q

فيليب ليجرين

 

لندن ــ لم تكن نهاية التاريخ إذن. فها نحن ذا بعد مرور سبعة وعشرين عاما منذ بَشَّرَنا سقوط سور برلين بانهيار الشيوعية في أوروبا، نجد أنفسنا في مواجهة انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة، وهو الرجل الذي يهدد النظام الدولي الليبرالي الذي صاغه الرجال الأكثر حِكمة والأوسع أفقا الذين سبقوه.

الواقع أن أجندة ترامب المناهضة للعولمة التي أسماها "أميركا أولا" تهدد باندلاع حروب تجارية سلاحها الأساسي تدابير الحماية، فضلا عن "صِدام بين الحضارات" في مختلف أنحاء العالم، وانهيار السلام في أوروبا وشرق آسيا، والمزيد من العنف في الشرق الأوسط. كما تقوض آراؤه السلطوية المعادية للمهاجرين القيم المشتركة، والإيمان بالديمقراطية الليبرالية، وفرضية الهيمنة الأميركية الحميدة التي يعتمد عليها النظام الدولي القائم على القواعد.

والواقع أن الولايات المتحدة، التي تعيش بالفعل حالة من الانحدار النسبي، توشك الآن على التراجع الغاضب عن العالم.

يأمل المتفائلون أن ترامب لم يكن يعني ما قاله خلال الحملة الانتخابية؛ وأنه سيحيط نفسه بمستشارين دوليين متمرسين؛ وأن غرائزه الوحشية سوف تهذبها الضوابط والتوازنات التي تحكم النظام السياسي في الولايات المتحدة. ولا نملك إلا أن نأمل ذلك. ولكن لا شيء في مزاجه يوحي بهذا. ومع احتفاظ الجمهوريين بالسيطرة على مجلسي الشيوخ والنواب، فسوف يحظى ترامب بقدر من الحرية في إدارة الأمور أكبر من أغلب الرؤساء. ويصدق هذا بشكل خاص على التجارة والسياسة الخارجية، حيث يتمتع رؤساء الولايات المتحدة بسلطة تقديرية أكبر كثيرا ــ وحيث من المحتمل أن يكون الضرر الذي قد يُحدِثه هائلا ودائما.

ولنبدأ بالتجارة. لقد تباطأت العولمة بالفعل في السنوات الأخيرة. والآن يهدد ترامب بتحويلها في الاتجاه المعاكس. وعلى أقل تقدير، يقتل فوزه الآمال الخافتة في إبرام الاتفاقيتين التجاريتين العملاقتين اللتين كانت إدارة الرئيس باراك أوباما تتفاوض عليهما: اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ التي تمت ولكن لم يُصَدَّق عليها مع 11 دولة مطلة على المحيط الهادئ، وشراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي المتعطلة مع الاتحاد الأوروبي.

كما تعهد ترامب بإعادة التفاوض على اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية مع كندا والمكسيك. والأسوأ من هذا أنه يريد فرض رسوم جمركية على الواردات الصينية، وهو ما من شأنه أن يؤدي بلا شك إلى استفزاز حرب تجارية. حتى أنه تحدث عن الانسحاب من منظمة التجارة العالمية، التي تمثل النظام التجاري المتعدد الأطراف القائم على القواعد.

الواقع أن هذه الأجندة لا تهدد بدفع العالم إلى الركود فحسب، بل ومن شأنها أيضا أن تغري مناطق العالَم بالانقسام إلى تكتلات تجارية متنافسة ــ وهو احتمال مقلق للغاية لبريطانيا في مرحلة ما بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي والتي تبدو عازمة على انتزاع نفسها بعيدا عن جسد الاتحاد الأوروبي لكي تتدبر أمورها بمفردها. وفي آسيا، يهدد انهيار اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ، الذي استبعدت منه إدارة أوباما الصين بكل حماقة، بتمهيد الطريق للصينيين لبناء كتلة تجارية خاصة بهم.

ويهدد فوز ترامب أمن منطقة شرق آسيا واقتصادها. فبانسحابه من التجارة الحرة وإلقاء ظلال من الشك على الضمانات الأمنية التي تكلفها الولايات المتحدة لحلفائها، ربما يدفع ترامب اليابان وكوريا الجنوبية وغيرهما من الدول إلى التسابق لامتلاك الأسلحة النووية لحماية أنفسها ضد الصين الصاعدة. ومن غير المرجح أن تكون الفلبين الدولة الأخيرة في المنطقة التي تستنتج أن التودد إلى الصين أو تملقها رهان أفضل من الاعتماد على أميركا المتزايدة الانعزالية.

يقوض فوز ترامب أيضا أمن أوروبا. ويُنذِر إعجابه بفلاديمير بوتن، زعيم روسيا المستبد، بالخطر. إذ يُبدي بوتن ندمه وأسفه على تفكك الاتحاد السوفييتي، ويريد إعادة خلق مجال النفوذ الروسي في الجوار، كما غزا بالفعل جورجيا وأوكرانيا. ومن الواضح أن تصريح ترامب بأن التزامه بالدفاع عن الحلفاء في منظمة حلف شمال الأطلسي مشروط يدعو بوتن إلى المزيد من التوسع.

وتُعَد جمهوريات البلطيق (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا)، وهي الدول الأعضاء في منظمة حلف شمال الأطلسي، والتي كانت ذات يوم جزءا من الإمبراطورية السوفييتية وتقطنها أقليات روسية كبيرة، الأكثر عُرضة للخطر. ورغم أن التهديد الخارجي المشترك لابد أن يدفع الاتحاد الأوروبي إلى زيادة إنفاقه الدفاعي وتعميق تعاونه الأمني، فإن الناخبين الأوروبيين المتشككين في الاتحاد الأوروبي والذين ضربهم التقشف ربما تكون رغبتهم في هذا ضئيلة. والواقع أن العديد من الحكومات الأوروبية تبدو مستسلمة لإغراء السعي إلى استرضاء بوتن، وليس التصدي له.

تهدد عنصرية ترامب وعداؤه الصريح للمهاجرين من أصل أسباني، وخطابه الذي ينضح برهاب الإسلام بوقوع صِدام ثقافي ــ بل وحتى أعمال عنف ــ داخل أميركا. وقد يمهد الساحة أيضا لما يسمى "صِدام الحضارات" الذي حذر منه الراحل صموئيل هنتنجتون. ويُعَد الاستئساد على المكسيك في محاولة لإجبارها على تحمل تكاليف الجدار الحدودي الضخم الذي يريد ترامب إقامته عملا عدائيا ضد كل اللاتينيين. ويقدم تصوير المسلمين باعتبارهم أعداء ــ وحرمانهم من دخول أميركا كما تعهد خلال حملته ــ حافزا قويا للتجنيد لصالح تنظيمي الدولة الإسلامية والقاعدة، وهو نفس فِعل الاقتراح بأن الولايات المتحدة لابد أن تستولي لنفسها على حقول النفط في العراق.

ولعل الضرر الأكثر ديمومة هو ذلك الذي سيلحق بقوة أميركا الناعمة وجاذبية ديمقراطيتها الليبرالية. إن انتخاب رئيس عنصري فاشي النزعة يُعَد اتهاما للنظام السياسي في أميركا. وقد أظهر ترامب نفسه كرجل يزدري الديمقراطية، فقال إنه لن يقبل نتائج الانتخابات إذا خسر وهدد بسجن خصمته. ولن يكون المسؤولون الصينيون وحدهم في الاعتقاد بأن النظام الذي يكفل الغَلَبة للأكاذيب والكراهية والجهل على التشاور والتأمل الرصين نظام معيب مختل. فلم تَعُد أميركا "المدينة المتألقة أعلى التل"، كما وصفها الرؤساء المتعاقبون.

لقد أصبحت الريح الآن مواتية للمتمردين المناهضين للمؤسسة. ففي أعقاب الأزمة المالية والتغيرات الاقتصادية الموجعة، فَقَد كثيرون من الناخبين على نحو مفهوم إيمانهم بالنُخَب الغربية، التي تبدو عاجزة، وفاسدة، ومنفصلة عن الناس. كما يلقون باللوم ظلما على المهاجرين عن مشاكلهم ويشعرون بأن الليبرالية الاجتماعية تهددهم. وفي غياب البدائل الإيجابية للوضع الراهن المعيب بشدة، يتعاظم خطر حدوث ردة فعل أشد عنفا. ورغم أن استطلاعات الرأي تشير إلى عكس ذلك، فربما تفوز جبهة لوبان الوطنية اليمينية المتطرفة في الانتخابات الرئاسية الفرنسية في مايو/أيار المقبل. وهذا كفيل بتوجيه ضربة مهلكة لليورو، والاتحاد الأوروبي، والغرب.

لا يملك الدوليون الليبراليون تَرَف الشعور بالرضا عن الذات. ففوز ترامب كارثة ــ وقد يصبح أشد سوءا حتى من الكارثة. ويتعين علينا أن ندافع عن مجتمعاتنا الليبرالية المفتوحة وأن نقدم تغييرات إيجابية لاستعادة ثقة الناخبين المهمومين الذين يتنازعهم القلق والإحباط.

* فيليب ليجرين، المستشار الاقتصادي السابق للرئيس المفوضية الأوروبية، وزميل أول زائر في كلية لندن للمعهد الأوروبي الاقتصاد "ومؤلف كتاب الربيع الأوروبي: لماذا اقتصاداتنا والسياسة هي في فوضى

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق