حينما يقف المرء أمام ظاهرة المراسم
الحسينية لواقعة الطف وقفة تأمل، فانه سوف لن يستطيع إكمال مشواره
التأملي لفيض الظواهر والمشاهد، التي يقف العقل الذي ينزوي في
حجراته المظلمة عاجزاً عن تفسيرها، إلا إذا حباه الله بنور اليقين
الصادق المستمد من فيض الله عز وجل.
ومن تلك الظواهر الروح الباسلة
لأشياع الحسين، الذين كانوا معه في واقعة الطف والذين يوالونه من
بعد هذه الفاصلة الزمنية، وبلمحة خاطفة نجد إن الأشياع معه تمسكوا
بطريق الجهاد والاستشهاد، الذي علموا بوقوعه بالعلم الصادق
اليقيني، مع وجود فسحة من الميل عن ذلك الطريق حينما خاطبهم المردة
من أتباع جيش الضلالة بترك سبيل الحسين والنجاة بأنفسهم وأهليهم.
فهذه الروح الجهادية الاستشهادية،
قد يتطاول البعض ويفسرها على وفق معطيات من لا يعلم حقيقة الثوار
الحسينيون، فيقول إنهم كانوا تحت تأثير العاطفة وقسوة المشهد مع
الطبع العربي الذي يأبى الغدر والتخلي عن الحليف، فإذا سلمنا بذلك
فكيف لنا أن نفسر امتداد تلك الصفة وهذه البسالة الى الأجيال
الموالية لثورة الحسين منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا وسيستمر الى
ما شاء الله.
ويحدثنا التاريخ عن شواهد ارتكبها
الطغاة والقساة تمثلت بأدنى مستويات الخسة والرذيلة، بحق شيعة
الحسين وأنصار ثورة الحسين وأوقعوا بهم الظلم الذي لم يجري على
احد من قبل من تقطيع وتقتيل وتمثيل وحبس ودس وما شابه ذلك، فهل من
تفسير عقلي ومنطقي لهؤلاء، وفي عهدنا الحاضر وجدنا ماذا فعل الطغاة
من أمثال النظام المقبور، وكيف أدمى الزائرين لمقام الحسين وأوقع
بهم شتى صنوف التنكيل والاعتقال، فما الذي جرى هل انقطع السيل أم
توقف الركب؟
كلا بل زادوا إصرارا وكانوا يعلنون
ويجهرون بالولاء للحسين وعقيدته الثائرة ويذكون جذوتها، وكان
النظام المقبور يتناسب مع حجم إصرارهم تناسباً طردياً وحشد امكانات
دول وليس دولة واحدة لكبح جماح الثورة الحسينية، فمنع منابرها وغلق
مدارسها واحرق كتبها وقتل قادتها ومنظريها واعتقل أنصارها
ومريديها، فماذا حصل هل تلاشت أو اضمحلت أم تنامت وانتشرت؟
جوابنا كلا إنها تذكي القلوب وتؤجج
المشاعر وتزلزل الأرض تحت أقدام الطغاة، وما نحن فيه ألان إلا خير
شاهد على ما أقول، حينما سنحت فسحة من الحرية الناشئة من المعادلات
السياسية، نراها عادت ليس كما كانت فحسب بل أكثر القاً وأعظم أثرا.
ويبقى السؤال لماذا هذا الاصرار وهذا
التفاني ؟ الجواب على ذلك موجود عند كل انسان مخلوق على وجه
البسيطة، وما عليه إلا أن يعود الى الله والى ذاته وفطرته وسيجد
نفسه في غمار فيض الثورة الحسينية وسينير الله بصيرته ويشحذ همته
ويعتلي للمجد صهوته.
إن الأمر لا يتعلق بعارض زائل، بل
فطرة فطرنا الله عليها وطبع دربتنا عليه أمهاتنا حينما تهدهدنا في
المهاد وحينما ترضعنا من صدرها، فقد اختلطت ثورة الحسين بدمائنا
وأصبحت عزائنا، واما على ما فطرنا الله عليه، فان الإنسان حينما
تضيق به الأمور يقف عاجزاً نظراً لكينونته الناقصة المحتاجة لقوى
غيبية تحركه وتمده بالقوة، فحينها يلجأ الى ثوابت الايمان لاستعادة
توازنه، فما له إلا التمسك بسبل النجاة ومصابيح الهدى فتراه يميل
بلا وعي نحو الحسين وثورته أما متأسياً بها أو عائداً إليها ليعيد
التناغم لسلوكه معها ويتطبع بطبعها، وهذا يقودنا الى استنتاج أهم
حول تلك الروح التسامحية لهؤلاء حتى مع أعدائهم وانعدام عدوانيتهم
تجاههم، بل على العكس تراهم يشفقون حتى على من قتلهم لان في قائدهم
ومفجر ثورتهم الإمام الحسين روح التسامح المستمدة من جده الرسول
الأكرم حينما يبكي على جيش الظلم خوفاً عليهم من نار جهنم ويرشدهم
للحسنى وهم يقتلونه وإتباعه وعياله.
وهذا هو ذات السبيل الذي يسير عليه
أتباع الحسين في حاضرنا المعاصر، واليوم نشهد موجة جديدة من العنف
ضد مواكب العزاء الحسينية وضد كل من يعظم الشعائر الحسينية من قبل
أناس معروفين في الخط والتوجه ومعلومين محل الإقامة والتوطين، لكن
لم نجد من يثأر انتقاماً ويتعدى على حق من حقوق الله وينفرد
بالانتقام بل على العكس، ترى أنصار الحسين يزدادون إصرارا على
إدامة الشعائر ورسم المراسم ويواجهون هؤلاء الظلمة بسلاح الحسين،
ألا وهو الإيمان بالعقيدة الذي سحب سلطان القوة من أيدي الطغاة،
الذي يلوحون به وأبدلوا تهديد الطغاة بالموت الى طلب أنصار الحسين
للشهادة وجعلوا منهم وسيلتهم للنصر وقلبوا الميزان على رأس الظالم،
فنرى الأنصاري الحسيني يواجه هؤلاء بوجه مسفر وصدر مفتوح ينشد
الشهادة ليلحق بركب الحسين،فافشل بذلك خطهم وخطتهم وقزمهم حتى
باتوا على ذلهم يندبون حظهم الذي أضرهم في الدنيا وأخرجهم من رحمة
الله.
فليتعض هؤلاء ويبتعدوا عن أميتهم و
يقرؤوا التاريخ من جديد ويبحثون عن مسيرة أنصار الحسين والمجد الذي
حصلوا عليه، ويسألوا عن مصير الطغاة من أشباههم، فاني على يقين إذا
ما فعلوا ذلك بعقل متبصر وفكر متحرر سيجدون إن الحسين بثورته أعاد
مجد الإسلام وأحياه وحافظ حتى على أعراضهم وسيعلمون إن الحتمية
التاريخية تؤكد القول بدوام النصر للحسين وأتباع الحسين وأنصار
الحسين وشيعة الحسين. |