عندما نقرأ شخصية الإمام الحسين فإننا نقرأ شخصية تتجدد، وتزداد
تألقاً، فهو وسائر أهل البيت(ع) لم يختصوا بجانب واحد من جوانب
الحياة، وإنما استوعبوا الحياة بأجمعها، ولم يختصوا بقوم دون آخر بل
هم قدوة لجميع أهل الأرض.
لقد خط الإمام الحسين بنهضته أروع الأساليب في القيادة والحركة،
وأعطى أروع الصور في الجهاد والتضحية، وقدم لنا أكمل النماذج في
التعامل مع الأهل والأعداء، وفي التعامل مع الأصحاب والأتباع.
الإمام الحسين (ع) هو شخصية استوعبت الحدث فتعاملت معه أفضل وأنجح
تعامل، وهنا أود أن أشير إلى بعض كلمات الإمام الحسين التي تبين لنا
تلك الرؤية التي كان يتميز بها الإمام الحسين في نهضته المباركة.
الحسين ..الصراحة
المتأمل في كلمات الإمام (ع) يجدها صريحة وواضحة، لم يتعامل
الإمام بأسلوب اللف والدوران، بل كان يوضح لأصحابه وبكل صراحة ما كان
ينتظرهم، حيث يقول: ( ... خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على
جيد الفتاة وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخيّر لي
مصرع أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي يتقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس
وكربلا... من كان فينا باذلاً مهجته وموطّناً على لقاء الله نفسه
فليرحل معنا فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله... ).
لماذا هذا الأسلوب ولماذا هذه الصراحة؟
أراد الإمام من ذلك أن يوضح لمن لحق به أن المصير والمستقبل سيكون
( الموت ) وليس مناصب دنيوية، وليس أموالاً وجاهاً، فمن يرغب في
الموت فليلحق بنا.
وأراد الإمام من كلماته هذه أن يغربل ويمحص من التحق به، وحتى
يتبين المؤمن من غيره، وهذا ما حدث حيث بقي معه في هذه الحركة صفوة
وخيرة الأصحاب حتى قال عنهم: (فإنّي ﻻ أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً
من أصحابي) وهم المؤمنون حقاً، والعارفين بمكانة الحسين وما هو مطلوب
منهم تجاهه، وتركه كل من رغب في المال والمنصب بعد أن سمعوا كلمة
الإذن بالانصراف (... ألا وانّي قد أذنت لكم، فانطلقوا جميعاً في حلّ
ليس عليكم منّ ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً...).
الحسين... المنقذ
في يوم عاشوراء تحدث الحسين(ع) بعدة كلمات وضح فيها شخصيته ـ وإن
كانت معروفة لدى القوم ـ (... وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم
الله فيه عليكم وأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحلّ بكم نقمته، وجنّبكم
رحمته، فنعم الربّ ربّنا، وبئس العبيد أنتم! أقررتم بالطاعة، وآمنتم
بالرسول محمد (صلى الله عليه وآله) ثم إنّكم زحفتم إلى ذرّيته وعترته
تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان، فأنساكم ذكر الله العظيم،
فتبّاً لكم ولما تريدون، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، هؤلاء قوم
كفروا بعد إيمانهم فبعداً للقوم الظالمين...).
أستخدم الإمام هذا الأسلوب لأنه يعلم أن هناك بين صفوف القوم ثلة
لا يزال الضمير حياً عندهم وهم بحاجة إلى كلمة هدى، كلمة تنقذ ما
يمكن إنقاذه، وتشحذ همهم ليتراجعوا عن هذه الجريمة العظيمة.
الإمام (ع) كان يعلم أن لكلماته وخطبه الأثر البليغ في هداية
الناس وهذا واجب عليه، وهذا شأن أبيه وأخيه عليهم السلام فالخطوة
الأولى أن تقيم الحجة، لا أن تبدأ بالقتال.
وكان لكلماته أثرها حيث استجاب بعض الشخصيات لهذا النداء الرباني
والتحقوا بركب الشهادة، وكان في مقدمتهم الفارس الشجاع الحر الرياحي
الذي حسم موقفه متأثراً بكلمات الهداية.
الحسين ... الروحية العالية
يوم عاشوراء كان يوماً حافلاً بالأحداث والمصائب، والمآسي، فقد
حصد الكثير من أهل بيت الرسالة وخيرة الأصحاب ولكن الإمام الحسين بقي
صامداً كالطود الشامخ، لم يتأثر، لم يتراجع، لم يطالب بهدنة بقي
مصراً على موقفه، فما سبب ذلك ؟
خرج الإمام (ع) حاملاً طفله الرضيع متجهاً إلى القوم، طالباً منهم
أن يسقوا هذا الطفل الذي لا ذنب له، ولكن كانت الإجابة أن سددوا
سهماً إلى نحر الرضيع، وبعد أن استقر السهم في نحره أخرج يديه من
قماطه وجعل يرفرف على صدر أبيه كالطير المذبوح وانحنى الطفل رافعاً
رأسه إلى السماء ومات على ذراع أبيه...
فهل هناك أعظم من هذه المصيبة!
فما كان من الإمام إلا أن رمى بقطرات الدم نحو السماء ولم تسقط
قطرة واحدة إلى الأرض وأخذ يناجي ربه قائلاً: ( هوّن ما نزل بي إنه
بعين الله تعالى .. اللهم لا يكون أهون عليك من فصيل، إلهي إن كنت
حسبت عنا النصر فاجعله لما هو خير منه، وانتقم لنا من الظالمين،
واجعل ما حل بنا في العاجل ذخيرة الآجل، اللهم أنت الشاهد على قوم
قتلوا أشبه الناس برسولك محمد (ص) )
هذه الكلمات وهذا الموقف نفهم منه أن الحسين (ع) عندما انطلق في
حركته لم ينطلق من ذاته وإنما انطلق من الله تعالى، ولأن الله يريد
منه أن ينطلق من هذا المنطلق، ولهذا فإن الحسين كان شديد التعلق
بالله في كل خطوة يخطوها، وفي كل حركة يتحركها، ومن تكون هذه صبغته
فإن تلك المصاعب لا تساوي شيء في حياته، فإنه يعلم أن العاقبة
والنتيجة ستكون إلى الأفضل.
الحسين ... معلم الأجيال
إن هذه الحركة هي بمثابة مدرسة، وإن الحسين لهو خير معلم للأجيال
الذي يعون واقعهم فيسيرون بسيرة الحسين في رفضهم للواقع، وسعيهم
للتغيير والإصلاح.
جاء الإمام الحسين بحركته ليعلمنا أن نستوعب قضايا الأمة والمآسي
التي تعانيها، ليعلمنا كيف نتعامل وكيف نستوعب ما يجري حولنا.
إن كل كلمة تكلم بها الإمام الحسين(ع) في يوم عاشوراء إنما كانت
نبراساً للأمة التي ترغب في الخروج من حالة الوهن والضعف.
وستبقى الكلمات تعطي ثمارها لمن يرغب في أن يغترف من عطاء
الحسين(ع) ولمن يرغب في أن تكون هذه الكلمات نوراً ومشعلاً يضيء له
الدرب ويهديه سبل الرشاد. |