ملحمة بطولة وجهاد عز..

عودة إلى صفحة عاشوراء >>

المرجعية الدينية

شارك في الكتابة

مجلة النبأ

الصفحة الرئيسية

 
 

بيان آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي بمناسبة عاشوراء

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين.. والصلاة والسلام على خاتم المرسلين محمد وآله الهداة الميامين.

وجاء شهر محرم.. موسم الحزن والتحدي، وتوشحت البلاد بالسواد، ورفرفت الأعلام في كل موطن، ودوّت هتافات ياحسين في كل أفق. وهكذا في هذا العام، وفي كل عام.

وجاء المعذِّرون، ووسوسوا: لماذا كل عام؟ ألم يُقتل إمامكم في عام واحد، وقبل أكثر من ثلاثة عشر قرنا؟ بلى.. ولكن شهادة السبط كانت من أجل قيم لاتزال تتجدد، ولأهداف لاتزال ثابتة، ومن أجل المحرومين الذين لازالوا ينتظرون من يدافع عنهم: مصباح الهدى.

1- إن الإمام الحسين ( عليه السلام ) مصباح هدى، ومن دون المصباح يسود الظلام. وأي يوم يحلو الظلام؟ وأي إنسان يستسيغ الظلام؟

إن الإمام الحسين ( عليه السلام ) وارث النبيين، وحجة رب العالمين، ومصباح يَتَّقد بنور الوحي الإلهي. فمن استنار بنور الإمام الحسين ( عليه السلام ) فقد استنار بنور الوحي.

إن الإمام الحسين ( عليه السلام ) حجة الله الكبرى في عرفان الرب، ودعاؤه في وادي عرفات بعض تجليات عرفانه، بلى إنه القائل:  <ماذا وجد من فقدك، وما الذي فقد من وجدك.

وهو حجة الله في بصائر الدين:  <كلامه نور، وأمره رشد، ووصيته التقوى.

وهو منار الحق في حكمة الحياة، فلا تتخطى سيرته الحكمة قيد شعرة.

ومن لم يعرف الإمام الحسين ( عليه السلام ) بهذه الصفة، فقد ضل ضلالا بعيدا.

وإلى ذلك، كان السبط الشهيد سفينة نجاة، من ركبها نجى ومن تخلّف عنها غرق. إنه قدوة المجاهدين في بذل النفس في سبيل الدين. أوليس هو القائل: (ألا وإن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة).

وبكلمة واحدة: الإمام الحسين ( عليه السلام ) - كما هو مكتوب في ساق العرش، وما كُتِبَ هناك فإنه حق حقيق-  مصباح هدى، وسفينة نجاة>. فهو حكمة وحماس، عقل وعرفان وعلم، إلى جانب أنه حركة وحيوية وفداء.

ونحن اليوم بحاجة إلى المزيد من قيمتي الحكمة والحماس، كما نحن بحاجة إلى التوازن الدقيق بينهما.

أيها الأخوة المؤمنون: إن الإسلام الذي جسّده السبط الشهيد بكل أبعاد حياته هو دين العقل والعلم، كما هو دين الجهاد والاجتهاد، وإذا كانت ملاحم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأصحابه(رضي الله عنه)، وظلامة ابنته (عليها السلام) ووصيه وأولادهم المعصومين (عليهم السلام)، والتي كانت ذروتها ملحمة عاشوراء، وإذا كانت تضحيات العلماء والمجاهدين عبر تاريخنا المديد، إذا كان كل ذلك وقود الحضارة الإسلامية، فإن بصيرة هذه الحضارة كانت آيات الوحي الحكيمة، ووصايا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) التي فسّرت الذكر وأرست أسس الأمة الرشيدة. فتلك الملاحم تفجّر الطاقات وتلك الحِكَم توجهها.

وإذا اختل التوازن بينهما فإن مصير الحضارة في خطر.. ومن ذلك الخطر التمزق الداخلي الذي كان مصير الكثير من الحركات المتطرفة في التاريخ والتي كان مصيرها الدمار بسبب افتقارها إلى الحكمة والرشد.

واليوم ونحن نجدد ذكرى السبط الشهيد وملحمته الإلهية الكبرى، علينا أن نتذكر أن الاهتداء بهداه الرشيد في حسن التدبير، ولَمّ الشمل، وعزم الأمر، وتنظيم العلاقات على أسس إيجابية، وتوحيد الكلمة، وتسديد الرأي بالتشاور، وإتباع أحسن القول، والتراحم والتواد والتعاون، وبكلمة: الاهتداء بنوره ( عليه السلام ) المشتق من نور الوحي، إن ذلك من واجب الولاء للإمام الحسين ( عليه السلام ) ومن أبعاد تجديد ذكراه.

التعاون تحت راية الحسين ( عليه السلام ):

2- إن الراية التي نشرها الإمام الحسين (عليه السلام) في أفق الولاية ضمت إليها كل من تشرف بولائه للإسلام وللإمام الحسين، وشعار هذه الراية المجيدة ما يردده المؤمنون وهم يزورون الإمام:  (أنا سلم لمن سالمكم... وولي لمن والاكم).

وهكذا فإن ميراث الدم المظلوم في كربلاء، هو هذا المجتمع الولائي الذي يتماسك بحب آل البيت (عليهم السلام)، ويتعاون أفراده على البر والتقوى، ويصبحون كالبنيان المرصوص يتحدى الأعاصير.

وفي ذروة هذا التجمع، علماء الدين الذين هم ورثة الأنبياء والحجج المنصّوبون عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام).

أيها الأخوة:

من أجل إرضاء الرب وتعميق الولاء للأئمة الهداة، وللإمام الحسين (عليهم السلام) عليكم بإصلاح ذات البين إلى درجة التراحم والتشاور والتعاون، ولا يكفي مجرد التعارف وعدم الشجار، فإن المطلوب شرعا هو: التعاون الذي أمرنا الله به بكل وضوح، فقال سبحانه: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.

والتعاون لا يمكن إلا عبر مؤسسات اجتماعية متينة قائمة على مراسي التقوى والخُلق الفاضل والحكمة الرشيدة. وهكذا فإن على كل واحد منا السعي نحو تنمية المؤسسات الحضارية ذات الصفة الإيمانية، فإن التحديات الكبرى التي نواجهها اليوم على مستوى أمتنا المجيدة، وفي كل قطر وكل أفق، لا ولن نستطيع التغلب عليها بالتمنيات الساذجة، وإنما بتحول حضاري شامل، يبدأ بإصلاح الفكر والسلوك والانتماء، وينتهي إلى إصلاح الاقتصاد والسياسة و(إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ).

ومن أبرز مظاهر إصلاح الذات، إصلاح العلاقات الاجتماعية حتى تصبح أكثر تلاحما وتنظيما في البناء، وأقدر على العطاء، وأصلب عند المواجهة، وأشد مراسا لدى التحدي.

ثقافتنا في ميزان العقل والوحي

3- إخوتي في الله!

إن الحق هو الحق، والباطل هو الباطل، وميزان معرفتهما هو ذات الميزان الذي وضعه الله للأنام فيما مضى واليوم والى الأبد. وعلينا أن نقيس أفكارنا وسلوكنا ومواقفنا بذلك الميزان المتمثل في العقل والوحي، وإن عصور التخلف أورثتنا ثقافة الهزيمة والانطواء، ثقافة الوسوسة والتردد، ثقافة العصبية والذاتية. بينما ميزان العقل والوحي، يرفض مثل هذه الثقافة تماما. فالعقل يحكم بأن من  يزرع الريح يحصد العاصفة، وإن من يعمل حسنا، يراه عاجلا أم آجلا. والله سبحانه يقول: (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) ويقول عزّ وجل: (وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى) ويقول تعالى: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

ويبقى يوم الحسين ( عليه السلام ) يوما خالدا، يستطيل بإذن الله على الاندثار، لأنه يمثل بصيرة العقل والوحي في مواجهة ثقافة التخلف والانطواء.

وهكذا كان سيد الشهداء مصباح هدى لاينطفئ، لأنه ليس فقط  بكلماته المضيئة وإنما بعطائه السخي أبطل وساوس الشيطان ورواسب الثقافة الجاهلية وآثارها. ففي بداية انطلاقة نهضته الإلهية، علـّم الأمم أن السبيل إلى الحياة الفاضلة يمر على قنطرة الشهادة، فقد قال (عليه السلام):  (خُطّ الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء).

وإذا تجاوز المرء حاجز الخوف من الموت، فقد أمتطى صهوة الحياة بكل اقتدار لأنه لا شيء أخوف من الموت. ومن هنا فقد أنشد إمامنا (عليه السلام):

الموت خير من ركوب العار      والعار أولى من دخول النار

وهكذا جرت في الأمة - التي اقتدت بالإمام الحسين (عليه السلام) وتبصّرت بمصباحه النيّر-، روح البطولة التي تحدت بها أعتى الأعاصير.

 واليوم حيث أمواج الغزو الثقافي والعسكري تترى على الأمة  من كل طرف، فما أحوجنا إلى الشجاعة الرشيدة، والبطولة الحكيمة، لنأوي إلى حصنها المنيع، وندافع عن قيمنا ومصالحنا، ونرد كيد الأعداء إلى نحورهم بإذن الله.

إخوتي في الله:

الإمام الحسين ( عليه السلام ) لازال هو الكهف الحصين، فتعالوا نأوي إليه، وإلى بصائر الوحي التي جسّدها، حتى نوحّد صفوفنا تحت رايته، ونبني مجتمعنا الرصين في ذُرى هداه، ونواجه التحديات في ظل الشجاعة التي أورثنا إياها في ملحمة الطف.

وصايا عاشوراء:

 وهكذا وصايا عاشوراء هذا العام، تتلخص في البصائر التالية:

1/ علينا أن نعرف إمامنا الحسين ( عليه السلام ) كما هو:  حجة الله والدليل إليه، وأن إتّباعه رشد وحكمة وسداد، كما هو اجتهاد وجهاد وحيوية.

2/ على خطباء المنبر الحسيني أن يبيّنوا حكمة النهضة  الحسينية ودروسها الحياتية، بالإضافة إلى بيان أبعاد  ملحمته الدامية، وبالذات فيما يرتبط ببناء المجتمع الإسلامي الرصين والمسئول.

3/ على كل واحد منا أن يعمّق ولاءه للسبط الشهيد وسائر الأئمة (عليهم السلام)، حتى يوالي كلّ من والاهم  ويعادي كلّ من عاداهم، وينتهي هذا الولاء إلى المزيد من التعاون على البر والتقوى.

4/ إن الولاء للإسلام والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) يتصل بالولاء للعلماء الربانيين وللصالحين من عباد الله الميامين.

نسأل العلي القدير أن يجعل ولاءنا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله الأطهار (عليهم السلام) وسيلة لمرضاته، وطريقا إلى جنّاته، إنه سميع الدعاء.

محمد تقي المدرسي

شبكة النبأ المعلوماتية/ ملف عاشوراء 1425هـ