نبض الإنسانية الخالد..

كتب عاشوراء

 صفحة عاشوراء

المرجعية الدينية

شارك في الكتابة

مجلة النبأ

الصفحة الرئيسية

   

 العودة الى فهرس الكتاب

 

من قضايا النهضة الحسينية /أسئلة وحوارات / القسم الثالث

دور المنبر في المجتمع الشيعي

 

يشبه دور الخطيب في إرشاده وتعليمه وتوجيهه، دور الرسل -مع حفظ الفرق-.

فدور المرسلين كان يبدأ بأمر الله سبحانه لهم (قل) و (بلغ) مختصرا ما الذي يمكن للرسول أن يصنعه بالنسبة للمجتمع الذي بعث إليه، ويبين الأنبياء (ع) وظيفتهم كما في القرآن الكريم أنهم يدعون منطلقين من رؤية البصيرة التي هم عليها (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(1). وفي آية أخرى أنه يبلغ وينصح من موقع العلم والمعرفة الإلهية (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)(2).

وهم في ذلك لا يملكون طريقا لإجبار الخلق على الإيمان مع أن الإيمان في صالحهم وأن الجهد الذي يبذل هو من أجلهم، لكنهم لا يستطيعون شيئا، أكثر من الإقناع (بالحكمة والموعظة الحسنة) والخطاب العقلي مقرونا بشيء كثير من الشفقة والنصح والإخلاص (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ)(3).

ولأن الأمر كذلك فالتأثير ليس حتميا ولا شاملا، فقد يكون وقد لا يكون، وحيث يكون قد يؤمن به البعض ويكفر به الكثير، وليس هذا بسبب تقاعس الرسل عن الدعوة فإنهم (يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ)، ولا هو في ضعف المفاهيم والتوجيهات التي يأتي بها الأنبياء (وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ)(4). ولهذا فقد جاءت الآيات البينات تعزي المرسلين، وتواسيهم متوقعة عدم إيمان قسم من الناس برسالاتهم، وأنهم لو صنعوا ذلك فلا يضير الرسولَ توليهم وعنادُهم، وأن الأجيال الآتية هي التي ستؤمن بالرسالة (فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ)(5). وما ذلك إلا لأن مهمة الرسل هي مهمة البلاغ المبين والبلاغ بمثابة البذرة التي قد تجد أرضا صالحة فتنتج وقد تصادف السبخة أو الصفا فلا تزرع. وحينئذ (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ)؟(6)

وفي حدود هذا المقدار نعتقد أن المنبر الحسيني قد أدى دورا طيبا في المجتمع الشيعي منذ أن تبلور كوسيلة من الوسائل التبليغية، انحصر فيها التبليغ في بعض الفترات، وبعض الأماكن.

وذلك أن المجتمع الشيعي ظل لفترات طويلة في التاريخ، وفي أنحاء كثيرة من الأرض، محكوما وربما ينظر إليه بنظرة عدائية من قبل الحكومات، فكان أن فقد وسائل التأثير والخطاب العام، مثلما كان في تلك الأزمنة، (كخطب المساجد والجمعة والأعياد، بل وحتى مثل حلقات الدروس الرئيسة في المدارس الدينية وغيرها)، وكانت هذه المواقع تبين وجهات النظر غير المتفقة مع منهج أهل البيت (ع) لو لم تكن في أحيان كثيرة تهاجم التشيع والفكر التابع لأهل البيت.

ووُجد المنبر الحسيني ضمن توجيه أئمة أهل البيت (ع) مصداقاً من مصاديق إحياء أمرهم، ونشر أفكارهم، وتبليغ معارفهم ومحاسن كلامهم لشيعتهم ولغيرهم، فإن في تلك المعارف والثقافة ما لو اطلع عليه عامة المسلمين لآمنوا بمنهج أهل البيت وطريقتهم(7).

نعم ربما يوجه لبعض المنابر في الفترة الأخيرة ملاحظات:

1- الإغراق في الغيبي:

منها: إغراق البعض في الجوانب المرتبطة بما هو غير مشهود.

بل ربما تم التطرف في ذلك فأصبح من الأدلة على ما يورده الخطيب من قضايا ثقافية أو عقائدية، عدد من المنامات التي رآها العالم الفلاني، والزاهد الفلاني. أو بعض المكاشفات العرفانية التي تحصل للبعض!!

وهذا يعتبر في نظر كثير من المحققين والمفكرين، اتجاها غير سليم. فإن هناك فرقا بين الإيمان بالغيب وهو جزء أصيل من عقيدتنا الدينية، تحدث عنه القرآن الكريم، والأحاديث الشريفة، وبين الاستناد على المنامات والرؤى أو المكاشفات في العقائد، والأفكار.

وجهة الإشكال في هذا التوجه:

أ - إن المنام ليس بحجة شرعية في فروع المسائل فما ظنك في أصول العقائد؟ إن العلماء عندما يسمعون بفكرة أو برأي يرجعون إلى مستنده ودليله ويحققون ذلك الدليل ويناقشونه، ويتبينون مواضع الصواب والخلل فيه. أفترى هؤلاء يسلّمون لمنام رآه أحدهم ضمن تأييد فكرته؟

ب- أن بإمكان كل طرف من المتخالفين في الفكر أن يؤيد نظريته بمنام يراه، وليس كل من يدعي المنام المؤيد لفكرته هو كاذب، بل ربما يكون صادقا في ذلك.. وسره أن الإنسان يتفاعل مع ما يعتقده من أفكار فيجيء منامه ورؤياه متوافقا مع ذلك الاعتقاد. وربما دخلت المزايدات المذهبية ومحاولات تأييد الخط المذهبي على الخط فتجاوزت الحدود المعقولة، مثلما زعم بعضهم أن أحد أئمة المذاهب الأربعة كان يرى رسول الله في كل ليلة طوال العام!! ولما رأى جماعة مذهب آخر أن ذلك يمكن أن يكون دليلا على حقية مذهب الأولين أرادوا تأييد مذهبهم أيضا بالرؤيا والمنام، فزعم بعض هؤلاء أن علماء مذهبهم(8) قد رأوا الله ذاته (سبحانه وتنزه!!) في المنام وحادثوه وشكوا إليه همومهم!! وأن بعضهم يرى في اللوح المحفوظ ما يستعصي عليه من المسائل!

ج- الإسلام هو دين اليقظة والدعوة إلى الحياة، أتراه يقيم أسس قواعده على المنامات، ويترك البراهين العقلية والأدلة النقلية لكي يعتمد على الرؤى؟ على أنك حين تخضع الكثير من هذه المنامات والرؤى ومضامينها للنقد والمناقشة تراها غير قائمة على أساس ركين.

بالطبع هذا لا يعني أننا ننكر أن بعض المنامات والرؤى الحاصلة فيها صادقة وقد تحدث القرآن الكريم في أكثر من موضع عنها كما في رؤيا نبي الله إبراهيم (ع) (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)(9). وكذلك رؤيا نبي الله يوسف (ع) (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)(10). ومثل ذلك ما أرى الله سبحانه وتعالى نبيه الأكرم محمدا (ص) وأخبر عنه القرآن بقوله: (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)(11). وفي قوله تعالى: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً)(12).

بل حتى رؤى بعض العلماء والصالحين، فلا يمكن رد كل هذه القضايا وإلا كان أشبه بإنكار ما عليه الوجدان. ولكن الكلام في سعة هذه الدائرة حتى اختلط فيها الصحيح بالسقيم.

والكلام.. في أن تخرج هذه الرؤى من كونها في جانب وعظي أخلاقي قد لا نحتاج فيه إلى كثير من التحقيق والتدقيق لابتنائه على التسامح، إلى أن تصبح أدلة في أصول العقائد، وفي بيان المعارف الدينية.

إننا في نفس الوقت الذي نعتقد فيه بوجود هذا النوع من الرؤى الصادقة(13) إلا أننا نخالف أن تأخذ الأحلام كل هذا الدور فتصبح أصلا تؤسس عليه العقائد والثقافة والفكر، وتحتل هذه المساحة الكبيرة في التوجيه.

2- التطرف في الطرح الطائفي:

ومنها: التوجه الحاد في الطرح (الطائفي) السلبي:

ولأن هذه القضية ذات أهمية خاصة فإن من المناسب أن نوضحها ضمن النقاط التالية:

1- لا يرتاب أحد في أن من أهم القضايا التي يعتمد عليها المنبر هو تشكيل وتقوية الولاء، والانتماء إلى منهج أهل البيت (ع) فإن هذا من مقومات (إحياء الأمر)، وبدونه لا يكون للمنبر الحسيني خصوصية على غيره من المنابر الإعلامية الأخرى، بل يمكن القول: إنه بدونه يفقد رسالته الأساسية.

2- إن طريقة تشكيل الولاء والانتماء لمنهج أهل البيت (ع) لها من الأهمية ما للأصل، بحيث يبدو أحياناً أنه مع استخدام أحدهم طريقة غير مناسبة يكون من الأجدى تركه الدعوةَ والتبليغ بمنهجهم، كما يستفاد ذلك من بعض الروايات، فقد يكون إنسان بطريقته شَيْناً على أهل البيت ويؤدي عكس الغرض المطلوب. ويكون من المناسب حينئذ أن (يكف عن دعوة الناس لهذا الأمر).

3- إن الحكمة تقتضي أن يأخذ المتكلم بنظره ظروف الزمان والمكان الذي يعيش فيه والأشخاص الذين يستمعون إليه، أو يصل إليهم في العادة صوته، وهذا مما يستفاد من أوامر التقية التي هي (نصف الدين)(14)، بل هي الدين(15) -أي الطريقة والمنهاج-. ولذلك فإن ما يكون مناسباً في مكان قد يكون ضارًّا في مكان آخر، وما يكون واجباً مع قوم يكون حراماً مع آخرين فـ(ما كل ما يُعلم يقال ولا كل ما يقال حان وقته ولا كل ما حان وقته حضر أهله)(16).

ولذلك فإن الحديث العنيف الحاد ضد بعض طوائف المسلمين -بالرغم من أن بعض أولئك يصنعونه- ليس مما ينفع منهج أهل البيت (ع).

وليس معنى ذلك أن يُمدح الباطل، ويُمجد الخلل، وإنما يناقشون مناقشةً هادئة هادفة في الأفكار وبيان ما فيها من نقاط الالتقاء والافتراق، وبيان الخلل والخطأ الموجود فيها. ويستفاد هذا من كلام أمير المؤمنين (ع) القائل لأصحابه: (إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكن لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به)(17). فإنه (ع) مع كونه مع أهل الشام في حالة حرب، وهي أشد الحالات عنفاً بين فريقين، وما دونها من السب أو الشتم يعتبر هينا بالقياس إليها، ولكن الإمام في ذلك الوضع يحرص على الجانب الأخلاقي ويجنب أصحابه الآثار السيئة للشتم والسب. فإن ذكر الصفات غير الحسنة كانعدام الوعي والطاعة في الباطل، وغيرها مما كان موجودا في أهل الشام يصنع حصانة عند الطرف الناقد من الوقوع فيه عادة. وفي نفس الوقت الدعوة إلى أن تحقن دماء الفريقين، وسؤال: الله لهم الهداية من الضلال يرفع الإنسان الداعي إلى قيم مناقبية عالية.

4- إن من السهل على المتكلم أن يفرغ مخزونه النفسي ضد هذه الجهة أو تلك، جماعة كانت أو طائفة أو مذهبا، ولكن السؤال: هو عن حجم الآثار الاجتماعية التي يخلقها مثل ذلك السلوك. وفي المجتمعات الخليطة ذات المذاهب المتعددة، والطوائف المختلفة يبدو أن مثل هذا الأمر ينذر بحدوث الكوارث الداخلية، فإن (الحرب أولها الكلام) والتعبئة التي تقابلها تعبئة مضادة إلى أن تنتهي إلى الاصطدام.

والحقيقة أن هناك خيطاً رفيعاً يفصل بين الحالة المبدئية ولزوم التمسك بالمعتقدات، وبين الحالة النفسية التي تفيض بمخزونها، وتصطنع الحرب. فلا أحد يدعو - ولو دعا لا يستجاب له - إلى أن تترك المعتقدات، أو يتخلى عنها، ولكن أن يفصل بين المسألة المبدئية، والشخصية، وأن تلاحظ الدعوة إلى الحق بمقدار ما تلاحظ طريقة ذلك، وأن يؤخذ بعين النظر الوضع الاجتماعي زماناً ومكاناً وأشخاصاً. ونعود ونكرر لا يعني ذلك التخلي عن المسلمات الاعتقادية، ولا يعني أيضا تمييع الفواصل الحقيقية، لأجل ملاحظات اجتماعية وإنما يعني أن يلتزم المتكلم الحكمة في تبيين الأمور العقدية، فيناقش بهدوء، ويرد بحكمة، ويوجه بتعقل. ولعلنا نتبيّن مثل هذا أيام الإمام الصادق (ع) حيث نهى البعض من أصحابه(18) عن الكلام والخوض في المناظرات العقائدية لأنهم لا يحسنون ذلك، ولا يستطيعون >أن يطيروا لو قصوهم< مع أنهم كانوا أكثر حماساً من غيرهم في هذا الأمر. بينما يأمر آخرين كـ(أبان بن تغلب) أن (جالس أهل المدينة فإني أحب أن يُرى في شيعتي مثلك).

3- طغيان الجانب السياسي:

ومنها: طغيان الجانب السياسي في بعض المنابر:

لا شك أن المنابر الحسينية قد قامت بدور كبير في حياة الناس عندما اقتربت من مشاكلهم وقضاياهم، بعدما كانت محصورة في فترة من الفترات في إطار الرثاء والتعزية أو السيرة، لكن لما بدأ الخطباء يعالجون القضايا الاجتماعية، ويتطرقون إلى الهموم العامة، موجهين إلى ما يفهمونه من رؤية الإسلام فيها، فقد اكتسب المنبر الحسيني قوة إضافية، وارتبطت جموع كثيرة به لكونه يعبر عن مشاكلها ويعينهم على تكوين نظرة سليمة لحلها.

لكن يُلحظ في بعض المناطق من عالمنا الشيعي أن هناك تسييساً كبيراً للمنبر، بحيث يبدو الخطاب فيه وكأنه لا يختلف كثيرا عما يسمع في الفضائيات، أو يقرأ في الجرائد والمجلات.

وأحسب -والله العالم- أن تطور الأوضاع السياسية في العالم الإسلامي من ثورات وحركات تحرر وأعمال مقاومة وغيرها لما أثر على مجمل الحياة الإسلامية فقد أثر أيضاً على المنبر ونوعية الخطاب فيه، وفي بعض الحالات تجاوز التأثير الحدود المناسبة إلى ما هو أكثر.

كما أن كون بعض المتصدّين للمنبر الحسيني جزءاً من ذلك الحراك السياسي العام جعل من الطبيعي أن ينعكس وضعهم السياسي على خطابهم المنبري.

هذا إضافة إلى بعض عناصر الجذب والإثارة التي تترافق عادة مع (المنبر السياسي لو صح تسميته) والتي تستقطب شرائح من المجتمع، وتجعل الخطاب مع وجودها، شيّقاً ومثيراً ومعاصراً.

ونحن نخالف حذف هذا الجانب المعاصر من الخطاب بالكامل، لأسباب كثيرة، منها أن توجيه المجتمع في حركته السياسية مسؤولية مهمة ينبغي أن يضطلع بها العلماء والمصلحون، وأن لا يترك الناس هَمَلاً يوجههم الفاسدون أو تتلاعب بهم التيارات الخاطئة.

كما أن حياة أبناء المجتمع اليوم لم تعد - حتى في تفاصيلها الصغيرة- بعيدة عن الجانب السياسي، فمن الضروري أن يكون لديهم رؤية واضحة في المسألة العقدية، والثقافية، والسياسية أيضاً.

إلا أننا أيضاً لا نرى الإغراق فيه أو الإكثار منه، بحيث يشعر المستمع أنه لا يعيش أجواء المنبر الحسيني.

كما أن تناول هذا الجانب ليس من الصحيح أن يكون شرعة لكل وارد. فقد يكون تناول هذه القضايا -التي هي أيضا تحتاج إلى دقة كافية- من شخص معيّن مقبولاً وطبيعياً، بخلاف غيره من المتكلمين.

4- غير المألوف في العقائد:

ومنها: النزوع إلى ذكر غير المألوف لا سيما في الأمور العقائدية:

يتعمد بعض الخطباء في منابرهم الحديث عن بعض القضايا غير المألوفة في المسألة العقائدية، فتراهم أولا: يوردون ما هو غير مشهور بين الطائفة من الآراء والمفاهيم، مستفيدين من كونها لم تسمع قبلئذٍ إلا نادرا. وأن مواضيعهم غير مكررة ولا مسموعة.

وأحياناً يجر الأمر إلى ذكر بعض الآراء النادرة، التي يصعب تحملها على أكثر المستمعين بل ربما كانت بالنسبة لهم عامل فتنة، وخبطاً فكرياً. ولا سيما عندما يكون الحديث عن مقامات أهل البيت(ع) العالية، ومنازلهم السامية فإن بعضها (أو الكثير منها) يرتفع عن مستوى الكثير من المستمعين. وهذه الأفكار بحلقات الدروس الخاصة لمجاميع ذوي مستويات عالية متقاربة أنسب منها بالمجالس والمنابر الحسينية العامة التي يحضرها ذوو مستويات مختلفة ارتفاعاً وهبوطاً وهذا التوجه قد يكون ناتجاً عن عدم التقدير، وفقدان الحكمة في مخاطبة الجمهور بالنحو الذي يستوعبه، وبالمقدار الذي ينفعه.

لقد وجّه رسول الله (ص) وأئمة الهدى (ع) إلى أن يتكلم المتكلم بمقدار ما يكون قابلاً للمعرفة والتعقل، من قِبَلِ المستمعين وإلا كان لهم فتنة وأذى، ففي الحديث عن رسول الله(ص) (19): (لا تحدّثوا أمتي من أحاديثي إلاّ بما تحمله عقولهم).

وعنه (ص): (أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم)(20). ويُبيّن الأثر السلبي الناتج عن الحديث بما هو (مستصعب الفهم) فيقول: (ما أنت محدّث حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان على بعضهم فتنة)(21).

وفي الحديث عن أمير المؤمنين علي (ع): (أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟! حدثوا الناس بما يعرفون، وأمسكوا عما ينكرون)(22).

ومع أن الحديث في التوحيد مهم باعتبار أنه قاعدة الإيمان الأساسية إلا أن النبي (ص) ينهى عن الحديث في هذا الجانب بما يشق على الناس فهمه: (إذا حدثتم الناس عن ربهم فلا تحدثوهم بما يفزعهم ويشق عليهم).

ويرى الإمام الصادق(ع) - وهو الذي أظهر علوم آل البيت (ع) ونشرها بين الناس - أن مذيع الحديث عند من لا يحتمله ولا يتعقله يساوي الشاتم أعراضهم والمحارب لهم؛ فقد قال أبو عبدالله (ع): (أقرئ موالينا السلام، وأعلمهم أن يجعلوا حديثنا في حصون حصينة، وصدور فقيهة، وأحلام رزينة، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما الشاتم لنا عرضاً والناصب لنا حرباً، بأشد مؤنة من المذيع علينا حديثنا عند من لا يحتمله)(23).

وهذا الكلام المتقدّم ليس دعوة للتسطيح، وتحويل المنبر إلى (سوالف) وقوالب مكررة ومعادة. وإنما - كما ذكر الإمام (ع) - أن يجعل الحديث في حصون حصينة، وصدور فقيهة وأحلام رزينة.. وفي ذلك توجيه مهم مؤداه أن يُجعل الحديث المناسب في موضعه.

وإن من المطلوب تعميق الخطاب المنبري وتطويره موضوعاً، وقد سبق الحديث عن هذا الجانب في القسم الثاني من هذا الكتاب، خصوصاً مع ارتقاء مستوى المستمعين، واعتماد الكثير منهم على المنبر بوصفه قناة أساسية يتلقون منها ثقافتهم الدينية في مختلف مجالاتها.. هذا شيء، وأن ينزع الإنسان إلى الغرائب من الملاحظات والشواذ من الأفكار، والغامض من الآراء.. شيءٌ آخر.

ونحن نحمد الله أنّ ما سبق لا يشكل سوى حالات قليلة، لا يقاس عليها، ولم يتحول إلى ظاهرة.

 


(1) سورة يوسف آية: 108.

(2) سورة الأعراف آية: 62.

(3) سورة الأعراف آية: 68.

(4) سورة الأحقاف آية: 23.

(5) سورة هود آية: 57.

(6) سورة النحل آية: 35.

(7) عيون أخبار الرضا A، الصدوق، الشيخ محمد بن علي، ج 2، ص275: >حدثنا عبد الواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري العطار K قال: حدثنا على بن محمد بن قتيبه النيسابوري عن حمدان بن سليمان عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: سمعت أبا الحسن على بن موسى الرضا A يقول: رحم الله عبداً أحيا أمرنا فقلت له: وكيف يحيي أمركم؟ قال: يتعلم علومنا ويعلمها الناس فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا<.

(8) في كتاب (أضواء على الصحيحين) للشيخ محمد صادق النجمي، ص 146، نقل عن عدد من الكتب، ما قاله الحافظ ابن العربي المالكي (ت 543 هـ) عند شرحه حديثاً وقد كان الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني شيخ العلماء والزهاد رأى الباري في المنام، فقال له: رب أسألك التوبة ثلاثين سنة أو أربعين سنة ولم تستجب لي بعد! فقال له: يا أبا إسحاق، إنك سألت في عظيم، إنما سألت حبنا. ونقل الشعراني وابن الجوزي والشبلنجي عن أحمد بن حنبل أنه قال: رأيت رب العزة في المنام فقلت: يا رب، ما أفضل ما يتقرب به المتقربون إليك؟ فقال: بكلامي يا أحمد، فقلت: بفهم أو بغير فهم؟ قال: بفهم وبغير فهم، وقال الآلوسي (1270هـ) صاحب (تفسير روح المعاني) فأنا ولله تعالى الحمد قد رأيت ربي مناما ثلاث مرات، وكانت المرة الثالثة في السنة 1246بعد الهجرة، رأيته جل شأنه وله من النور ماله، متوجها جهة المشرق فكلمني بكلمات أنسيتها حتى استيقظت!!

(9) سورة الصافات آية 102.

(10) سورة يوسف آية 4.

(11) سورة الأنفال آية 43.

(12) سورة الفتح آية 27.

(13) في صحيحة سعد بن أبي خلف عن أبي عبد الله A قال: >الرؤيا على ثلاثة وجوه: بشارة من الله للمؤمن وتحذير من الشيطان وأضغاث أحلام<.

(14) يمكن أن تكون هذه النسب بملاحظات مختلفة، فبالنظر إلى الجانب العملي والجانب العلمي، أو السلوكي والفكري، تكون التقية ومن معانيها (الحكمة في التعامل) نصف الدين، ولذا كان النبي m (يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ).

(15) يهرج بعض على التشيع أنه كيف تكون التقية دينا؟ وينسى هؤلاء أو يجهلون أن هذا تعبير عن الاهتمام الزائد بالموضوع المذكور وأنه يعبر عن السنة والمنهج، مثل أن (النكاح سنتي).

(16) النمازي، الشيخ علي، مستدرك سفينة البحار، ج9 ص63.

(17) نهج البلاغة رقم 206

(18) يراجع كتاب: بناء القادة في منهج أهل البيت G، فصل المواصفات العامة للتربية الرسالية، للمؤلف.

(19) الأحاديث من ميزان الحكمة، ج1.

(20) الكليني، محمد بن يعقوب: الكافي، ج1، ص23.

(21) الأشتري، ورام بن أبي فراس: تنبيه الخواطر ونزهة النواظر المعروف بـ(مجموعة وارم)، ج2، ص227.

(22) النوري، الميرزا حسين: مستدرك الوسائل، ج12، ص302.

(23) مستدرك الوسائل، ج12، ص303.