً في
إطار!! (ص19).
لماذا الحديث عن العلماء؟
من الجميل أن نكتب حول الأخلاق السامية والفكر
النير والعمل الصالح، ومن الجميل أيضاً أن نكتب عمن جسَّد وبشَّر
بالأخلاق السامية والفكر النير والعمل الصالح، ليكون هناك تكاملاً بين
النظرية من جهة والقدوة الحسنة التي جسدت تلك النظرية من جهة ثانية.
ولذلك فخطاب القرآن الكريم يتحدث عن النظرية سواء
كانت قيماً داخلية أو أفعالاً خارجية، فيدعو إلى قيمة الصبر لكنه يأتي
بالمثال الحي الذي جسَّد ذلك، ويدعو إلى فعل الخيرات ويأتي بالمثال الحي
الذي جسَّد ذلك أيضاً.. فلا فكر خلاق بلا قدوة حسنة، ولا قدوة حسنة بلا
فكر خلاق، والله عز وجل يقول: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ
فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].
ومن ذلك وصية الرسول الأعظم (ص) في الحديث المعروف
باسم (حديث الثقلين)، حيث دعا (ص) إلى التمسك بكتاب الله وأهل بيته (ع)
من بعده، فكتاب الله يمثل النظرية -إن صح التعبير- وأهل البيت (ع) يمثلون
القدوة الحسنة.
إن البعض يعتقد أن الإسلام صاحب خطابات طوباوية
غير قابلة للتطبيق، وبالتالي يستحيل تحقيق النظم والمثل السماوية التي
جاء بها على أرض الواقع، وهؤلاء بكثرة -للأسف الشديد- في عالمنا العربي
والإسلامي، وقد حاورهم الإمام الشيرازي كثيراً، وسجل بعض حواراته معهم في
عدد من الكتب، أذكر منها: (مباحثات مع الشيوعيين) و(حوار حول تطبيق
الإسلام)، وكل ذلك بسبب العزوف عن القدوات الصالحة التي تمثل الثقل
الثاني في معادلة الحياة السعيدة.
ما يدعوني للحديث عن أهمية التأليف والحديث عن
الأعلام والشخصيات المؤثرة، هو حجم الانتقادات التي توجه إلى كتب السير
أو الكتب التي تدرس فكر شخص ما أو حتى كتب المذكرات، حيث يقلل البعض من
قيمتها وأنه لا داعي لإضاعة الوقت في تأليفها، وقد سمعت شخصياً بعض
الانتقادات التي وجهت من هذا القبيل للصديق المؤلف حسن آل حمادة، حول
كتابيه بالذات: (الكتاب في فكر الإمام الشيرازي) و(المنبر الحسيني بين
الواقع والطموح في حوار مع العلامة الشيخ فيصل العوامي)، وكأن المكتبة
العربية لا تعج بمثل هذه الكتب.
وينتقد البعض التأليف حول العلماء ولا يعتد إلا
بالتأليف حول إحدى شخصيات الأنبياء أو أهل البيت (ع) أو أحد الصحابة،
وكأنه ليس "العلماء ورثة الأنبياء (ع). يقول النبي الأكرم (ص): "إن مثل
العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء، يهتدى بها في ظلمات البر
والبحر، فإذا طمست أوشك أن تضل الهداة(3)، وشخصياً
أرثي لأولئك المنتقدين جهلاً أو غيرة وحقداً، وسأستمر في صلاتي تالياً
قوله تعالى في سورة الحمد: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ
الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ
الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6-7]، لعل الله عز وجل يهديني إلى الصراط
المستقيم الذي سار عليه الصالحون.
يقول العلامة الشيخ حسن الصفار: "بالطبع، فإن لكل
تجربة ظروفها وخصائصها، ولكل مصلح أسلوبه وطريقته، وحينما نقرأ أي تجربة
فإنها لا تغنينا عن سائر التجارب، ولا تلغيها ولا تخدش من قيمتها، بل
تجعلنا أمام أفق جديد، وخيار آخر ودروس إضافية"(4).
وبالمناسبة فالإمام الشيرازي كتب حول القيم والنظم
الإسلامية كثيراً، ولكنه كتب أيضاً حول الأنبياء وأهل البيت (ع) كثيراً،
كما كتب حول العلماء كثيراً أيضاً، ومن مؤلفاته حول العلماء: (من قصص
العلماء) و(من نهج العلماء) و(من تقوى العلماء) و(من أخلاق العلماء)
و(العلماء أسوة وقدوة) و(حقائق من تاريخ العلماء) و(الشيخ ابن فهد الحلي)
وغيرها.
تربية العلماء للأمة
ألَّف نفر قليل من الكتَّاب والباحثين عدداً من
الكتب حول الإمام الشيرازي سيرة وفكراً ومنهجاً، ولكن هذا الكتاب يحمل
كلمة في عنوانه تختصر الكتب السابقة وهذا الكتاب أيضاً، وتجيب على السؤال
الذي حمله الفصل الخامس: الإمام الشيرازي عبرة أم مفخرة؟، وليسمح لي
أخونا المؤلف بتبديل عبارة التساؤل لتتناسب مع عنوان كتابه: الإمام
الشيرازي.. تربية أم مباهاة؟
إن كلمة (ربانا) التي حملها العنوان لها دلالاتها
التي منها تأكيد تأثر المؤلف بأفكار الإمام الشيرازي، وأن الفكر ليس
مجرداً ثابتاً لا يتنقل من ذات إلى ذوات، فترشدنا الكلمة إلى حيوية فكر
الإمام الشيرازي ونبضه بالحياة ليكون منبعاً للتنشئة والتنمية والتغذية
الفكرية والتثقيف ينهل منه من أراد، حتى أن المؤلف يقول (ص94): "لعل من
نقاط القوة في فكر الإمام الشيرازي، أنه استطاع تربية جيل من العلماء
والمثقفين الذين حملوا على عاتقهم التبشير بنظرياته المختلفة"، ثم يقول
بعد أسطر: "نحن نشيد بفكر الإمام الشيرازي حيث استطاع أن يلمس نتاج فكره
الحضاري في شكل مؤسسات قائمة هنا وهناك.. ففكره أصبح مشروعاً قائماً على
الأرض، خلافاً للكثير من العلماء والمفكرين الذين رحلوا عن هذه الحياة
الدنيا ولم يتمكنوا من قطف ثمار أفكارهم؛ بل لم يسعفهم الزمن لنشرها في
قطاع واسع، وربما أصبحت حبيسة الأرفف، ولم ترَ النور بعد"!
ويستنتج الدكتور علي القائمي من خلال دراسة لما
ذُكر في الإسلام تحت عنوان التربية والمسائل التربوية؛ المنظار الإسلامي
لمفهوم التربية، التي هي:
- أداة للبناء المستمر وتشغيل الإنسان، والتي تثمر
بناء إنسان مفكر مؤمن ملتزم ومسؤول يتمكن من التقييم والنقد للبيئة،
ويعمل بتوجيهات الدين في مجال السلوك.
- هي إرشاد وإدارة المجرى التقدمي والتكاملي
للإنسان، بالشكل الذي يوجهه نحو الله.
- إنها تعني إيجاد هيئة جديدة في الفرد عن طريق
تهيئة الأرضية لرشده وتكامله الشامل.
- التربية معناه إحياء فطرة الله في الإنسان
وتنمية أبعاده الوجودية باتجاه الحركة نحو الكمال اللامتناهي(5).
بهذا الاستنتاج الذي لم يشر له آل حمادة بصورة
مباشرة؛ تلخص لنا كلمة (ربانا) كلاماً كثيراً حول فكر الإمام الشيرازي
وأهميته..
كما نشير هنا إلى أن العلماء مربون بالدرجة
الأولى، وعبرة لنا في حياتهم وبعد مماتهم، ولا ينبغي لنا أن نقرأ الفكر
السليم لمجرد القراءة، دون أن نعتبر ونعمل به، فيتحولون إلى مجرد أدوات
للترفيه ومضيعة الوقت، فكما أن توجيه الأب ابنه -كلامياً وعملياً- نحو
فعل الخيرات يعد تربية صالحة ويجب على الابن طاعة أبيه فيه، كذلك ينطبق
الأمر بالنسبة لعلاقة المعلم بتلميذه، أو الخطيب بمستمعيه، أو الكاتب
بقرائه، أو الممثل بمشاهده، أو ما شابه، فلكل أولئك تأثير التربية بمن
يحتك بهم أو بفكرهم.
والغاية الكبرى لمن يحمل الفكر النير أن يكون أباً
لمن يحتاج الهداية والإرشاد، ومن منا لا يحتاج؟ ولذلك ورد في الحديث
الشريف عن الرسول الأعظم (ص) وهو يخاطب الإمام علي بن أبي طالب (ع): "أنا
وأنت أبوا هذه الأمة فلعن الله من عقنا"(6)، وذلك
لتربيتهما الأمة بالفكر والعمل.
والكتاب الذي نراجعه -الآن- يحمل جزءاً من فكر
الإمام الشيرازي النير، والذي يمثل مادة خصبة للتربية والأخذ منه، حيث
يعالج الكتاب بصورة رئيسة فكر الإمام الشيرازي فيما يتعلق بالقضايا
الآتية:
1- الكتاب.
2- اللاعنف.
3- العولمة.
4- القضية الحسينية.
وليت المؤلف عالج أموراً أخرى إضافية من فكر
الإمام الشيرازي، وأضافها إلى كتابه في فصول مستقلة، وذلك فيما يتعلق
بالمحاور الآتية على وجه الخصوص:
1- حب الأنبياء وأهل البيت (ع).
2- الأخلاق والفضائل.
3- الحرية.
4- الوحدة.
5- التعددية.
6- المؤسسات.
ولن نشفع له حتى ونحن نطالع في آخر الكتاب ما
اقتبسه من أقوال ومواعظ قصار في مختلف الموضوعات من مؤلفات الإمام
الشيرازي، ولكننا سنشفع له عندما نطالع معالجة لهذه المحاور في الطبعة
الثانية من الكتاب.
الكتاب من لوازم الحياة
يناقش المؤلف في الفصل الأول من الكتاب موضوع
(الكتاب في المشروع النهضوي للإمام الشيرازي)، وهو مناقشات في أغلبها
إضافية لما طرحه في كتابه الأول: (الكتاب في فكر الإمام الشيرازي)(7).
في هذا الفصل يعرض ويناقش العديد من مقولات الإمام
الشيرازي المقتبسة من كتبه -وهذا هو المنهج الذي سيسير عليه المؤلف في
أغلب معالجاته للموضوعات التي اختارها-. ويتطرق هنا إلى علاقة المسلمين
بالكتاب، ويستنتج أن الأمة الإسلامية أمة ميتة لأنها لا تهتم بالكتاب كل
الاهتمام، ويحمل الحكومات في بلداننا العربية والإسلامية جزءاً كبيراً من
المسؤولية، ويدعو الله عز وجل أن تقوم حكوماتنا بإهدائنا -كشعوب- المزيد
من المكتبات العامة التي تعد في الغرب من أهم مراكز الإشعاع الثقافي
والتربوي، بالإضافة إلى دعم الباحثين والعلماء والمحققين.
ثم يتساءل: لماذا الكتاب؟
يقول المؤلف (ص28): "ولأهمية الإجابة على هذا
السؤال، أجاب عليه سماحة السيد الشيرازي بكتاب مستقل، بيَّن فيه أهمية
الكتاب وفائدته الكبرى، قائلاً: بأن (الكتاب من لوازم الحياة)، وقد صدرت
الطبعة الأولى لهذا العمل عام 1420هـ، فسماحته يضع الكتاب على درجة واحدة
مع رغيف الخبز، فكما أن الخبز يشكل ضرورة بالنسبة لحياة الإنسان؛ فالكتاب
أيضاً يشكل ضرورة هامة، إن لم تكن أهم؛ فالإنسان بغير الكتاب يعيش الجهل
مما قد يؤدي به إلى التعثر في مواجهة متطلبات الحياة.
وآهٍ كم نحن نعيش في زمن لا يتوفر فيه الخبز فكيف
بالكتاب(!)، ويبدو أن علامة التعجب هذه لا مكانة لها في رأي الإمام
الشيرازي، حيث يرى ضرورة أن يكون الكتاب أرخص من الخبز، لأنه طريق
التوعية والحرية التي تصنع الخبز إلى جانب التقدم والازدهار. وقد أثبتت
التجربة كيف أن بقوة الكتاب والعلم استطاعت الأمة أن تحوز التفوق الحضاري
على نظرائها في فترة من الفترات، وحين تخلت عن الكتاب لغيرها استحقت
الأخرى أن تتوج بتاج هذا التفوق، وأن تروح الأولى إلى موات.
ولذلك لا بد من القراءة، والكتابة، ولكن لمن نوجه
الكتاب؟ والإجابة باختصار (ص33): "وجهوا خطابكم للكل إن استطعتم! وجهوا
خطابكم لمن يقرأ! وليغرف كل واحد منكم غرفة بيده ليروي العطاشى الباحثين
عما يبردون به قلوبهم وأرواحهم".
فعندما نطالع مؤلفات الإمام الشيرازي نلحظ تنوع
الخطاب، فهو الكاتب الذي يكتب للنشء والشباب والمرأة والعلماء وأساتذة
الجامعات والمثقفين، يبين ويشرح ويفصل للجميع وفق ما تتطلبه المرحلة
العقلية والعمرية.
ولا بد للمثقف -في نظر الإمام الشيرازي- أن يتحمل
مسؤوليته في نشر العلم والثقافة في أوساط مجتمعه، ومن ذلك تأليف الكتاب،
حيث يدعو الإمام الشيرازي إلى نشر ثلاثة مليارات من الكتب لتوعية
المسلمين، والرد على الاعتداءات الفكرية، وعرض الإسلام بصورته الصحيحة،
وما تلك في نظر الإمام الشيرازي إلا حيلة العاجز وأقل الإيمان لمن يريد
إنقاذ المسلمين من هذا السقوط الذي لا مثيل له في تاريخ الإسلام الطويل.
ولتوصيف بعض الأدوار التي ينبغي للمثقف القيام بها
في هذا الشأن يذكر المؤلف آل حمادة بعض نشاطات الإمام الشيرازي التي تعنى
بالجانب الثقافي لكونه صاحب دور ريادي وتجربة عريقة امتدت لأكثر من نصفِ
قرن من الزمان -حسب قوله (ص38)-، ومن تلك النشاطات الثقافية تأسيسه
لعشرات المكتبات العامة، وإنشاء مئات دور النشر، وإصدار مجموعة من
المجلات، وتأسيس اللجان كلجان التمثيل ولجان تأليف الكتب ولجان إرسال
المبلغين ولجان نشر الكتب المجانية، وقبل كل ذلك تأليفه لأكثر من ألف
ومائتين كتاب!
نعم، فقد ارتبط اسم الإمام الشيرازي في ذهني -وذهن
الكثيرين- بأمور معينة، فما أن يذكر أحد تلك الأمور إلا ويتبادر إلى
الذهن اسم الإمام الشيرازي، ومن تلك الأمور: الكتاب واللاعنف.
السلم واللاعنف.. خيار البشرية
يعد الإمام الشيرازي رائد نظرية السلم واللاعنف في
عصرنا، و(ابن السماحة وشيخ السلام)(8)، فقد نظَّر لها
كثيراً، واعتبرها حلاً مهماً لا يمكن الاستغناء عنه في إحداث التغيير
الإيجابي، حتى لا يكاد كتاب من كتبه يخلو من إشارة إلى موضوع السلم
واللاعنف، كما أنه خصص كتباً لهذا الموضوع، منها: (اللاعنف في الإسلام)،
وبتوجيهاته وأفكاره تأسست مجلات وأنشئت مؤسسات تروج ثقافة السلم
واللاعنف، ونذكر منها (مجمع المسلم الحر) الذي يصدر صحيفة السلام.
وتميز الإمام الشيرازي في طرحه لهذه النظرية،
ولهذا التميز يشير المؤلف آل حمادة فيقولك (ص67): "وقد تميز -رحمه الله-
عند تأسيسه لنظريته في السلم واللاعنف أنه ذهب بها؛ لتشمل مختلف جوانب
الحياة، ابتداءً من علاقة المرء بذاته، وبأفراد أسرته، ومحيطه الاجتماعي،
وكذا علاقته بالدولة والنظام الحاكم فيها، وانتهاء بعلاقته بالآخر، أياً
يكن هذا الآخر".
كما ينقل المؤلف (ص68) رأياً للدكتور سعد الإمارة
يؤكد فيه أن الإمام الشيرازي قد جمع في طرحه لمبدأ اللاعنف أرقى الآراء
والأفكار والاتجاهات، بل ربما تنوعت بأبعادها أكثر مما طرحه المهاتما
غاندي أحد أبرز رواد اللاعنف في النصف الأول للقرن العشرين.
كما يرى الإمارة أن الإمام الشيرازي أبدع بطرحه
اللاعنف كنظرية معرفية تارة، وأبدع باعتباره شكَّل مدرسة اجتماعية
إنسانية لمبدأ اللاعنف تارة أخرى، فضلاً عن العنصر الفاعل في العمل
والسلوك أو التنظير العقلي تارة ثالثة.
ويؤكد المؤلف آل حمادة على أن مبدأ اللاعنف الذي
يدعو له الإمام الشيرازي قائماً على أسس ومرتكزات دينية؛ فالقرآن الكريم
يحث الإنسان على انتهاج اللاعنف يداً ولساناً وقلباً، وسيرة الرسول وأهل
بيته (ع) تعد من أبرز التجليات والمصاديق لسلوك منهجية السلم واللاعنف،
كما أن القراءة العميقة للتجارب التاريخية والمعاصرة تدل على نجاح العمل
السلمي على حساب غيره من الأساليب التي قد تؤدي إلى نتائج وخيمة.
وخلاصة القول -حسب قول المؤلف (ص76)- "إن الإمام
الشيرازي لم ينطلق حين تأسيسه لنظريته في السلم واللاعنف من الفراغ، بل
لم يشأ أن يستنسخ تجارب الآخرين من غير تعقل، إنما أصَّل لأطروحته
قرآنياً، ونبوياً، وعقلياً، إذ أن الأصل في الإسلام السلم واللاعنف".
إن الأمة الإسلامية بل العالم بأسره بحاجة اليوم
إلى انتهاج السلم أسلوباً وديدناً في الحياة وفي العمل الحركي، فما جر
العنف سوى العنف أو أشد، بينما ثقافة السلم واللاعنف هي الكفيلة بتحقيق
الأهداف النبيلة بالطرق النبيلة. ويتحدث الإمام الشيرازي عن ثمرتين من
ثمار اللاعنف، وهما (ص86):
الأولى: حصر العنف في دائرة ضيقة من الناحية
الكمية والكيفية.
الثانية: التفاف الناس حول من يتأنى في موقفه
ويلتزم بسياسة اللاعنف، حيث ورد في (الحليم) إن الناس أنصاره على الجاهل.
كما أن اللاعنف في فكر الإمام الشيرازي لا يعني
الخنوع والخضوع أو الاستسلام، بل استراتيجية تتخذ من موقع القوة لا
الضعف.
العولمة من منظور فقهي
يعالج الفصل الثالث من الكتاب موضوع العولمة،
معتمداً على كتاب (فقه العولمة: دراسة إسلامية معاصرة) من تأليف الإمام
الشيرازي، ومناقشاً منهجية الكتاب، ومفهوم العولمة وتكونها، والعولمة
الإسلامية، وعلاقة العولمة بحقوق الإنسان، وعلاقة المسلمين بالعولمة
الغربية.
واختيار هذا الموضوع ليحتل مساحة من صفحات هذا
الكتاب الذي نعرضه أمر جيد، فقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن ظاهرة
(العولمة) في أبعادها المختلفة، وانقسم المهتمون بها بين مؤيد ورافض،
ومتشدد ومتساهل، ومتحفظ ومنفتح. وما زال الحديث عنها ساخناً كونها تشكل
محكاً مهماً من شأنه أن يؤثر على وعي الناس وحياتهم الاجتماعية
والاقتصادية والثقافية والسياسية وغيرها.
كما أن العولمة تمثل هدفاً ذاتياً تسعى إليه كل
أمة تمتلك فكراً وثقافة معينة، مع مراعاة الاختلاف في الغاية والمنهجية
والتسمية أحياناً من أمة إلى أمة ومن عصر إلى آخر.
ولأن الكلام عن ظاهرة (العولمة) صار فيه أخذ وشد،
وأدلى فيه المثقفون والباحثون والمهتمون دلوهم وفق فهمهم واجتهاداتهم
الفكرية والثقافية، فكان لا بد من طرق هذا الموضوع من ناحية دينية فقهية
حتى تتبلور المسألة من جهة شرعية معتمدة على المصادر الدينية الأصيلة،
ومن هنا يأتي كتاب الإمام الشيرازي ليصب في هذا المنحى.
يقول المؤلف آل حمادة عن الكتاب (ص110): إنه "كان
بمثابة محاولة لتوضيح العولمة الناتجة من عمق منظومتنا الإسلامية، وأحسبه
قد حقق وعياً متقدماً في مواجهة العولمة وتحدياتها، كما أن الكتاب تميز
عن الكتابات الأخرى في هذا الشأن كونه كتب ضمن موسوعة فقهية استدلالية،
وبالرغم من ذلك فإن مؤلفه وفق لمعالجة جوانب متعددة [...] بموسوعية عميقة
ورؤية واعية، ليجعل من عمله هذا إضافة جديدة في سياق الكتابات التي كتبت
لدراسة ظاهرة العولمة".
والعولمة في نظر الإمام الشيرازي (ص100) "لا تعني
جملة وتفصيلاً اندماج العالم وذوبانه في كتلة واحدة على الطريقة
الأمريكية التي توجس منها الأوربيون أنفسهم، بل هي طريق نحو التقاء
الجميع، من أجل صناعة مستقبل الجميع". وهي تتجاوز البعد الاقتصادي لأنها
أعم وتشمل العولمة السياسية والثقافية والاجتماعية وما أشبه، وهي (إعطاء
الشيء صفة العالمية من حيث النطاق والتطبيق).
وفي الكتاب يحذر الإمام الشيرازي المسلمين من
العولمة الغربية الاقتصادية ويدعو إلى مجابهتها بعدة إجراءات، هي بإيجاز:
1- طرح أصول الاقتصاد الإسلامي المستنبط من القرآن
والسنة.
2- إيجاد مركز إسلامي اقتصادي عالمي.
3- العمل لتعديل السياسات النقدية والمالية
المخالفة للقوانين الإسلامية.
4- دعم ما تقدمه البلدان الإسلامية من الإصلاحات
الاقتصادية في مجال التطبيق.
5- تشكيل سوق إسلامية لرأي المال وحركته على مستوى
البلدان الإسلامية.
6- العمل على ارتقاء القدرات البشرية والإمكانات
التقنية في العالم الإسلامي.
7- العمل لتحرير المبادلات التجارية من كل القيود
والمضايقات.
8- العمل على استشراف آفاق المستقبل بالنسبة
لاقتصاد الدول الإسلامية.
9- العمل من أجل الوصول إلى الاكتفاء الذاتي
الاقتصادي في العالم الإسلامي.
10- الاستفادة من التجارب الاقتصادية العالمية في
مجابهة العولمة كالتجربة الصينية.
الاهتمام بالقضية الحسينية
من القضايا المهمة التي اهتم بها الإمام الشيرازي
هي قضية الإمام الحسين (ع) والنهضة التي أحدثها في الإسلام بثورته في
كربلاء عام 61هـ، وقد ألَّف الإمام الشيرازي كتباً كثيرة حول الإمام
الحسين (ع)، منها: ثورة الإمام الحسين (ع)، جهاد الحسين (ع) ومصرعه،
الحسين (ع) أسوة، رؤى عن نهضة الإمام (ع)، الحسين (ع) مصباح الهدى وسفينة
النجاة، جزاء قتلة الإمام الحسين (ع) وأصحابه، الاستفادة من عاشوراء،
عاشوراء والقرآن المهجور، قبس من شعاع الإمام الحسين (ع).
وفي الفصل الرابع من هذا الكتاب يناقش المؤلف آل
حمادة القضية الحسينية في فكر الإمام الشيرازي، ويقول (ص113) بأن الإمام
الشيرازي جعل من هذه القضية "محطة انطلاق وعروج ينبغي للمسلمين التمحور
حولها ليستضيئوا بقبس من معطياتها الكثيرة".
إن قضية الإمام الحسين (ع) تشد إليها ملايين
المتابعين مطلع كل عام هجري، ولذلك فالإمام الشيرازي يرى ضرورة إحياء هذه
القضية، والتركيز خلالها على جملة من الموضوعات من أهمها هذين الموضوعين:
1- وجوب تطبيق كل الأحكام الشرعية وجميع القوانين
الإسلامية الثابتة عن طريق القرآن والسنة المطهرة.
2- وجوب هداية غير المسلمين جميعاً، وخاصة هداية
غير المسلمين إلى الإسلام.
ويؤكد (ص114) "بأن على المسلمين عامة، والخطباء
والمبلغين وأصحاب القلم والمنبر خاصة، التحدث بهما والكتابة عنهما، حتى
ينتشر ذلك في المجتمع الإسلامي، ويتعرف عليه جميع المسلمين".
فقضية الإمام الحسين (ع) -وفق ذلك- لا تخص الشيعة
وحدهم حسبما يتوهم البعض، ولا تخص المسلمين وحدهم أيضاً، بل للإمام
الحسين (ع) رسالة ينبغي تبليغها لكل المسلمين على اختلاف مذاهبهم، ولكل
العالم على اختلاف دياناتهم وتوجهاتهم.
وينبغي الاهتمام بمسائل أخرى أيضاً، كالحرية في
الإسلام، ورفع الحواجز النفسية بين المسلمين، وإلغاء الحدود الجغرافية
المبتدعة، ورفض الجواز والجنسية فيما بين المسلمين.
ويشير المؤلف آل حمادة إلى أن الإمام الشيرازي قد
دوَّن شيئاً من تجاربه في الخطابة حول القضية الحسينية في كتاب بعنوان:
(تجاربي في المنبر)، وفيه يركز على أربعين مسألة مهمة ينبغي للخطباء
الالتفات إليها، تدور حول ضرورة الإخلاص لله عز وجل، وتهيئة النفوس لقبول
الإرشاد، والإطلاع العلمي، والتحليل، و...
حوار حول محاور متعددة
الفصل الخامس ضمَّ حواراً أجراه المؤلف مع العلامة
الشيخ يوسف المهدي، من أوائل العلماء الذين بشروا بمرجعية وأفكار الإمام
الشيرازي. ودار الحوار حول أهمية الاستفادة من فكر الإمام الشيرازي
والاعتبار من حياته، دون الاكتفاء بالافتخار والمباهاة والاحتفاء.
كما تناول الحوار موضوع التجديد في نتاج الإمام
الشيرازي، حيث تحدث العلامة المهدي عن بعض ملامح التجديد الفقهي والفكري
عند الإمام الشيرازي، فهو قد أعطى رؤية جديدة وفتح أفقاً جديداً للعلماء
عندما تناول في موسوعته الفقهية مستجدات لم تكن مطروحة في السابق، كفقه
الاجتماع والسياسة والنفس والاقتصاد والإدارة والحقوق والقانون والعولمة،
كما أنه جدد في تناول مجموعة من المفاهيم الإسلامية بصورة مفصلة في مسائل
كالشورى والحرية والوحدة الإسلامية والأخوة.
ومن تجديده في جانب المرجعية، يقول العلامة المهدي
(ص135): "كتب كتاباً إلى وكلائه وأسماه: (إلى الوكلاء في البلاد)، وهو
يحتوي على برنامج عملي لكل وكلائه، ومن خلال تجربتي، لم أطلع إلى الآن
على أي رسالة تحتوي على برامج عملية موجهة من مرجع إلى وكلائه، عند تصديه
للمرجعية! علماً بأن الإمام الشيرازي، استطاع أن ينتقل بالمرجعية من
مسألة الفتوى، وكتابة الرسالة العملية، إلى مسألة قيادة الأمة، والتصدي
لمشاكل الناس من خلال تأسيس المؤسسات، ورعاية المشاريع الاجتماعية،
والثقافية، والفكرية، في شتى بقاع الأرض".
كما احتوى الفصل الحواري هذا على حديث حول علاقة
الفقيه بالعلوم التخصصية، ومميزات فكر الإمام الشيرازي من أصالة وانفتاح،
ومظلوميته ومعاناته في جهاده الطويل، وحول تطبيق نظرية شورى الفقهاء.
وأخيراً نتساءل كما تساءل المؤلف في ذيل مقدمته:
هل نحن نعمل بجد على تطبيق أفكار الإمام الشيرازي
في حياتنا؟
أم نكتفي بترديدها والتغني بها؟
* الهوامش:
1. نشر أولاً بعنوان: (الإمام
الشيرازي.. نادرة التأليف)، في مجلة قرطاس الكويتية، ع62، صيف 2001م.
2. وذلك في حوار أجرته معه (سارة
الصفار)، ونشر على صفحات الإنترنت، ومنها موقع (قطيفيات).
3. محمد باقر المجلسي. بحار
الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، ط4، (بيروت: مؤسسة أهل
البيت، 1410هـ)، ج2، ص25.
4. عبدالهادي الفضلي وحسن
الصفار. الشيخ محمد أمين زين الدين.. الدور الأدبي والجهاد الإصلاحي، ط1،
(بيروت: دار الجديد، 1999م)، ص104.
5. علي القائمي. أسس التربية،
ط1، (بيروت: دار النبلاء، 1415هـ)، ص29.
6. محمد باقر المجلسي. مصدر
سابق، ج36، ص6.
7. صدرت الطبعة الأولى منه عام
1421هـ عن دار الخليج العربي ببيروت، والطبعة الثانية عام 1422هـ عن هيئة
محمد الأمين بالكويت.
8. تعبير للكاتب خالد القشطيني
حول الإمام الشيرازي، في مقالة نشرت في جريدة الشرق الأوسط اللندنية،
13/11/1422هـ.
المصدر: قطيفيات |