q
كبّدت الحرب أحد ثلاثة رجال سوريين جزءا من كبده وأحشائه وثانيهما بيته وعمله والثالث أرضه ودراسته، وسلبت الأمل من ثلاثتهما، اختار أبو فرحان وفؤاد الغريبي وأبو البراء الانضواء في صفوف الثوار بعد دخول المظاهرات السلمية التي اندلعت في سوريا في 15 مارس آذار 2015 مرحلة التسلح والعنف

(رويترز): كبّدت الحرب أحد ثلاثة رجال سوريين جزءا من كبده وأحشائه وثانيهما بيته وعمله والثالث أرضه ودراسته، وسلبت الأمل من ثلاثتهما، اختار أبو فرحان وفؤاد الغريبي وأبو البراء الانضواء في صفوف الثوار بعد دخول المظاهرات السلمية التي اندلعت في سوريا في 15 مارس آذار 2015 مرحلة التسلح والعنف.

انضم فؤاد الغريبي الذي يعمل في مجال تأمين الآليات لمواقع البناء، إلى الجيش السوري الحر ثم جيش الإسلام قبل أن يستقل بلوائه في النهاية. في حين اختار أبو البراء الذي كان يبلغ في بداية الثورة الستة عشر عاما من عمره فقط إلى جبهة النصرة وبات مقاتلا في صفوفها في حين انضم أبو فرحان الذي كان ينهي في ذلك الوقت دراسته الجامعية ويعمل في مجال تركيب المطابخ إلى أولى المظاهرات في مدينة حمص السورية وتخلى عن كل شيء ليتحول إلى ناشط ومنسق للنشاطات المناهضة لحكم بشار الأسد.

لا تجمع بين الرجال الثلاثة أي صلة لكنهم جميعا سلكوا الطريق عينه المناهض للأسد، وتسلط قصصهم المأساوية الضوء على المسار الذي سلكته الانتفاضة والظروف التي أدت لفشلها، بعد أن تكفلت الخلافات التي شهدوا عليها بين فصائل المعارضة المسلحة وعدم تقبلها لأي فكر مختلف في وضعها في الخانة نفسها مع نظام الأسد.

توصل شابان من الثلاثة في نهاية المطاف إلى أن الحرب لا يرتجى منها النصر، خصوصا بعد تلقي نظام الأسد الدعم العسكري القوي من حليفتيه روسيا وإيران والذي يفوق بمراحل الأسلحة التي يتلقاها مسلحو المعارضة من الولايات المتحدة ودول الخليج العربية وتركيا.

لكن بالنسبة إلى فؤاد الغريبي فإن المعركة مستمرة ونار الضغينة على نظام الأسد تغذيها كلما خبت، أما أبو البراء وابو فرحان فقد فقدا أي أوهام تتعلق بالطرفين الى حد تيقنهما بألا حياة لهما بعد الآن في سوريا. بحسب رويترز.

”ما حصل دمرلي مستقبلي بالكامل“، هكذا تحدث أبو البراء لرويترز عبر الهاتف من منزله الصغير في منفاه بتركيا التي هرب إليها عبر الحدود الشمالية بعد فترة من السجن والتعذيب في سجون جبهة النصرة تلت خلافه معهم.

أما الغريبي (37 عاما) الذي ما زال يحمل رصاصة للنظام في صدره وفقد جزءا من كبده وأحشائه وأحد أصابع يده اليمنى فقد تعهد بالقتال حتى النهاية على الرغم من يقينه بغياب المبادئ الأساسية للانتفاضة عن الفصائل التي تقاتل باسمها الآن، وقال ”لح نضل (سنظل) نقاتل لآخر نفس. لو اتفقت الدنيا كلها علينا“.

ناشط في المعارضة

يسكن اليأس أبو فرحان الذي يبلغ من العمر الآن 30 عاما أيضا، وهو الذي أجبره القتال على الخروج من حمص في 2014. وعلى الرغم من عثوره على عمل وسكن في محافظة إدلب في شمال البلاد إلا أن أوهامه تبددت تماما حيال الأوضاع في سوريا وأصبح يحلم بالمغادرة لبدء حياة جديدة في الخارج، وقال ”ما كان بدنا ندمر بلدنا ونخلق (هذا) الشرخ بين السوريين. لو رجعت الأيام فيني (بي) لورا ما كنت شاركت بالثورة“، وطلب أبو فرحان ذكر كنيته فقط خوفا من غضب فصائل المعارضة التي تسيطر حاليا على إدلب.

ووفقا للمرصد السوري لحقوق الإنسان، تسببت الحرب الأهلية السورية في مقتل 511 ألف شخص فيما أجبرت ما يزيد عن 5.4 مليون آخرين على الفرار من البلاد وفقا لبيانات من الأمم المتحدة. كما أدى الصراع إلى أزمة لاجئين في دول الجوار وغرب أوروبا وألهم متشددين شن هجمات دموية بدءا من نيس في فرنسا وحتى لوس انجليس في الولايات المتحدة، كما كشفت تلك الحرب الأهلية عجز المجتمع الدولي عن حل صراعات على هذا المستوى وزادت من التوتر بين روسيا والغرب.

درس أبو فرحان التربية الرياضية في جامعة في حمص قبل الحرب وكان يعمل في مجال تركيب المطابخ وساند بقوة معارضي الأسد عندما انضم لمحتجين مناهضين للحكومة خرجوا من مسجد خالد بن الوليد في حمص.

أجّل أبو فرحان خططه للزواج وانخرط في تنظيم الاحتجاجات وحشد المتظاهرين. في تلك الفترة، اختفى أعز أصدقائه وأقرب أبناء عمومته له بعد اعتقالهما قبل أن يعلم في العام الماضي بمقتلهما وهو المصير الذي لقيه عشرات الآلاف ممن كانوا في سجون النظام السوري، وفق جماعات معنية بالدفاع عن حقوق الإنسان على الرغم من نفي النظام تلك الاتهامات، بحلول فبراير شباط من عام 2012 كان الجيش السوري قد بدأ بقصف الحي الذي يعيش فيه أبو فرحان بشكل متكرر وهو حي جورة الشياح قرب البلدة القديمة في حمص لكنه قرر عدم الانضمام للجماعات المسلحة، وقال ”عرفت من الأول إن حمل السلاح سيكون نقمة مش (وليس) نعمة“، وعندما احتدم القتال وبدأت مقاتلات في قصف أحياء في المدينة في أواخر 2012 غادر أبو فرحان منزله مع والديه وشقيقيه إلى حي الوعر وهي منطقة أهدأ في الطرف الآخر من المدينة، لكن الوعر تعرض بعد فترة وجيزة لحصار استمر حتى عام 2017 شحت خلاله كل مقومات الحياة. وخلال شهر رمضان الذي عادة ما تتناول فيه العائلات شتى أنواع الأطعمة بعد الإفطار، يستذكر الشاب كيف كانت أسرته تفطر على وجبة من البرغل، وقال ساخرا بمرارة ”أحيانا حتى هيدي (هذه) الوجبة ما كانت تتوفر“.

وخوفا من الاعتقال على يد قوات الأمن السورية وما قد يليها باعتقاده من تعذيب وإعدام دون محاكمة عادلة، انضم أبو فرحان وأسرته إلى الأسر ومقاتلي المعارضة الذين غادروا إلى إدلب في إطار اتفاق للانسحاب تفاوضوا عليه مع الحكومة مقابل تسليم السيطرة على الوعر، لكن أبو فرحان لا يشعر بالألفة والأمان في إدلب وقال ”أنا لاجئ هون (هنا). لا الأرض أرضي ولا البيت بيتي.. الحياة مجرد أيام وعم تمرق ”.

بعد تهجيرهم من الوعر عثر أبو فرحان وشقيقته على عمل في إدلب، وعاد لممارسة تخصصه الأول في تدريب اللياقة البدنية، وعلى الرغم من الازدحام والتكدس الذي تسبب فيه تدفق النازحين على المحافظة من مناطق أخرى في البلاد تمكنت العائلة الهاربة من حمص من تأجير شقة سكنية، لكن بعد تقدم القوات الحكومية في ريف إدلب مؤخرا لم يعد الشاب قادرا على الوصول إلى عمله. ومع تجدد العيش وسط رعب القصف والدمار وتعصب جماعات المعارضة المسلحة في إدلب لآرائها بات أبو فرحان واثقا من أن البقاء في سوريا بات بلا طائل. وقبل أسابيع بدأ في تعلم اللغة التركية يحدوه أمل جديد في الحصول على حق اللجوء في البلد المجاور.

في المنفى

كان أبو البراء على مقاعد الدراسة الثانوية في الوعر عندما بدأت الاحتجاجات، فتطوع للعمل كمساعد ممرض وقتها وساعد المصابين من المتظاهرين على الاختباء من الشرطة. وبمرور الوقت تمكن من دراسة الطب لفترة وجيزة عندما كان لا يزال باستطاعته التنقل حتى الجامعة في وسط حمص.

لكن بعد إدراجه على قائمة المطلوبين لدى الأجهزة الأمنية لم يعد بإمكانه الاستمرار في دراسته وانضم لجبهة النصرة التي رأى آنذاك أن آراءها تتسق مع معتقداته وآرائه الدينية المحافظة ولم يدرك الحقيقة والعنف المتأصل في توجهات هذه الجماعة إلا لاحقا، وقال أبو البراء ”ما كنا نعرف بوقتها أن جبهة النصرة تابعة للقاعدة... نحن ناس متدينين بحكم تربيتنا وهم أغرونا بآرائهم الدينية“، تكشفت سريعا السبل الوحشية التي تنتهجها جبهة النصرة لأبو البراء فضلا عن الانقسامات التي شاعت خلال الصراع بين الجماعات المتشددة من جهة والقومية من جهة أخرى، وقال أبو البراء ”عملوا أفرع أمنية وسجون مثل النظام تماما وكانوا يعتقلون الناس ويعذبوهم. بعرف واحد اعتقلوه ومات تحت التعذيب وتبين بعدين أنه كان بريء“، وبعد أشهر قليلة من القتال في صفوف الجماعة، جرده مسؤولوها من سلاحه وهاتفه المحمول لمعارضته أفعالهم فعاد للعمل في المستشفى الميداني. وبعد أن اكتسبت آراءه المعارضة لجبهة النصرة المزيد من الجرأة، زجت به الجماعة في السجن بعد جدال علني مع أحد قادتها المحليين، روى أبو البراء فصول احتجازه في زنزانة مظلمة تحت الأرض تعج بالجرذان حيث لاقى شتى أنواع التعذيب. وقال ”لفقوا لي 15 قضية بينها السرقة والتخابر مع النظام، وبعد 12 يوما من الجحيم فقدت المقاومة واعترفت وسجنت“.

وفي الفترة التي كانت فيها إرادة أبو البراء تتلاشى شيئا فشيئا في السجن كانت جماعات المعارضة المسلحة تتكبد الخسائر على الأرض بعد أن أضعفتها الخلافات الدولية بالتوازي مع تلقي الحكومة السورية دعما جويا روسيا.

عندما خسرت المعارضة الجيب الذي كان خاضعا لسيطرتها في حلب في أواخر عام 2016 لصالح الجيش السوري سلمت أيضا سلسلة من الجيوب الصغيرة التي كانت خاضعة لسيطرتها في أنحاء سوريا من بينها حي الوعر في حمص.

كان أبو البراء قابعا في السجن لكن أصدقاء له في جبهة النصرة تمكنوا من تهريبه إلى إحدى الحافلات الخضراء التي أرسلتها الحكومة لإجلاء مسلحي المعارضة إلى إدلب. لكن مخاوفه العميقة حيال الخطر المحدق به من جبهة النصرة والذي قاده لاستخدام وثائق مزورة، دفعه أيضا للبحث عن مهرب جديد في ظل البؤس والفقر اللذين وجدهما يخيمان على ”المناطق المحررة“، وقال ”الإيجارات عالية كتير وكل عيلتين أو ثلاثة كانت تسكن شقة واحدة وبيناموا بالمناوبات“، وبعد ستة أسابيع من وصوله إلى إدلب، نجح أبو البراء بعد ست محاولات في العبور الخطر لمنفذ حدودي إلى تركيا بمساعدة أصدقائه الذين أنقذوه من السجن.

حاليا، يعيش أبو البراء مع والدته وشقيقه الأصغر في اسطنبول، لكن الأوقات العصيبة التي عاشوها تركت آثارا عميقة في حياتهم يصعب محوها بتغير المكان. وكلما سمع شقيقه صوت طائرة أصابه الرعب بعد أن ربط لفترات طويلة الصوت بهجوم وشيك، وقال ”في تركيا عايشين جنب المطار كلما طلعت طيارة أو تنزل يركض إلى حضن أمه ويبكي“.

لم يتمكن والد ابو البراء من الخروج من سوريا فقد توفي بجلطة وهو في الوعر في 2014، وكانت أمنيته الأخيرة له أن يكمل دراسته. لم يتمكن أبو البراء من ذلك، وفضل الاكتفاء بلقبه خشية أن ينتقم منه أو من أقاربه مسلحو المعارضة الذين قاتل في صفوفهم يوما.

قيادي في المعارضة

عندما بدأت الاحتجاجات المناهضة للحكومة في مدينة إدلب في 2011، سرعان ما انضم فؤاد الغريبي لها، ولم يساوره الشك على الإطلاق في الطريق الذي سيسلكه. فقد قتل أو اعتقل 13 فردا من أعمامه وأبناء عمومته في مسقط رأسه في قرية كفر عويد في محافظة إدلب عام 1982 عندما سحقت القوات الحكومية انتفاضة للإخوان المسلمين استمرت عاما.

ومع أولى المظاهرات، تعرض الغريبي لإطلاق النار وأصيب في اليد والبطن والصدر عندما شنت قوات الحكومة السورية حملة أمنية على المحتجين ونقل إلى تركيا لتلقي العلاج، وبعد أن عاد إلى إدلب بعد أشهر جمع عددا من أصدقائه للانضمام للجيش السوري الحر المعارض المدعوم من الغرب ودول عربية، قبل أن ينتقل إلى جيش الإسلام وهو تحالف إسلامي أكثر تنظيما تدعمه السعودية وعين قائدا لمئة وخمسين مقاتلا.

قتل ثلاثة من أشقاء الغريبي وهم مخلص وخالد ومصطفى، في المعارك في شمال غرب البلاد الذي شهد بعضا من أعنف الاشتباكات في الحرب، كما قتل 33 مدنيا في غارة جوية على قريته في يونيو حزيران 2015 بينهم ابنة أحد أشقائه.

وعندما سيطر تحالف مؤلف من جماعات متشددة بقيادة جبهة النصرة، التي غيرت اسمها في عام 2016، على أغلب محافظة إدلب العام الماضي عاد الغريبي لمسقط رأسه في كفر عويد وقرر الابتعاد عن القتال بعد أن شكل جماعة مؤلفة من 45 مقاتلا للدفاع عن المنطقة ضد نظام الأسد والجماعات المتشددة على حد سواء وتعيد الانتفاضة إلى المبادئ والمثل التي يعتقد أنها قامت على أساسها.

اضف تعليق