هو عوسجة بن سعد بن ثعلبة بن دودان
بن أسد بن خزيمة، كنيته أبو حجل، من أصحاب الرسول الأعظم (صلى الله
عليه وآله)، له مواقف بطولية في الفتوح الإسلامية وهو من عباد
الكوفة وملازمي جامعها الأعظم، و له دور كبير في حركة مسلم بن عقيل
(رضوان الله عليه)، وكان أحد أقطابها. من عيون أنصار الحسين (عليه
السلام). قاتل يوم عاشوراء قتالاً لم يسمع بمثله حتى استشهد.
عندما قرر الامام الخروج من مكة الى
العراق ارسل الى اهله وشيعته وجمعهم حوله قائلا لهم انه خارج ليلبي
دعوة المسلمين له لتخليصهم من ظلم بني امية وجورهم.
وقال له أهله وتقدمهم العباس
بالكلام: لِمَ نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك أبداً،
فقام مسلم بن عوسجة وقال: أنحن نخلي عنك، ولم نعذر إلى الله في
أداء حقك؟ أما والله لا أبرح حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضرب بسيفي
ما ثبت قائمه بيدي ولا أفارقك، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به
لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك، ثم تكلم أصحابه على
نهجه.(إبصار العين: 73).
اننا نجد في معسكر الحسين (عليه
السلام) الفضيلة، والخلق النبيل، والمكارم بأجمعها، وليس ذلك بغريب
فعقيدتنا بالإمام أن يكون متحلياً بجميع الصفات الخيرة، حائزاً على
أسمى درجات الكمال، لا يسبقه فيها سابق، ولا يلحقه فيها لاحق.
قال الضحاك المشرقي، لما أقبلوا
نحونا فنظروا إلى النار تضطرم في الحطب والقصب الذي كنا ألهبنا فيه
النار من ورائنا لئلا يأتونا من خلفنا، إذ أقبل إلينا منهم رجل
يركض على فرس كامل الأداة، فلم يكلمنا حتى مر على أبياتنا فنظر إلى
أبياتنا فإذا هو لا يرى إلا حطباً تلتهب النار فيه، فرجع راجعاً
فنادى بأعلى صوته: يا حسين استعجلت النار في الدنيا قبل يوم
القيامة.
فقال الحسين (عليه السلام): من هذا؟
كأنه شمر بن ذي الجوشن؟
فقالوا: نعم أصلحك الله هو.
فقال: يا ابن راعية المعزى أنت أولى
بها صليّاً.
فقال له مسلم بن عوسجة، يا بن رسول
الله، جعلت فداك ألا أرميه بسهم؟ فإنه قد أمكنني وليس يسقط (مني)
سهم فالفاسق من أعظم الجبارين.
فقال له الحسين: لا ترمه، فإني أكره
أن أبدأهم. (تاريخ الطبري 6/242).
وبقدر ما يكون هذا الموقف الإنساني
النبيل من سيد الشهداء (عليه السلام) مع أعدى أعدائه هو موقف بطولي
لشهيدنا الخالد ـ مسلم ـ لمبادرته لقتال الظالمين.
كانت الإجراءات العسكرية التي اتخذها
سيد الشهداء (عليه السلام) يوم عاشوراء على غرار ما تعمله الجيوش
الكبيرة، من تقسيم الجيش إلى ميمنة وميسرة وقلب، رغم قلة أصحابه.
ويظهر أنه (عليه السلام) كان يريد
تطويل ساعات الحرب مستوعباً ذلك اليوم، وأن لا يلقي بنفسه وأصحابه
في ساحة الحرب في ساعة واحدة.
كان (عليه السلام) يريد أن يعظ
القوم، يريد إعلان دعوته، يريد حتى التنكيل بأهل الكوفة، والأخذ
بثأره وثأر أصحابه، لما في ذلك من تلقين دروس قاسية لكل معتد ظالم.
فلو قدر أن يقتل الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه صبراً، أو
بعد قتال قليل فإن فيه من المهانة والذل لكل طالب حق، والجرأة لكل
ظالم ولو بعد حين، فقد لقن (عليه السلام) أهل الكوفة درساً لم
ينسوه أبداً، وما ترك في الكوفة بيتاً إلا وفيه نائحة.
روى ابن أبي الحديد: قيل لرجل شهد
يوم الطف مع عمر بن سعد: ويحك أقتلتم ذرية رسول الله (صلى الله
عليه وآله) فقال: عضضت بالجندل، إنك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما
فعلنا، ثارت علينا عصابة أيديها في مقابض سيوفها كأسود ضارية، تحطم
الفرسان يميناً وشمالاً، وتلقي أنفسها على الموت، لا تقبل الأمان،
ولا ترغب في المال، ولا يحول حائل بينها وبين الورود على حياض
المنية أو الاستيلاء على الملك، فلو كففنا عنها رويداً لأتت على
نفوس العسكر بحذافيرها، فما كنا فاعلين لا أم لك؟ (شرح نهج البلاغة
3/267).
وكيف كان فقد كان جيش الحسين (عليه
السلام) مؤلفاً من ميمنة وعليها زهير بن القين، وميسرة وعليها حبيب
بن مظاهر، وقلباً فيه الهاشميون، وقد أدت هذه الوحدات دورها بأحسن
ما يكون، فقد قاتلت جمعاً وفرادى وصدت هجمات العدو العنيفة، كل ذلك
حسب التخطيط الذي رسمه لها سيد الشهداء (عليه السلام)، وقد سجل
المؤرخون وأهل المقاتل صور الحرب والقتال فقالوا: ثم خرج مسلم بن
عوسجة الأسدي وهو يقول:
من فرع قوم من ذرى بني أسد
وكـــــافر بديــــــــن جبار صمد
إن تسألوا عني فإني ذو لبد
فمن بغاني حائد عن الرشـد
فخرج لنافع رجل من بني قطيعة فقال
لنافع: أنا على دين عثمان.
فقال نافع: أنت على دين الشيطان،
وحمل عليه فقتله.
فأخذ نافع ومسلم يجولان في ميمنة ابن
سعد، فقال عمرو بن الحجاج وكان على الميمنة: ويلكم يا حمقاء مهلاً،
أتدرون من تقاتلون، إنما تقاتلون فرسان المصر، وأهل البصائر،
وقوماً مستميتين، لا يبرزن منكم أحد إلا قتلوه على قلّتهم. والله
لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم.
فقال ابن سعد: صدقت، الرأي ما رأيت،
فأرسل في العسكر من يعزم عليهم: أن لا يبارز رجل منكم، فلو خرجتم
وحداناً لأتوا عليكم مبارزة.
ثم دنا عمرو بن الحجاج من أصحاب
الحسين ثم صاح بقومه: يا أهل الكوفة ألزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا
ترتابوا في قتل من مرق من الدين وخالف إمام المسلمين.
فقال له الحسين(ع): يا بن الحجاج
أعليّ تحرّض الناس؟ أنحن مرقنا عن الدين وأنتم ثبتم عليه؟ ولتعلمن
أيّنا المارق عن الدين، ومن هو أولى بصلي النار. (مقتل الحسين
للخوارزمي 2/15).
ثم حمل عمرو بن الحجاج من نحو
الفرات، فاقتتلوا ساعة، وفيها قاتل مسلم بن عوسجة، فشد عليه مسلم
بن عبد الله الضبابي، وعبيد الله بن خشكارة البجلي، ثارت لشدة
الجلاد غبرة شديدة، وما انجلت الغبرة إلا ومسلم صريعاً، وبه رمق،
فمشى إليه الحسين (عليه السلام) ومعه حبيب بن مظاهر، فقال له
الحسين: رحمك الله يا مسلم (منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما
بدلوا تبديلاً). (مقتل الحسين للمقرم: 297).
إن حياة هذا الصحابي الجليل سلسلة
جهاد مع الظالمين، ثم كانت الخاتمة الكريمة (وَفَضَّلَ اللهُ
الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) (النساء:
95).
ذكر أهل المقاتل والتاريخ: أن الحسين
(عليه السلام) مشى لمصرع مسلم بن عوسجة ومعه حبيب بن مظاهر الأسدي،
فدنا منه حبيب فقال: عز عليّ مصرعك يا مسلم، أبشر بالجنة.
فقال له مسلم قولاً ضعيفاً: بشرك
الله بخير.
فقال له حبيب: لولا أني أعلم أني في
أثرك لاحق بك من ساعتي هذه لأحببت أن توصيني بكل ما أهمك حتى أحفظك
في كل ذلك بما أنت أهل له في القرابة والدين.
قال: بل أنا أوصيك بهذا رحمك الله ـ
وأهوى بيده إلى الحسين ـ أن تموت دونه.
قال: أفعل ورب الكعبة. فما كان بأسرع
من أن مات في أيديهم. (تاريخ الطبري 6/249).
ـ قال الإمام الحسين (عليه السلام)
وقد وقف على مصرعه:
(رحمك الله يا مسلم (فَمِنْهُمْ مَنْ
قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا
تَبْدِيلاً)). مقتل الحسين للخوارزمي 2/16).
قال الإمام المهدي (عليه السلام) في
زيارة الناحية:
(السلام على مسلم بن عوسجة الأسدي،
القائل للحسين (عليه السلام) وقد أذن له في الانصراف: أنحن نخلي
عنك؟ وبم نعتذر عند الله من أداء حقك؟ لا والله حتى أكسر في صدورهم
رمحي هذا، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولا أفارقك، ولو لم
يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ولم أفارقك حتى أموت
معك).
وكنت أول من شرى نفسه، وأول شهيد من
شهداء الله قضى نحبه، ففزت ورب الكعبة، وشكر الله لك استقدامك
ومواساتك أمامك إذ مشى إليك وأنت صريع، فقال: يرحمك الله يا مسلم
بن عوسجة وقرأ (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)، لعن الله المشتركين في
قتلك: عبد الله الضبابي، وعبد الله بن خشكارة البجلي، ومسلم بن عبد
الله الضبابي. (الإقبال: 46).
ـ قال العسقلاني في الشهيد مسلم بن
عوسجة:
إنه كان رجلاً شريفاً، سرياً،
عابداً، قارئاً للقرآن، متنسكاً، استشهد مع الحسين (عليه السلام)
بطف كربلاء. (تنقيح االمقال 3/214).
ـ قال محمد بن سعد:
كان صحابياً، ممن رأى النبي (صلى
الله عليه وآله)، وروى عنه الشعبي، وكان فارساً شجاعاً له ذكر في
المغازي والفتوح الإسلامية. (تنقيح المقال 3/214).
ـ قال أبو القاسم النراقي:
مسلم بن عوسجة: من حواري أبي عبد
الله الحسين (عليه السلام) قتل معه بكربلاء. (شعب المقال: 104).
ـ قال الشيخ عبد الله المامقاني:
وكان صحابياً، ممن رأى النبي (صلى
الله عليه وآله)، وكان رجلاً شجاعاً، له ذكر في المغازي والفتوح
االإسلامية، مضى على ذلك ابن سعد في محكي طبقاته.
وأقول: جلالة الرجل وعدالته، وقوة
إيمانه، وشدة تقواه، مما تكل الأقلام عن تحريرها، وتعجز الألسن عن
تقريرها، ولو لم يكن في حقه إلا ما تضمنته زيارة الناحية المقدسة
لكفاه. (تنقيح المقال 3/214). |