q

أصبح "الارهاب" بحكم الأمر الواقع أحد أدوات العمل السياسي في منطقة الشرق الأوسط، وأصبح بالتالي إطاراً للتحرك بالنسبة للأفراد وسلاحاً تستعمله بعض الدول بشكل خفي في التعامل مع بعضها البعض وفي السعي لتحقيق أهدافها، إضافة إلى كونه ظاهرة دموية سياسية يتفاقم دورها في المنطقة والعالم يوماً بعد يوم.

وفي نفس الوقت طـَوﱠر هذا "الارهاب" ديناميكيته الخاصة به والتي سمحت له بتطوير كيانه من تنظيم عشوائي إلى دولة، وتطوير آليات الدفاع الذاتي عن وجوده وحماية ذلك الوجود من خلال طرح مفهوم الدولة الدينية المتزمتة الأصولية الاقصائية كبديل للدولة المدنية الوطنية. وهكذا اختلط الحابل بالنابل وأصبح الارهاب (وهو في أصوله اصطلاح أمريكي – غربي غامض) قاتلاً ومقتولاً وهادفاً ومُسْتـَهدفاً وحليفاً وعدواً في نفس الوقت.

بالرغم من أن داعش منذ أن وُجِدَت تستعمل التكنولوجيا الرقمية وبكفاءة، إلا أنها لا تعيش في وهم العالم الافتراضي بل تعيش في العالم الواقعي وإن كانت تتعامل مع مشاكله وتـُتـَرْجـِم أهدَافـِها من خلال منظور متزمت وضيق جداً تتحكم به قناعات ووسائل عفا عليها الزمن.

هنالك أكثر من تنظيم مُصَنـَّف كتنظيم "ارهابي"، وأكثر من هيكل إرهابي يعمل في الشرق الأوسط، بعضهم مُعْلـَن وبعضهم الآخر غير مُعْلـَن. وهنالك أكثر من ذراع داعشي تحت وصايات غير رسمية وغير معلنة لأنظمة عربية وغير عربية ومنها إسرائيل، تقوم بتنفيذ قرارات وسياسات وعمليات دموية بالنيابة عن تلك الدول الراعية لها، بينما يقع اللوم بشكل مقصود ومُسْتـَمِر على الاسلام والعرب.

فالإرهاب يأخذ الآن أشكالاً ومسارات مختلفة ويتكلم لغات عديدة. واقتصار الحديث على الارهاب النـَمَطي الذي يـُفـَسِّر الارهاب فقط من منظور التزمت الديني الاسلامي سوف يقود إلى نتائج محدودة جداً وناقصة، وفي معظم الاحيان خاطئة، خصوصاً فيما يتعلق بحقيقة ما يجري وما سيجري، وسوف يَحْصُر الحديث والاتهامات بالضرورة بالمسلمين والعرب ويبقى اللوم محصوراً بهم وأصابع الاتهام موجهة لهم، في حين يوجد أطراف أخرى عديدة لها علاقة بالارهاب سواء مباشرة أو بطريقة غير مباشرة لا يتم ذكرها أو حتى الاشارة إليها. وهذا الأمر من شأنه أن يسمح للآخرين بفعل ما يريدونه وإلقاء اللـوم في ذلك على المسلمين والعـرب. وفي الوقت نفسه فإن هذا من شأنه أن يُبقي العالمين العربي والاسلامي تحت ضغوط متواصلة تتعلق بالارهاب والحرب عليه مما سيُرغـِم دُوَلَهُ بالنتيجة على تقديم العديد من التنازلات لإرضاء امريكا والدول الغربية ومن ورائها اسرائيل، لرفع تهمة "الارهاب" عنهم حتى لو لم يكن لهم أية علاقة به.

إن فهم معادلة الارهاب وواقعه في المنطقة لا يمكن أن يكتمل بمعزل عن فهم واستيعاب علاقة اسرائيل به. إذ من السذاجة أن يعتقد أحد بأن إسرائيل سوف تقبل أو تسمح بوجود "الارهاب" وإنتشاره في منطقة تعتبرها خاصرتها الأمنية دون إرادتها أو عـِلـْمِها أو موافقتها كونها تعتبر نفسها لاعباً رئيساً في المنطقة. ومن المهم أيضاً الايضاح بأن اسرائيل هي أقل الدول تضرراً مما يسمى بظاهرة "الارهاب" كونها لم تتعرض بالفعل لأي تهديد أو خطر حقيقي منه.

فعداء تنظيم مثل داعش مثلاً لإسرائيل أو تهديده لها أو محاولة القيام بأي عمليات داخلها هو شيء لم يحصل حتى الآن ولم يتم حتى التلويح به، بالاضافة إلى أن دور اسرائيل في توجيه عمليات داعش ضد هذه الدولة أو تلك يجب أن لا يـُستثنى كفرضية من أي تحليل لمجريات الأمور في المنطقة. ومن هنا فمن الجائز الافتراض بأن علاقة اسرائيل ببعض أذرع الارهاب في المنطقة هي علاقة تعاون ومنفعة متبادلة خصوصاً وأن تنظيمات مثل داعش ساهمت في تمزيق وتقسيم أكثر من بلد عربي مثل العراق وسوريا وليبيا وهددت أمن دولة مثل مصر بشكل استنزافي، وكل ذلك يصب مباشرة في مصلحة اسرائيل. ومثل هذا الوضع يستدعي التوقف طويلاً في محاولة لسبر غور الدور الاسرائيلي – الأمريكي ودور حلفائهم في تنمية ظاهرة الارهاب واستغلالها بأبشع صورة ممكنة لتكريس مصالحهم على حساب دول المنطقة وانظمتها الضعيفة المحتاجة لدعم أمريكا واسرائيل المستمر لمنع سقوطها.

الارهاب في بعض جوانبه أصبح جزأ ً من المسار السياسي الاقليمي والدولي ولا صحة على الاطلاق لمن يَدَّعي بأن الارهاب على اطلاقه هو ارهاب من نمط أو نوع واحد. فجزء هام من ذلك الارهاب أصبح في حقيقته جزءاً من النظام السياسي الاقليمي أو الدولي ويعيش في ثناياه. وإلقاء اللوم تحديداً على الارهاب في كل ما يجري من آثام هو أحد وسائل إبراء ذمة هذا النظام أو ذاك من دورهم المشبوه في التعاون مع الارهاب أو اللجوء إلى أساليبه والإدعاء في الوقت نفسه بمقاومته.

إن اللعب بمقدرات المنطقة ودُوَلـِها يتطلب أدوات مارقة تعمل من خارج النظام السياسي نظرياً ومن داخله عملياً ولكن من وراء ستـار، وهي التي يوفرها الارهاب المحسوب على الدول أو الأنظمة وهو فعـَّال بشكل نشط في هذه الأيـام. وبخلاف كل ما يقال على وسائل الاعـلام، هنالك الآن تعاون وتنسيق على أعلى المستويات بين بعض الأنظمة العربية وإسرائيل من جهة، وبعض أذرع الارهاب ومنها الداعشي في مناطق مختلفة قد يكون أهمها المناطق الحدودية الواقعة بين سوريا والعراق والأردن وفلسطين المحتلة، من جهة أخرى.

"الارهاب" في حقيقته سلوكاً يعكس نفسه من خلال قناعات محدده سواء دينية أو سياسية أو اجتماعية يتم فهمها أو استيعابها بطرق شاذه وملتوية تتجاهل قروناً من التطور الانساني الذي ساهم في نقل الحضارات من المستوى البدائي المتوحش إلى مستويات انسانية حضارية تتعامل مع العقل البشري والجسم البشري والحياة البشرية بإعتبارها أشياء تستحق الاحترام والتقديس. والعودة بالأمور قروناً إلى الخلف واللجوء إلى اساليب عفا عليها الزمن مثل قطع الرؤوس بطريقة وحشية وعلنية تهدف في الواقع إلى خلق شعور بالصدمة والرعب والخوف لدى العديد من المجتمعات التي تحترم الحياة وتقدسها وتقدس الحريات الاساسية واحترام الرأي الآخر بهدف تخويفها وإخضاعها من خلال بث الرعب في أوساطها.

المواطنة هي انجاز انساني هام كونها تجسد تساوي أبناء المجتمع الواحد أمام القانون وتعكس قدسية الحقوق وأولوية الواجبات بالتساوي للجميع. والارهاب الذي يسعى إلى إعادة تشكيل المجتمعات الانسانية على أسس جديدة غامضة هي الوسيلة المعمول بها حالياً لتفكيك تلك المجتمعات دون التقدم بحلول حقيقية لإعادة تجميعها. "الارهاب" بأطره المختلفة ومنها المذهبية أصبح أحد أهم أدوات تفكيك الدولة الوطنية والمجتمع وفرض ارادته على باقي المجتمعات في العالم من خلال ارهابها وتخويفها إلى حد الصمت والقبول السلبي أو إرغامها على استيعاب ما يلفظه الارهاب من مواطنين أو اقليات دينية أو عرقية.

وهذا يعني أن الارهاب إذا ما سُمِحَ له بالامتداد سوف يفرض على مجتمعات عديدة نمط التغيير العشوائي الغامض والقبول بنتائج أفعاله وسياساته واستيعابها مما سوف يساهم في تغيير البنية الاجتماعية للعديد من المجتمعات من خلال العبث بمكوناتها المذهبية أو الدينية أو العرقية سواء بالحذف أو بالاضافة من خلال أساليب مثل الهجرة أو التهجير أو القتل الجماعي أو جميعها. وقد يكون هذا مناسباً لبعض المجتمعات العنصرية الاقصائية مثل المجتمع الاسرائيلي كونه ينسجم مع مُـثـُلـِهِ وقيمه الاقصائية والعنصرية، إلا أنه يناقض ويعاكس واقع وقناعات وقيم معظم المجتمعات في العالم.

المعركة ضد الارهاب لا تدور حول ممارساته فقط بل حول نتائج ممارساته وسياساته وأفعاله أيضاً. واسرائيل كقوة اقليمية مؤثرة لها أهدافها ومصالحها التي تنسجم مع "الارهاب" كونه يلتقي بشكل عام مع القيم الاسرائيلية في العنف والإقصاء والإحلال، بالاضافة إلى دوره في تفكيك وتدمير دول عربية تعتبرها إسرائيل عدوا لها.

إن استبدال حاكم ظالم ومستبد بآخر ظالم ومستبد هي معضلة الشعوب مع "الارهاب" الذي يسعى إلى التغيير من خلال استبدال نظام حكم ظالم ومستبد بنظام آخر قد يكون أكثر ظلماً واستبداداً ولكن على أسس مختلفة. فالظلم والاستبداد باقيين كثوابت والمتغير هو الاطار فقط. والاستعانة بالدين لتحقيق ذلك لن يؤدي إلاّ إلى المزيد من البؤس للبشر لأنه سوف يحرمهم من اللجوء إلى الراحة النفسية التي يوفرها أي دين لأتباعه عند معاناتهم من الظلم والبؤس والاستبداد. ومن هنا فإن الزج بالدين في السياسة أمر يجب تجنبه والعمل على عدم السماح به لأن الارهاب في نهاية المطاف هو فِعْلٌ سياسي كونه يهدف إلى العبث بالأسس الوطنية والمجتمعية للدول والمجتمعات القائمة واستبدالها بوسائل دموية وعنيفة.

إن الادعاء بشن "حرب على الارهاب" كجهد دولي يعطي انطباعاً خاطئاً عن توفر نوايا دولية جـَدﱢية للقضاء على الارهاب. ما يجري العمل عليه هو في الواقع جهداً عسكرياً دولياً لتفكيك "الدولة الاسلامية" والقضاء عليها كمفهوم وتدمير قواعدها وأماكن تواجدها وبعض مظاهرها وتجلياتها، وليس القضاء على "الارهاب" نفسه كظاهرة أو كمسار. فالغضب ورفض الفساد والاستبداد يقطن في عقل وقلب الفرد أولاً والافعال تأتي لاحقاً، وهكذا يبدأ الارهاب في العقل أولاً ثم يقطن فيه. ومن الواضح أن دور الارهاب كظاهرة دموية عنيفة تسعى إلى تفكيك الدول والمجتمعات القائمة مازال قائماً ومطلوباً من قبل الدول الكبرى، والحاجة اليه في ازدياد مع توالي انهيار دول المنطقة ومجتمعاتها.

السيطرة على بعض أشكال الارهاب وتنظيماته المارقة والخارجة عن السيطرة هي المشكلة التي تجابه المجتمع الدولي في بعض الأحيان. والجموح نحو العنف والتمادي فيه قد لا يأتي حصراً من قبل تنظيمات ارهابية قائمة، بل أيضاً وبالاضافة من خلال افعال دموية يقوم بها أفراداً إختاروا وتطوعوا بأن يقوموا ببعض الأفعال الدموية بإسم هذا التنظيم أو ذاك أو بإسم الارهاب بشكل عام. ومن الصعب السيطرة على هؤلاء الأفراد (lone wolves) أو حصرهم أو القضاء عليهم بشكل كامل.

وما يجري هو محاولات للقضاء على السلوك الدموي المرتبط بما يدور في عقول وقلوب البعض من عواطف وأعاصير من الحقد والغضب والوحشية الدموية والاقصائية يتم تغليفها بلبوس ديني زائف يسعى إلى مقاربة الأمور الحالية بالأوضاع التي سادت عند ظهور الدين قبل ما يزيد عن 1400 عام واعتبار ذلك النهج هو المسار الصحيح الذي يجب على الجميع الاقتداء به وإتبَاعَهُ بإعتباره إمتداداً لشرعية دينية غامضة علماً أن هذا المسار هو الارهاب الحقيقي الذي يصعب القضاء عليه وعلى مسبباته وأنه سوف يستمر طالما بقيت بيئته الحاضنة التي تغذيه وتمده بعوامل الحياة قائمة.

العرب والمسلمين والارهاب اصبحوا بحكم الواقع المستند إلى ارادة أمريكا وإسرائيل والغرب عنواناً لشيء واحد. وهذا الواقع لن يتم تغييره إلاَّ من داخل العالمين العربي والاسلامي. إن إستنهاض عوامل القوة الذاتية القادرة على التصدي للمؤامرات الخارجية هي الرد الحقيقي خصوصاً وأن الارهاب هو مُنـْتـَج مفروض على المنطقة وهو بالتالي يتمتع بالحماية الخفية للعالم الغربي ومصالحه الاقتصادية والسياسية التي تسمح ببعض الارهاب ولا تقبل ببعضه الآخر طبقاً لمصالحها وبغض النظر عن مصالح العرب والمسلمين أو ما يقبلون به أو يرفضونه.

* مفكر ومحلل سياسي
[email protected]

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق