الصفحة الرئيسية

مجلة النبأ

المرجعية الدينية

التاريخ يصنعة العظماء

 

 

 

من هدي الخطاب الحسيني (2)

الخطاب ووعي الواقع

محمود الموسوي

بين الواقع والذين يطلقون الخطاب في الشأن العام تجاذب كبير ، فقد يتغلّب الواقع بما يحتوي من أحداث على القيادات والمتصدين فيفرض بذلك شروطه عليهم ، ويملي عليهم أفكاراً لا يستطيعون منها فراراً ، فيتلبس خطابهم بهواجس وهموم لا تعبّر بالضرورة عن القيم التي يحملونها في الأساس ، وقد يتغلّب القادة على الواقع من ناحية فكرية من خلال استباق الحدث ، الذي يتم عبر وعي الواقع ومراقبته ، ليمكن لهم أن يشخّصوه ويعالجوه وفقاً للقيم التي يحملونها ، وفي هذه الحالة يبقى الخطاب ناصعاً ومتفوقاً حتى لو كان مدّ الواقع كبيراً ويحتوي على انحرافات كبيرة ولم يؤثّر فيه ذلك الخطاب.

المحافظة على نصاعة الخطاب أمر ضروري ، لسببين:

السبب الأول : لكي لا يملي الواقع بسلبياته شروطه على المسار .

السبب الثاني : لكي يبقى محمّلاً بصفاء القيم ، ليبقى تأثيره متواصلاً ومخترقاً الأزمان الأخرى.

ومن مظاهر تغلّب الواقع على الخطاب هو ما نجده من تحوّلات كبيرة في نوعية الخطاب عند بعض المتصدين ، وقد يصل إلى حدّ التناقض مع الخطاب الذي لم يشبه شيء من سلبيات الواقع..

وفي المشهد التاريخي الحسيني ، لم يكن الإمام الحسين (عليه السلام) متفاجئاً بواقعة كربلاء ، لأنه كان يعلم علماً يقينياً بأن مصيره القتل على أيدي أولئك الظلمة ، فقد أخبر بذلك الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) من قبل ، و كذلك لم يبق الإمام الحسين (عليه السلام) مكتوف الأيدي منتظراً ذلك المصير المكتوب عليه ، وخطاباته التي ناقشت الوضع العام للمسلمين لم تولد بتولّي يزيد (عليه لعنة الله) مقاليد الحكم بعد أبيه ، وإنما كان الإمام الحسين (عليه السلام) سابقاً كل ذلك ، وممهداً لأي انحراف عظيم يمكن أن يحصل بعد ذلك ، فالإنحراف كان موجوداً والظلم كان سائداً قبل عصر يزيد ابن معاوية إلا أنه كان بوجه آخر، مغلفاً بغلاف الدين كما هي السياسة التي اتبعها معاوية ابن أبي سفيان.

لقد سبق الإمام الحدث وتغلّب على الواقع ولم يشب خطابه شيء من شوائب الواقع المنحرف ، لذلك نجد النتائج واضحة في خطاباته )عليه السلام( إلى آخر يوم من حياته ، حيث كان الحق هو المحور ، ومصلحة الأمة الإسلامية هي الأساس ، وسواء استجاب الناس أم لم يستجيبوا لتلك النداءات ، فإنها تغلّبت على الواقع وتخطّته لتنتقل إلى المجتمعات الأخرى والأزمنة الأخرى راسمة بذلك منهاجاً في العمل الإسلامي من أجل الحق.

قبل سنتين من وفاة معاوية ابن أبي سفيان لجأ الإمام الحسين (عليه السلام) إلى فكرة مهمة عبّرت عن تأسيسه لخطاب (الحق) الذي لا تتغيّر قيمه ، ليكون بذلك ممهداً لخطوات مصيرية في المستقبل معتمدة نفس الأدوات التي استخدمت في هذا الخطاب ، فقد لجأ الإمام إلى الإستفادة من موسم الحج الذي يجتمع فيه الناس من كل فجّ عميق بدعوة من الله تعالى ، ليكونوا في رحاب الحق جلّ وعلى مهيئين لاستقبال الخطاب الذي سوف يليقه الإمام (ع) وهو المعبّر عن الحق ، فقد جمع بني هاشم رجالهم ونساءهم ومواليهم وشيعتهم ، والأنصار ، وأصحاب الرسول (ص) وأبناءهم ، والتابعين والمعروفين بالصلاح ، فاجتمع في ذلك المؤتمر أكثر من ألف رجل .. فألقى الإمام (ع) خطابه الطويل فيهم ، وقد احتوى هذا الخطاب على مجموعة من المقاطع ، فبعضها كان وصفاً للواقع حيث قال : (أمّا بعد فإن الطاغية قد صنع بنا وبشيعتنا ما قد علمتم ورأيتم وشهدتم وبلغكم وإني أريد أن أسأل عن أشياء فإن صدقت فصدقوني ، وإن كذبت فكذبوني) وقد عوّل الإمام على مشاهدات الناس وأرجعهم إلى مراقبة الواقع في تصديقه ، ولم يطلب منهم أن يصدقوه من غير هدى ، فهو يتحدّث عن الواقع ، فلابد للواقع أن يكون شاهداً .. رغم أنه الصادق المصدّق ، حيث قال التابعون بعد ذلك : (اللهم قد حدثنا من نصدقه ونأتمنه..).

ومما احتواه الخطاب هو بيان معالم الدين وقيم السماء بصورة واضحة ، وتذكير بآيات الله تعالى التي نزلت في أهل البيت (عليهم السلام) وبأحاديث الرسول الأعظم (ص) التي بيّنت فضائلهم ومكانتهم ، فيقول الصحابة : (اللهم نعم قد سمعناه وشهدناه). ثم أوصاهم الإمام أن يبلغوا خطابه إلى من يثقون به إذا رجعوا إلى ديارهم ، ليكون ذلك حجة وتمهيداً لما يأتي من زمن يبرز فيه الطغيان بوضوح ، ليستخدم بعد ذلك ذات الأدوات التي استخدمها من قبل وبنفس الصفاء من دون أن تكون لسلبيات الواقع أي أثر عليه.

www.mosawy.org

شبكة النبأ المعلوماتية / ملف عاشوراء 1426هـ