نبض الإنسانية الخالد..

كتب عاشوراء

 صفحة عاشوراء

المرجعية الدينية

شارك في الكتابة

مجلة النبأ

الصفحة الرئيسية

   

 العودة الى فهرس الكتاب

 

من قضايا النهضة الحسينية /أسئلة وحوارات / القسم الثاني

المنبر الحسيني : بين التطوير والتكلس

 

هناك دعوتان متطرفتان على طرفي نقيض ، ترتبطان بالمنبر والخطابة الحسينية ، وثالثة نؤمن بها :  

ـ الأولى : تدعو إلى إنهاء المنبر الحسيني والخطابة ، من الوجود الاجتماعي ، بزعم أن المنبر كان في يومٍ مؤثرا عندما لم تكن وسائل الاتصال ، ونقل المعلومات كالتي نراها اليوم، فكان رواد شيعة أهل البيت عليهم السلام وقادتهم يحتاجون إلى وسيلة لإيصال ثقافتهم وأفكارهم إلى العامة ، ولم يكن أفضل من المنبر الحسيني وسيلة نافعة . فهو يلهب العواطف ، ويهيئ النفوس مع ذلك للإستقبال .

ويزعم هؤلاء أن المنبر الحسيني ـ وما يرتبط به من مكان وتقاليد ـ كان يخدم غرضا كيانيا في السابق ، بحيث كان يمثل نقطة الاجتماع والحشد والتعبئة ، لدى الطائفة الشيعية التي كانت تحيطها التحديات ، فكانت تحتاج إلى محور يجتمع فيه أبناؤها ويتفاعلون معه ، ولم يكن هناك أفضل من المنبر والموسم الحسيني الذي كان يخدم هذا الهدف أيما خدمة .

لكن ـ يرى هؤلاء ـ بأن الأوضاع قد تغيرت ، وأصبح التعبير عن الوجود ، والكيان له مظاهر متعددة ، ولم يعد المنبر الحسيني وما يرتبط به إلا واحدا من المظاهر تلك ، وليس هو الأقوى فيها .

وبالنسبة إلى وسائل الاتصال الثقافي ، تضيقت الدائرة وأصبح تناول الثقافة سهلا يسيرا مع وجود الانترنت والفضائيات ، فضلا عن الكتاب ..

فما كان وسيلة وحيدة في وقت أصبح اليوم من أضعف الوسائل ..

ويضيفون أمورا أخرى ، منها عدم تأثير المنبر في سامعيه ، بحيث يخرج هؤلاء المستمعون بعد المنبر ليمارسوا حياتهم الاعتيادية ضمن معادلاتهم السابقة .. وكأنهم لم يسمعوا شيئا ، وهذا يدل في رأيهم على أنه لا ينبغي الاهتمام بقضية المنبر الحسيني (1).

والأخرى : على الطرف الآخر ، ترى أن المنبر الحسيني ـ بصورته الحالية بل حتى التقليدية السابقة ـ له دور عظيم في الأمة ، وينبغي دعمه وحمايته ، في أصل وجوده وفي هيكله المعروف وصورته القائمة ، ويرون أن أي محاولة لتطويره وتحديثه تحمل ـ ولو على المدى البعيد ـ نتيجة إنهاء المنبر . ولذا فهم يقفون من أي محاولة تطويرية موقف المعارضة أو التشكيك في غاياتها(2).

ورأيهم في ذلك ينتهي إلى أن هناك حملة ـ أو مؤامرة ـ لتشكيك المؤمنين في ثوابتهم العقائدية ، وممارساتهم الشعائرية ، وأصولهم المتسالم عليها من قبل علماء الطائفة جيلا بعد جيل .  والقبول بالفصل الأول يجر إلى الثاني وهكذا تتابع حبات المسبحة ، ولذا ينبغي النظر إلى محاولات التجديد ، والتحديث في هذا الإطار الكلي ، كما يرى هؤلاء .. فلا ينبغي التشجيع عليها ، ولا الاصغاء إليها بل لا بد من التحذير منها ، توقيا لما يحدث بعدها ، وسدا للباب الذي يفتح خلفها .  فاليوم يتم التشكيك في بعض روايات السيرة ، وغدا في أصل السيرة الحسينية ، وبعدها في الامامة .. وهكذا ..

ولذا يرى أصحاب هذه النظرية أن من الضروري تجنب الانسياق مع دعوات التطوير والتجديد خوفا مما ستؤول إليه .

وهناك طريق ثالث نحن نتبناه ، كما يتبناه الكثير من العلماء والخطباء وأصحاب الرأي ، وهو يتمثل في النقاط التالية :

1/ نحن نعتقد أن المنبر الحسيني لا يزال الوسيلة المهمة في نشر فكر أهل البيت عليهم السلام ، بنحو لم تستطع سائر الوسائل الأخرى بما فيها الحديثة منها ( كالفضائيات والانترنت ) أن تقوم به ، وذلك لجهات :

ـ الأولى : سهولة تناوله من قبل جميع الطبقات الاجتماعية ، بخلاف تلك الوسائل التي لا تتمكن منها سوى طبقة معينة من الناس سواء لجهة عدم توفر أدواتها ، أو التزامها بنحو معين من الخطاب لا يستقطب جميع الشرائح . مثلا من لا يعرف الانترنت ولا يستخدمها لا يمكن له أن يستفيد من إمكاناتها ، ولا تستطيع هذه المواقع الموجودة فيها مخاطبته . وهكذا الحال في أمر الفضائيات ، بخلاف المنبر الحسيني الذي يتوفر للجميع وليس على المرء سوى أن ينقل قدمه إلى المكان المعين .

ـ الثانية : أن الكثير من الباحثين يذكرون التوافق الجمعي ، والحضور في ضمن مجموع كبير كواحد من الجهات المؤثرة في المتلقي ، بخلاف ما لو كان يتلقى هذا الأمر بمفرده أو ضمن مجموعة محدودة ، ولا شك أن المنابر الحسينية يتوفر فيها هذا الجو العام .

ـ الثالثة : أن المنبر الحسيني وما يحتويه من توجيه ( ولائي أو أخلاقي ، أو ثقافي ) خط ممتد مع عمر الانسان المتلقي ، فلو فرضنا أن شخصا من أتباع أهل البيت كان يحضر في المنابر كما هي عادة كثير منهم في موسم محرم ورمضان مجلسا واحدا في كل ليلة ، فإن معنى ذلك أنه عندما يكون في السبعين من العمر يكون قد استمع إلى أكثر من ألفي محاضرة ، بما تحتوي عليه من قضايا تأريخية وأدبية وثقافية عامة ، والمتعرض لهذا المقدار من المحاضرات والأحاديث لا شك سيكون ذا ثقافة مناسبة . ولعل هذا هو السبب الذي يجعل مستوى الكثير من هؤلاء برغم أمية بعضهم ، أعلى من غيرهم وأفضل .

2/ إن هذه الوسيلة ( المنبر ) كان لها دور عظيم في الحفاظ على تراث أهل البيت وفكرهم ، إضافة إلى دورها المحوري داخل المجتمع الشيعي ، ولا تزال تمتلك المقومات الكافية ، للإستمرار في هذا الدور ، بل يمكن دعوى دور أكبر لها ، عن طريق الاستفادة من الوسائل المتقدمة كالانترنت والفضائيات .

لقد كان المنبر في الأزمنة السابقة يمارس تأثيره في حدود منطقة القريبين منه ، بينما هو اليوم بفضل تقدم الوسائل قادر على مخاطبة البعيدين ، مما يعني أن بإمكانه أن يقوم بدور أكبر في استقطاب الجمهور والتأثير عليهم .

3/ إننا نعتقد أن هذه الوسيلة القوية ، يمكن لها أن تكون أقوى وأفضل مما هي عليه الآن عندما تتعرض إلى عملية تطوير ، وتحديث شاملة ، تأخذ بعين الاعتبار خصوصياتها الذاتية ( كونها حسينية وتخدم غرضا معينا ) وأيضا الأوضاع القائمة بما فيها من مشاكل فكرية ، وتستفيد من تقنيات الاتصال والتخاطب والإقناع ، حيث أن الخطابة والتأثير على المستمع أصبح علما كاملا ومتطورا ، يدرس كاختصاص في الجامعات .

وإن البقاء في الحالة التقليدية ، التي تُتوارث من قِبل اللاحقين عن السابقين ، في الكيفيات والأساليب يعرض هذه الوسيلة إلى التراجع والاضمحلال .

هذا مع إصرارنا على أن لا يفقد المنبر ، كما سيأتي ، مقوماته الأساسية ومن أهمها القضية الحسينية ، والجانب الرثائي بما فيه من حرارة المصيبة ، ولوعة المأساة .

ولهذا نقول : إن كلتا الدعويين اللتين ذكرتا أول الحديث غير صحيحة ، لا يزال المنبر قادرا وفاعلا ـ في حدوده الطبيعية(3) التي تنتظر منه ـ بل ربما يكون أقدر من الماضي على التأثير بما توفر له من الوسائل التي تساهم في نقله هنا وهناك .

ونقول أيضا : أن المنبر ـ كسائر الأشياء ـ  ما لم يستجب للتغيير في وسائله ، والتطوير في آلياته سينتهي به الحال إلى التراجع والاضمحلال ، وسينهزم في معركة وسائلها عند الآخرين مطورة ومجددة ، هذا مع الحفاظ على أساسياته .. كما سيتبين في الكلمات القادمة.

إن تخوف بعض المخلصين على المنبر من التطوير واعتقادهم أنه متى فسح المجال للتطوير في هذا الجانب فإنه بالتدريج سوف يفقد المنبر قدسيته ، وسيفقد مقوماته بمرور الزمان ، يقابله تخوف الكثير من المخلصين في الجانب الآخر ، من أن ينتهي المنبر من التأثير في حياة الناس الحقيقية ، ويتحول إلى  قطعة من تحفيات العصر القديم ، أو يتعامل معه كجزء من الفلولكور المنتهي . فيكون الذي ارتجي أن يعطي الحياة للمجتمعات ، والتألق للنفوس ، هو بنفسه يذوى ويموت !!

 


(1) في حوار جرى عبر أحد المواقع في الانترنت سألني  أحدهم : سمعت همساً يغضب الكثير أود أن أرى تعليق الشيخ عليه ( المنبر الحسيني مات ، و إكرام الميت دفنه!!.

(2) يتحدث الخطيب المعاصر الدكتور الوائلي حفظه الله في كتابه تجاربي مع المنبر عن تجربة رائدة لم تتحقق في تطوير المنبر الحسيني  مع أن روادها كانوا من العلماء الكفوئين منهم الشيخ محمد بن شيخ الشريعة والشيخان المظفران محمد رضا ومحمد حسين والشيخ عبد المهدي مطر وآخرون ويتحدث عن اتصالهم لهذا الغرض بالمرجعية حينئذ للاستفادة من مكان معين فاجازت المرجعية الاستفادة إلى أن تحركت جماعات مضادة انتهت إلى سحب الاجازة ، فقام رواد الفكرة باستئجار دار للغرض ذاته ولكن التحرك المضاد عاد هذه المرة بشكل أعنف انتهى إلى الهجوم على المكان وتخريب محتوياته ، وهرب القائمين عليه خوفا من الإيذاء ! ويعلل الشيخ الوائلي ذلك بأمور مختلفة منها ـ ما يتصل بموضوعنا ـ أن قسما من المخالفين لهذه الحركة التطويرية صوروا الأمر في الأذهان على أنه محاولة لتحسين صورة بني أمية في الأذهان ، والقضاء على الشعائر الحسينية .. الى آخر ما ذكره.

(3) نقول في حدوده الطبيعية المنتظرة منه ، وذلك أن قسما من الناس يتصورون المنبر الحسيني عصا سحرية ، سوف تحل لهم جميع المشاكل ، فهم يطلبون منه ما لا تقدر الدول على تحقيقه !! فيتحدثون عن أنه لماذا لا تتكلمون عن البطالة ؟ وكأن الحديث عنها فوق المنبر سوف يؤدي إلى تشغيل ألوف العاطلين !! ويقولون لماذا نجد أن الظاهرة الفلانية مستمرة .. هذا يدل على أن المنبر لا يقوم بدوره ؟؟ ولماذا ينتشر الفساد الخلقي ؟ ولماذا يسوء السلوك الاجتماعي ؟ ولماذا تضيع الذمة المالية .. الخ  وهذا تحميل للمنبر ما لا يحتمل !