نبض الإنسانية الخالد..

عودة إلى صفحة عاشوراء >>

المرجعية الدينية

شارك في الكتابة

مجلة النبأ

الصفحة الرئيسية

 
 

مَغِيبُ الأشلاء

بكائية حسينية  – 8 محرم 1424هـ

 

بسم الله الرحمن الرحيم

مِــــنْ جَــمْرِ نَزفِكَ نـارُ النَصْرِ تضْطَرِمُ

وفـــــي وَريــدِكَ مَوْجُ الفَتْحِ يَلتَطِمُ

وفــــــي الـــــوَتِينِِ لُـهاةٌ رَجْعُ سَورَتِها

لـــحـــنٌ تَفَرَّى بــهِ الترتيلُ والنَغَمُ

وفـــــي حــنــايـــاكَ طــافَت ألفُ بارِقَةٍ

تـــستَعذِبُ الــنَزْفَ رِيَّاً مِلؤهُ شَمَمُ

وفي جِراحِكَ أصغى النبضُ وارتَعَشَت

كُــــلُّ الحِكاياتِ، والراوي لهُنَّ دَمُ

 

الأرضُ الهامِدةُ مازالت تقشَعرُّ مع مِعراجِ الأرواحِ المرفرفةِ في سمائِها، ترابُ الصحراءِ مازال منقبضاً على نداوةِ النجيعِ السكيبِ في أحشائِه، خيوطُ الشمسِ مابَرِحتْ تتثنّى على جَمَراتِ النجيعِ التي التمَعَت بخد نيوى، أنفاسُ الريحِ مازالت تتلوى حول جُمانةِ الفردوسِ النائمةِ في أحضانِ شاطي الفرات. ووسط سكونِ الصحراءِ القاتل... أنَّتِ الريحُ، ونشجتِ السماءُ، وارتعشَتْ خيوطُ القمَرِ وهي تتقطَّع حولَ فارِسٍ حَزينٍ تلفَّع بسوادِ الليلِ الذي كان يحكي لونَ الدُنيا في عينيهِ، وارتَجَفَ بريقُ النُجومِ في بريقِ دموعِهِ التي انسكبت لتكون قَراحَ الابتسامةِ الميتةِ،وارتَعشت الريحُ مع حرارةِ زَفَراتِهِ التي انبَجَسَت من صوتِ تمزُّقِ قلوب الثكالى فمزقَّت بلوعتِها كُلَّ قَلب.   

واقتَرَب الفارِسُ... كان مصفرَّ الوجهِ ناحِلَ العودِ داميَ القلبِ والجوارح. يدُه كانت تترددُ بين قلبِه ووجنتِه. البَدْرُ كان يُرخى عليهِ سِربالاً من أهدابِه، الريحُ كانت تنشُرُ حولَهُ أنيناً ذاوياً من شهيقها المبحوح، الفرَسُ كانت تسابقُ نبضَها المحمومِ من قرعِ نبضِه، رِجْلاهُ كانتا تتدليانِ في الرِكابِ ودمعُهُما الأحمرُ يسيل على ساقيه، قميصُهُ يشتعِلُ بحرارة صدرِه، لِثامُهُ حائِرٌ بين اشتعال انفاسِهِ وفُتُورِ دموعِه، الأرضُ تتألمُ من وَقْعِ حوافِر فرسِهِ وتتردد بين أن تسرِعَ به الى مقصدِه حباً له أو تُبطِئَ به شفقَةً عليه. عيناهُ تلتمِعانِ بشريطِ الذكرياتِ الأليمة، روحُهُ تجولُ بين صورِ المأساةِ الرهيبة... تنتقلُ بين صوَرِ الصغار الضائعين وإخوَتِهِ المذبوحين وعمِّه الجديلِ، حتى يختنقَ بأنفاسِهِ وهو يتمثلُ صورةَ أبيهِ العفيرِ، وتنفجرُ آلامُه وهو يتذكرُ النارَ والخيامَ وعماتِهِ اللاتي ترَكَهُنَّ في سجنِهِنَّ الكئيبِ. 

ظلَّ يطوي البيداءَ على ظهرِ بُراقِهِ حتى لامَسَ تِلاعَ كربلاءَ. وقَفَ بين الآكامِ يُقسِّمُ نظراتِهِ بين الأجسامِ السليبةِ. رأى أجسادَ الأطفالِ المسحوقَةِ فقفزت أمامَه صورةُ أخيه الرضيعِ بين يدي والدِهِ لايُطيقُ حتى البكاء... رآه يشخَصُ بِسُلافَةِ روحِهِ رامِقاً عيني والِدِهِ وكأنما يتوسلُ اليهِ: "أبي أنا عُطشان...أنا عُطشان". رآهُ محمولاً على كفَّي أبيهِ كأنما يُلقي نظرتَهُ الأخيرةَ على الدُنيا من حيثُ ستعرُجُ روحُهُ، رأى السهمَ المشؤومَ يُمَزِقَ نحرَهُ الصغيرَ ويسكُبُ دمَهُ على كفَّي أبيهِ، رآه يبتسِمُ من بردِ الحديدِ ثُم يعتَفِرُ من حَرِّه، ثم رأى أباهُ يعودُ به الى الخيامِ وهو يكفكفُ دمَ وريدِهِ ودُموعَ عينيه. 

كفكَفَ دُموعَهُ فاستعصت عليهِ وهو يقفُ على بُقعةٍ من كربلاءَ تترنم بنشيدِ زفافٍ، وكأنما أرادت أن تتخضبَ بحِنَّاءِ عُرسٍ وسطَ نجيعِ الردى، كأنما أرادت أن تتعطرَ بالمِسكِ بدلَ الكافورِ، كأنما أرادت أن تتوشح بالإبتسامةِ بدل النحيبِ، كأنما أرادت أن تَزُفَّ اليها عِرِّيسَها. رآه نائماً على صدرِه...رآهُ يُعانِقُ الصعيدَ في سُكونٍ... أنفاسُهُ خامِدة، جوارِحُهُ هادِئة، شُموعُهُ ذاوية، وحتى رِجْلاهُ النديتانِ ماتتا ولم تعودا تعتفِران.

ثُمَ وصلَ الى قلبِ أبيهِ الذي كان يمشي على الأرضِ، كان مُقَطَّعاً على تِبرِ كربلاءَ. تذكَّرَ صُفرةَ وجهِ أبيهِ و"عليٌ" يستقبلُ الميدانَ، تذكَّرَ شُخوصَ عينيهِ وذبولَ الأنفاسِ بين ضُلوعِهِ، تذكر ليلى وهي تسعى بين الخيام، تذكر زينبَ وهي تُردد مع صدى صوتِ أبيهِ وأمهِ المتقطِعَينِِ بالألمِ وكُلُهم ينادون: "ولدي علي...ولدي علي"... ثم جال في صدرهِ همسُ أخيهِ مُجيباً "هذا جدي...هذا جدي". 

وأوشك قلبُهُ أن يفِرَ من سِجنِ أضلاعِهِ وهو يقفُ على المَسْناة ... لازلت تجري يافُرات؟...، وقَفَ بجانِبِ القِربةِ وكفَّا عمِهِ منثورتان على التُرابِ، وتغلغل في سمعِهِ صوتُ السِهامِ وهي تتكسرُ في جثمانِهِ وهو يعانِقُ الأرضَ بصدرِه، وسمِعَ على صَدَاها صوتَ أبيهِ: " الآن إنكسرَ ظهري". سمِعَ صوتَ عمودِ الخيمةِ وأبوهُ يكسِرُهُ ليكون جواباً على سؤالِ زينبَ عن ساقي يتاماها، وبقي ينظرُ الى الحُمرةِ الداكِنَةِ عندَ نحرِهِ وهو يتذكرُ سهمَ العينِ وجُرحَ الهامِ الذي جاد بدمِهِ على الترابِ وعزَّ بهِ على حِجْرِ أخيهِ الوحيدِ من بعدِه.

 وأخيراً وقَفَ على الجُثمانِ الشاخِب، وانحنى والقمرُ يعكِسُ ظِلَّهُ على لحمٍ ودَمٍ مختلِطَين برمالِ كربلاء، ومرَّ بيديهِ على الجسدِ المطحون...هاهنا كانت يداه...هاهنا كان خُنصُرُه...هاهنا كان قلبُه...هاهنا كانت قِسِّيُ أضلاعِه...هاهنا..هاهنا..هاهنا كان رأسُه...هاهنا كانت ثناياه...هاهنا كانت صفحةُ جبينِه...هاهنا كانت تتدفقُ دِماهُ...هاهنا كانت تخفِقُ روحُه خوفاً على قاتِليه...هاهنا كان فؤادُهُ يتمزقُ على بَنِيْه...هاهنا كانت فقراتُ ظهرِهِ تتكسرُ على أخيه...هاهنا سقطَ قتيلاً وهاهنا سينامُ قريراً. وصار يوزِّعُ ركوعَه في الميدانِ ويجمِّعُ الأشلاءَ المبعثرةَ، وَسَّدَ الحصيرةَ الملأى بأعضاءِ أبيهِ والمصبوغةِ بحُمْرَةِ دمِهِ في مثواها الأخيرِ، وانحنى وغسل بقعةً من نحر الذبيحِ بدموعِهِ وطبع عليها قُبلةَ الوَداع، وأهال على روحه الترابَ مع أبيهِ.

 وعاد مُسْرِعاً الى عَماَّتِهِ ووجوهُهنَّ تطفحُ بالسؤال عن قَتْلاهُنَّ، حتى تلاقَت مُقْلَتاه بمُقْلًتَي عمتِهِ زينب فانفجر باكياً هو وعماتُه والصغار وجُدرانُ الدارِ وزينبُ واقفةٌ أمامهُ وقد صكَّت وجهَها بكلتي يديها وصاحت من صميم فؤادِها " يابن أخي... الى الآن أبوك لم يُدفَن؟! واأخاه... واحسيناه". 

يا خيوطَ الشَمْسِ رِفْقَاً،

بـــِـفـــؤادي كــفِّـنِيْهِ

يا غُــيومَ الأُفْقِ حُــزناً،

مِــنْ عُيوني غَسِّلِيْهِ

يا ثـــَلاثاً مــــن لــيـال،ٍ

بــــِزَفيرِي فــــاندُبِيْهِ

وإذا شِئْـــــتِ ذَبِيـــْحـــاً

فَـــخُذيـــنِي واتْرُكِيْهِ

 

معتوق المعتوق

 تاروت-القطيف- 8/1/1424هـ

[email protected]