الصفحة الرئيسية

مجلة النبأ

المرجعية الدينية

التاريخ يصنعة العظماء

 

 

 

واقعة كربلاء .. سفر الخلود

قراءة سيكولوجية للتاريخ

د. اسعد الامارة*

يبدو ان جمهرة من الصحابة والمقربين من سدة الحكم في عصر الخلافة الاولى انصرفوا عن شؤون الدولة او التعمق بما آلت اليه الامور زمن الخلافة الاموية لا سيما بعد حدوث التغيرات الجوهرية في ادارتها وما كان مألوفاً وأن اكثرهم نفعاً هم اؤلئك الذين بدأوا ركوب موجة الاستفادة المادية التي اغدقتها الدولة الاموية انذآك من اموال وجاه ومواقع اجتماعية كان يفتقدها البعض خصوصاً زمن خلافة الامام علي بن ابي طالب 'ع' لان الامام علي عرف عنه رجل مبادئ رغم دهائه في الحروب وعظمة شجاعته ، الا انه لم ولن يداهن من في نفوسهم شوائب باموال الدولة او بذخ في المنح والهبات لمن يتمنى الحصول من اموال بيت المسلمين ، حتى انه لم ولن يتجاوز على حق مال بيت المسلمين .

لقد وضح لكل الناس زمن الرسول او خلفاءه ان علياً واولاده كانوا من اعظم الرجال في خدمة الاسلام ، فلم ينظر لهم احداً نظرة ارتياب او شك او مصلحة وحجتهم في ذلك ان سمات وملامح تربية وتنشئة رسول الله "ص" كانت واضحة المعالم على ابناء فاطمة بنت النبي محمد وزوجها علي بن ابي طالب وهي حقيقة عرفها الجميع عبر عقود الدولة الراشدية ، اما العهد الجديد الذي اقامه معاوية بن ابي سفيان مؤسس دولة بني امية على اعتاب مقتل الامام علي بن ابي طالب يعد بمثابة عودة الى عصر الجاهلية ، وهذا هو ما لمسه وما رأه اقرب المقربين ممن سايروا علياً وبعض من ساير خلفاء الفترة الراشدية حتى اتباع معاوية . كان الشأن والهم الرئيس هو التقرب الى سلطة الخليفة الجديد الذي قلب كل الموازين منذ بداية الدعوة الاسلامية التي دعى اليها النبي محمد "ص" وانتهاءاً بخلافة علي "ع" ، فكأن تشبثهم بما قدمه لهم معاوية بن ابي سفيان في تبوأ المواقع الاجتماعية ، والاغداق عليهم بالاموال طبقاً لتعاليم اللعبة السياسية السائدة آنذاك القائمة على تفتيت انصار علي بن ابي طالب وشيعته والثأر من بني هاشم ، هو الشغل الشاغل لسياسة معاوية ورجاله من بني امية على النحو الذي ارسى اولى تلك القواعد توجهات معاوية خلال خلافة عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين في تميتين الصلات القبلية لبني امية في بناء الدولة الاسلامية ، وهي عدت بحد ذاتها عودة للعصبية القبلية التي نبذها الاسلام اصلا .

ولما تبين ان اكثر دعاة الاسلام الاوائل هم من الذين تغيرت مواقفهم نحو الخلافة الجديدة بالتقرب وابداء القبول التام لما يقوم به الخليفة بات على معاوية ان يظهر كل دوافعه القديمة وعقده الخاصة تجاه الاسلام بشكل من شأنه ان يوهم هؤلاء الناس ان نواياه هي لصالح الاسلام وليست ذات اثر سئ كما يعتقد بعض الذين امنوا بمبدئية علي وامنوا بان لهم في رسول الله اسوة حسنة ، ومما زاد الامر سوءاً عندما تبوأ ولده "يزيد" الخلافة بالوراثة ، اصبح الامر اكثر سوءاً ، فضلا عن الصمت المطبق الذي ابداه المقربون ممن باعوا اصواتهم مقابل حفنة من تراب الدنيا لا تساوي شيئاً .

اضطر البعض من الاحرار وبعد تردد الى ان يرفعوا اصوات الرفض والاحتجاج عما يجري في الدولة الاسلامية التي تقهقرت في اسسها ومبادئها وتشريعاتها نحو الجاهلية مرة ثانية ، حتى بات الامر وكأنه عودة الى زمن الردة ولكن بشكل محكم سياسيا من الداخل وذو طابع الاسلام المشوه بالزيف خارجيا ، وجدير بالذكر ان المبادئ التي اعتنقها المسلمين الاوائل لم تكن مجرد مبادئ وفروض للتسلية كما يعتقد قادة الحكم الجديد في دولة بني امية ذلك لان هذه المبادئ بالرغم من كونها ثمرة التطور الفكري الاسلامي في مرحلة تأسيس الدولة الاسلامية فهي قد نشأت لمناهضة موجات عديدة من الالحاد والعصبية والعنصرية والشرك بالخالق وما الى ذلك من قيم بالية كانت سائدة في الجزيرة العربية ويبدو ان الحرب التي شنها معاوية خلال حكم خليفة المسلمين الراشدي علي بن ابي طالب على ادارته للحكم جعلت الكثير ممن في نفوسهم اهتزاز للمبادئ ان يشتطوا في حماسهم لمبادئ معاوية ولكن البعض منهم ظلوا متمسكين بالمبادئ الاسلامية الاصيلة والا لما قامت ثورة الامام الحسين رغم التردد الواضح لدى البعض والى الاصغاء لما يجري من فساد وتزييف في الدولة تحت ستار الدين ، والحكم باسم الاسلام ، لهذا بات من الحتمية الاكيدة اجتماعياً وسياسياً ان ترتفع الاصوات مطالبة بوقف ما يجري في جسد الامة الاسلامية من تدمير منظم يقوده خليفة المسلمين المنصب وراثيا من قبل ابيه رغم كل مفاسده وانحرافاته ..

ابرز هذا الرأي واراء اخرى الى ضرورة التصدي الى اظهار جوهرية الاسلام وحقيقته المتمثلة في وجود آل بيت الرسول (ص) . ان الجمع البشري الذي كان يشعر بالمهانة والاذلال والاسفاف بحال الامة ، ظل عاجزاً ازاء هذه الانتهاكات طوال عقدين من حكم بني امية ، حتى بات الامر ضرورة التشبث بمنهج آل بيت النبي والمتمثل في الامام الحسين (ع) عندما وضح ان الكثرة الكاثرة ترفض ولا تتحرك ، ترى وتصمت ، لذا اقتضى فهماً جديداً للعنصر المهم في تحريك الناس هو ان يكون الامام الحسين (ع) وآل بيت رسول الله هم العنصر الانساني الباعث على تحفيز الناس نحو الرفض المعلن ، ومن هنا ما يمكن التعبير عنه بكلمة واحدة " دراما " الوضع السائد انذاك ، ولا نستبعد المعنى الاعمق الذي وصلت اليه الامور في تلك المواجهة – الواقعة – وهو " المأساوي" لو تحدثنا بضمير المتكلم بوصفنا النمط الذي يصف الواقعة وما نتجت عنها من الالام في ذاكرة الامة الاسلامية ، خصوصاً الى ما احيل الوضع كله بدلا من نصرة الامام الحسين (ع) في دفاعه عن المبادئ الاسلامية الى خذلانه في مواجهة خاسرة مع حاكم فاسد ومتجبر لا يرى في قيم الرسالة المحمدية اي اعتبار ولا في سنة رسوله اية مواثيق ، ولا في تاريخ الخلافة التي سبقته اية تحولات نحو الافضل ، فهو بالفعل كان في معظم الاحيان لم يكن لديه اية اهمية في ادارة الدولة بقدر ما كان يبدو انه المتسلط الرهيب وهو نفس الوقت يصدر حكمه ويدينه بعد ذلك وهو العبث بعينه .

وخليق بنا ان نتسائل ما هو حال الامة الاسلامية بعد واقعة كربلاء ؟ اي بعد استشهاد الامام الحسين (ع) ونخبة من آل بيته ، اي بعد مرور اعوام على المعركة .

يتلخص الامر فيما يرى المؤرخون وما يرى من عاصر المأساة ، ان دولة بني امية وقعت في نفس الخطأ التاريخي الذي وقعت به الامم السابقة قبلها من قتل انبياءها ومصلحيها ، فما حدث للسيد المسيح "ع" من بني قومه وكيف لعبت بعض العناصر والشخصيات في ما الت اليه الامور، ان يتم تبجيل وتعظيم الضحية ولو بعد سنين طويلة ، وهي سنين تمسك من آمن به وبمبادئه حتى انه كان السفر الخالد للاخرين من بني قومه ، وهو الامر ذاته في سفرواقعة الطف في كربلاء حتى انها عدت السفر الخالد للاخرين ضد الظلم والاستبداد ومنها انطلقت مسلمات العصور التالية وهي لوازم المسلمات احياء ذكرى استشهاده ومعه آل بيته (ع) كل عام . فأذا تسائلنا عما يمكن ان نفيده من هذا الاستذكار كل عام ، لوجدناه عاجزاً عن ان يتخطى المستوى التوثيقي للتاريخ فحسب ، بل وجدناه طاقة رد الفعل الجمعي للامة في مظلوميتها وتحت سيطرة امثال يزيد ، تحيي شعائر استشهاد الامام الحسين "ع" وفي مباهجها ونهوضها في التحرر وبناء المجتمع الجديد ، تحييها بشكل اوسع فهي ليست ذكرى وحسب ، انما علاقة حميمة حاملة المعنى الذي يبين تقاطع ازمان عديدة ، حتى غدت محكاً نزن به جدوى حكم الزعماء والدول ومنطقها ، وهو محكا به من العجب اكثر من الانبهار ، ولحسن الحظ ان مصير قتلة الامام الحسين (ع) ظلوا في حيرة قبل مقتله وبعد مقتله ، فسجلت الواقعة في كربلاء صفحات من سفر الموقف الانساني خالدة في ذاكرة التاريخ والمجتمعات الانسانية .

* السويد - استاذ جامعي وباحث سيكولوجي

شبكة النبأ المعلوماتية / ملف عاشوراء 1426هـ