q

يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم:

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

لابد من الاستضاءة والتدبر دوماً في الآيات الكريمة، ومن جملة ذلك التدبر في مبحث الحكم الوضعي والأحكام التكليفية، التي ذكرتها الآية الكريمة: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر)، فإن التساؤل الذي قد يطرح عن (الولاية) الممنوحة لكل مؤمن، وهل أنها مما يقبل التفويض أو الاستنابة أو التوكيل، أو ما أشبه ذلك؟ ذلك أن المسؤوليات والواجبات والحقوق قد تكون مما لا تقبل التفويض أو الاستنابة أو التوكيل، وقد تكون مما تقبلها، إن في المطلق، أو في الجملة.

الحقوق والواجبات التي لا تقبل التفويض أو تقبله:

ولتوضيح ذلك:

1- الحقوق والواجبات التي لا يمكن تفويضها:

إن هنالك مجموعة من الحقوق والمسؤوليات والاستحقاقات والأعمال لا يمكن تفويضها للغير، أو التوكيل فيها أو الاستنابة، سواء أكانت حقوقاً على الإنسان أم له، أي سواء أكانت تلك الحقوق أو الاستحقاقات مما تلزمه وتأخذ بخناقه، مثل السجن أم لا، فلو أن شخصاً استحق أن يسجن فإنه لا يمكنه أن يوكل غيره ليدخل بدلاً عنه السجن أو يستنيبه، ولو مقابل أجرة، فهذا استحقاق ثابت عليه لا يقبل التفويض أو التوكيل أو الاستنابة أو البيع والشراء أو المصالحة، كما لو كان له على شخص دين، فيصالحه[1] ويقول له: أسقط عنك الدين في مقابل أن تدخل السجن بدلاً عني؛ لأن هذا مما لا يقبل التفويض والاستنابة.

وقد يكون الحق للإنسان، ومع ذلك لا يقبل التفويض والاستنابة، مثل حق الإستمتاع بالزوجة أو إستمتاع الزوجة بالزوج، فإنه لا يجوز عقلاً وشرعاً التفويض أو التوكيل فيه أو الإذن للغير فيه، على خلاف بعض الأعراف المعاصرة في البلاد الغربية، أو التي كانت في زمن الجاهلية، وكذلك حقوق أخرى عديدة.

وكذلك الأمر في الواجبات، فإن الإنسان لا يستطيع أن يوكل غيره أو يستنيبه في الصلاة أو الصوم ليصلي أو يصوم بدلا عنه، أو ما أشبه ذلك من الواجبات، سواء أكانت هذه الصلاة واجبة يومية أم واجبة غير يومية، مثل صلاة الآيات.

2- الحقوق والواجبات التي يمكن تفويضها:

لكن بعض الأشياء قابلة للاستنابة أو للتوكيل أو لغيرهما، وذلك

كالحج في الجملة[2]، ومن هذه العناوين الاعتبارية (الزيارة) كأن يستنيب شخص شخصا آخر، لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) فهو عمل قابل للاستنابة و للتوكيل، وكذلك إذا كانت بذمة إنسان زكوات أو أخماس أو ديون فله أن يوكل شخصاً آخر في إخراج زكاته من ماله، أو يأذن له في اسقاط دينه عنه[3]، والأمثلة التي يمكن أن تذكر من الواجبات أو الحقوق لهذا أو ذاك ليست قليلة في المقام.

وكذا العقود والإيقاعات، فالمعاملات تقبل التوكيل، كأن أوكله في أن يبيع عني، أو أن يهب عني، أو أن يقوم بصلح عني، أو ما أشبه ذلك.

هل (الولاية) تقبل التوكيل أو التفويض؟:

وفيما نحن فيه، في عنوان الولاية (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، فهل تقبل (الولاية) التوكيل أو الاستنابة أو التفويض؟

والجواب عن ذلك: أنه في مقام إعمال الولاية -أي التنفيذ- فذلك ممكن، ولكن نفس الولاية لا يمكن أن تفوض أو توكل للغير، بمعنى أن هذه الولاية بما هي ثابتة لهذا الإنسان، مثل ولاية الأب على ابنه الصغير بالقدر الذي له منها، بما هي هي فلا تسقط حتى إنه لو أسقطها لما سقطت، لكن في مرحلة تنفيذ هذه الولاية وإعمالها، كإدارة الأولاد، له أن يحولها إلى شخص ثقة، فيوكله أو يستنيبه، أو يأذن له، فالولاية بما هي هي لا تقبل الإسقاط.

كذلك الولاية التي منحها الله سبحانه وتعالى لعامة المؤمنين في قوله تعالیٰ: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، فهذا المقام أو المنصب أو المسؤولية، أو هذا الاعتبار أو ما شئت فعبر، بما هو هو، لازم لذمة الإنسان، ولا يمكن أن يُسقط أو يفوض، لكن إعماله أي تفعيله أو تنفيذه أو تطبيقه العملي هو القابل لأن يوكل الإنسان غيره فيه أو نظائره.

وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنَّ للإنسان أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر مباشرة، ويمكنه أن يستأجر شخصاً، حيث إنه في مرحلة التفعيل يمكن الاستئجار، كأن يستأجر شخصاً أو يعطي مبالغ لأشخاص أو لهيئة أو يؤسس مؤسسة، لكي يقوموا بالنهي العملي أو القولي عن المنكرات، وهذا مما لا إشكال فيه، بل هو نوع من تطوير الأداء في بعض الصور، كأن ينحو العمل نحواً مؤسّسياً، لكن واجب الأمر بالمعروف بما هو اجب كفائي - أو عيني إذا لم يقم به من فيه الكفاية -لا يمكن تفويضه – كحكم- إلى الغير.

وبتعبير آخر: هل تقتضي هذه الولاية (المباشرة) حصراً؟ أي هل تقتضي الإعمال والتنفيذ والتطبيق حصرياً بالمباشرة؟ والجواب: كلا، بل له أن يقوم بذلك بالمباشرة، كما له التسبيب عبر نظام التوكيل وتأسيس مؤسسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن من أفضل الأعمال في هذا الحقل تأسيس لجان مهمتها أو من مهامها أن ترصد الصحف والمجلات والكتب والدراسات والمراكز التي تروّج للانحراف العَقَدي، أو التي تروّج وتسوّق للأفكار الهدامة، والأفكار الضالّة، أو التي تسوّق الفساد الأخلاقي، وما أشبه ذلك.

تكاملية العناوين الاعتبارية أو تزاحمها:

بتدبر في الآية القرآنية الكريمة، وباستنارة واستضاءة على ضوء قوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) لابد أن ينصرف البحث لجهة إن كان هناك تزاحم في العناوين الاعتبارية، والتي تستتبع مسؤوليات خارجية أم لا، فهل هناك تزاحم بين الاعتباريات التي تقابل الانتزاعيات، وتقابل الحقائق الخارجية، بل هل يوجد –إثباتاً- (تعارض) –وثبوتاً- (تزاحم) أو تضاد أو تناقض أو غير ذلك؟ وهذا بحث يستدعي تفصيلاً لدى الحديث عن عالم الاعتبار وخواصه وأحكامه، لكن نطاق المبحث يدور حول صنف من أصناف هذا البحث الكلّي، وهو هل يوجد تزاحم في الاعتباريات التي تستلزم مسؤوليات خارجية؟

والظاهر في الإجابة على ذلك أنه في الجملة على الأقل، يكون الجواب: كلا، بمعنى أن لا قاعدة كليّة بوجود تزاحم، أو تعارض بين الاعتباريات التي تنجم عنها مسؤوليات، بل أنّ هذه الاعتبارات قد تتعاضد في ما بينها أو تتكامل، وإن كانت قد تتضاد أيضاً في مراحل (الملاك) و(الجعل) و(الامتثال) من حيث القدرة واللاقدرة.

وتوضيح ذلك بإيجاز في محل بحثنا في الولاية، المصرح بها في آية (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) أن ولاية هذا الإنسان هي ولاية اعتبارية، فهذا اعتبار تنجم عنه مسؤولية، وهذه المسؤولية هي (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاة.)

فهذا الاعتبار الذي استتبع مسؤولية قد جعله الله سبحانه وتعالى على المؤمن بما هو مؤمن، وهذا الشخص بعد ذلك له اعتبار آخر، وهو أنه أب مثلاً، فالأبوة اعتبار من الاعتبارات قد يعبّر عنها بالتعبير الدقيق، إنها إضافة من الإضافات، فالأبوة التي هي إضافة، وهي اعتبار في الوقت نفسه، تستتبع مسؤوليات أخرى تجاه الابن، يعني أنّ الأب بما هو مؤمن مسؤول عن أبنائه، كما أنه بما هو أب مسؤول عن أولاده.

ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)، هذا إضافة إلى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، فحتى لو لم أكن أباً له فأنا مسؤول عنه، وولاية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ثابتة بعنوان آخر أيضاً، أي بعنوان أنه أب له ولاية أخرى، وهذه الولاية الأخرى لا تتصادم مع الولاية الأولى، بل تؤكدها؛ لذا فالمسؤولية مضاعفة من جهة، والعقوبة تكون أشد من جهة أخرى.

وهنا تظهر الثمرة، فإن الشخص إذا كان أباً وفرَّط في حق أبنائه فهو معاتب ومحاسب، بل ويستحق العقاب من جهتين: الجهة الأولى: أنه خالف الأمر الإلهي بوجوب أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر باعتباره أباً مأموراً بـ (قوا) والجهة الثانية: هي لأنه تساهل وتجاهل في مسؤوليته الناجمة عن هذا الاعتبار اللازم له، وهو (الولاية) (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) فالمعاتبة والمحاسبة والملاحقة والمعاقبة اللاحقة هي لأنه كان أباً وتخلى عن مسؤولية الأب، وهي أيضاً لأنه كان من (الأولياء) بشكل عام.

وبمقاربةٍ بالأستاذ المعلم إذا كان أباً، فهو معلم وهو أب وهو مؤمن، فهنا توجد ثلاثة اعتبارات تستتبع ثلاث مسؤوليات متداخلة أو متمايزه، فالمعلم له اعتبار أنه معلم فهو مسؤول عن التلاميذ، فإن فرط، في حق التلاميذ -كما لو رأى الأولاد ينحرفون ولم يفعل شيئاً- فستكون عقوبته أشد، عكس الإنسان العادي إذا رأى الناس والأولاد ينحرفون ولم يفعل شيئاً، فان عقوبته هي المتداولة، وكمثال فإنه يستحق (صفعة) مثلاً، أما المعلم فيستحق (صفعتين) أو عقوبتين، فالمعلم مسؤوليته مضاعفة، وله اعتبار مضاعف، وعليه مسؤولية أخرى.

وهكذا مرجع التقليد، أو وكيل مرجع التقليد، والخطيب وإمام الجماعة، فإن هؤلاء ونظائرهم لهم اعتبار آخر في المسؤولية تجاه الناس، ورغم إن عموم:

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) يأخذ بعنق كل شخص لكن مسؤوليتهم أشد وأقوى، فلهم ثلاث مسؤوليات، بل ربما أكثر، أو لهم ثلاثة اعتبارات، بل ربما أكثر من ذلك.

وكذلك رئيس الهيئة أو لجنة إدارة الحسينية أو المسجد أو الفضائية أو المنظمة أو النقابة أو العشيرة، فلأنه رئيس هذه العشيرة أو المنظمة أو الحسينية والمسجد، فعليه مسؤوليتان كميّاً وكيفياً، كما أنه تكون المسؤولية عليه ثقيلة كيفياً، فإن مسؤولية عامة الناس ثقيلة لكن هذا أثقل مسؤوليةً، ومسؤولية وكلاء مرجع التقليد ليست كمسؤولية آحاد الناس، أما مرجع التقليد فمسؤوليته أثقل جداً.. وهكذا إلى أن نصل إلى قوله تعالى: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلً) عن خاتم الرسل المصطفى محمّد(صلى الله عليه وآله).

وعليه، فإنَّ مَنْ يفرط ويقصّر فهو معاقب، ولكن أين عقاب هذا من عقاب ذاك؟

وقد ورد في الرواية أن الله سبحانه وتعالى يغفر للجاهل سبعين ذنباً، قبل أن يغفر للعالم ذنباً واحداً، لماذا؟ لأن له إعتباراً آخر، وذاك الاعتبار العقلائي مبني على صفة واقعية، وهي علمه، فتأمل.

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) إن هذه الولاية لا تتزاحم[4] لا تتنافى ولا تتضاد مع تأكدها بولاية ثانية، نابعة من كونه معلماً، أو أباً أو مرجع تقليد، أو رئيس هذه العشيرة أو الهيئة أو الحزب أو النقابة أو الدولة، فهي لا تتنافى، بل إحداهما تعضّد الأخرى، وتؤكدها من جهة، ومن جهة أخرى فالعناوين الثانية قد تلزمه بمسؤوليات جديدة، وليس الأمر تأكيداً فقط، بل تأسيساً أيضاً، وهذا الموضوع يستدعي بحثاً مستقلاً، نكتفي منه إيجازاً بهذا المقدار.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،

وصلاة الله على محمد وآله الطاهرين.

* فصل من كتاب "معالم المجتمع المدني" في الفكر الإسلامي
والكتاب سلسلة محاضرات ألقيت في الحوزة العلمية الزينبية
http://m-alshirazi.com
http://annabaa.org/arabic/author/10

........................................
[1] أو يصالح إدارة السجن أو القاضي على أن يسجن غيره مكانه لقاء مبلغ من المال!
[2] تجوز النيابة في الحج المستحب، ٲما الحج الواجب فإن (الحي لا يجوز التبرع عنه في الواجب إلا إذا كان معذوراً في المباشرة لمرض أو هرم فإنه يجوز التبرع عنه ويسقط عنه، وجوب الاستنابة على الأقوى)، العروة الوثقى، كتاب الحج، فصل في النيابة م 25، ج 2، ص 365، من الطبعة ذات الحواشي الخمسة.
[3] المشهور إن إبراء ذمة المدين من الدين (إيقاع﴾ لا يحتاج إلى إذن المدين، لكن السيد الوالد تأمل في ذلك.
[4] لا في عالم الملاك ولا في مرحلة الجعل ولا في مقام الامتثال.

اضف تعليق