q

مايكل ماندلباوم

 

واشنطن، العاصمة ــ في الوقت الذي يشهد انعقاد أول قمة بين الرئيس الصيني شي جين بينج والرئيس الأميركي دونالد ترمب في عزبة ترمب الفاخرة مارالاجو، فسوف يركز جزء من المناقشة على الأقل بشكل ثابت على واحد من أكثر الأماكن فقرا في العالم: كوريا الشمالية. وعلى الرغم من أكثر من عشرين عاما من المفاوضات المتقطعة، يدفع برنامج الأسلحة النووية في كوريا الشمالية العالَم نحو خط استراتيجي فاصل أشبه كثيرا بذلك الذي واجهه الغرب قبل ستين عاما، عندما دخلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في مواجهة مباشرة في أوروبا.

لقد نجحت الولايات المتحدة في التصدي لتحدي أوروبا في القرن العشرين دون الدخول في حرب. ولكن لتحقيق نجاح مماثل في شرق آسيا اليوم، يتعين على ترمب أن يقنع شي جين بينج بتبني سياسة مختلفة في التعامل مع كوريا الشمالية.

عندما تحولت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي إلى خصمين بعد الحرب العالمية الثانية، كان لكل من الطرفين وسيلة لردع الآخر عن الهجوم. فكان الاتحاد السوفييتي يمتلك ميزة كبيرة ــ أو هكذا كان الاعتقاد السائد على نطاق واسع ــ في مجال القوات غير النووية، والتي كان بوسع الكرملين أن يستخدمها لغزو وقهر أوروبا الغربية. وكان بوسع الولايات المتحدة، بفضل احتكارها للأسلحة النووية، أن توجه ضربة نووية من أوروبا إلى قلب الاتحاد السوفييتي.

ثم في عام 1957، أوضح إطلاق سبوتنيك أن الاتحاد السوفييتي سوف يتمكن قريبا من توجيه ضربة نووية إلى قلب الولايات المتحدة، الأمر الذي دعا إلى التشكيك في مدى فعالية الردع الأميركي. فهل كان من المعقول، في الرد على هجوم على أوروبا الغربية، أن تشن الولايات المتحدة حربا ضد الاتحاد السوفييتي، وبالتالي دعوته إلى شن هجوم نووي على أراضيها؟ كان لدى أميركا وحلفائها أربعة حلول ممكنة لهذه المشكلة الجديدة والخطيرة: الاستباق، والدفاع، والانتشار، والردع.

كان الاستباق ــ بمعنى شن هجوم على الأسلحة النووية السوفييتية ــ ليؤدي إلى اندلاع حرب عالمية ثالثة، وهو احتمال غير جذاب من غير ريب. ومع نمو الترسانة النووية السوفييتية، استبعدت حكومة الولايات المتحدة الدفاع ضد هجوم صاروخي: لأنها ما كانت لتتمكن من تشتيت كل المتفجرات النووية القادمة، وكان الخيار الأكثر أمانا هو أن يمتنع أي من الجانبين عن محاولة بناء دفاعات صاروخية باليستية. ومن ثَم، تفاوضت إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون ووقعت في عام 1972 على المعاهدة السوفييتية الأميركية بشأن الصواريخ المضادة للقذائف الباليستية، والتي حظرت مثل هذه الأنظمة فعليا.

وكان الخيار الثالث، وهو تمكين الدول التي يحتمل أن تكون مهددة من حيازة الأسلحة النووية، قائما على افتراض مفاده أن أي حكومة قد تكون على استعداد لاستخدام مثل هذه الأسلحة للدفاع عن بلدها، إن لم يكن للدفاع عن بلد آخر. وقد استشهد الرئيس الفرنسي شارل ديجول بهذا المنطق لتبرير برنامج الأسلحة النووية الفرنسي، وإن كان هو أيضا لديه أسباب أخرى وراء رغبته في التحاق فرنسا بعضوية "النادي" النووي. ولكن بهذا المنطق، كانت ألمانيا الغربية أيضا في احتياج إلى ترسانة نووية؛ ونظرا لتاريخ ألمانيا في القرن العشرين، لم يكن أحد، وخاصة الألمان، راغبا في مثل هذه النتيجة.

وعلى هذا فقد اختار الغرب تعزيز الوضع الراهن، مع سعي الولايات المتحدة إلى تعزيز مصداقية سياسة الردع في أوروبا من خلال التصريح علنا وبشكل متكرر بأنها لن تتردد في الدفاع عن حلفائها، على الرغم من الخطر المتمثل في تسبب ذلك في تعرض أراضيها للهجوم. وقد دعمت الولايات المتحدة موقفها بنشر أسلحة نووية في القارة الأوروبية، ونشر قواتها على الخطوط الأمامية في ألمانيا لكي تعمل عمل أسلاك العثار: فأي هجوم هناك من شأنه أن يطلق مشاركة الولايات المتحدة في أي حرب ربما يبدأها الجانب الشيوعي. وقد نجحت هذه الاستراتيجية: فبفضل أي مجموعة من الأسباب، لم يشن الاتحاد السوفييتي أي هجوم من أي نوع نحو الغرب.

وبعد مرور ستة عقود من الزمن، تلوح تحديات مماثلة على شبه الجزيرة الكورية. منذ نهاية الحرب الكورية في عام 1953، ساعد الوجود العسكري الأميركي في ردع أي هجوم محتمل من قِبَل كوريا الشمالية على الجنوب، في حين نجح الشمال الشيوعي في ردع الولايات المتحدة أيضا: ذلك أن مدفعية كوريا الشمالية الهائلة المنتشرة على طول المنطقة المنزوعة السلاح التي تقسم شبه الجزيرة قادرة على تدمير عاصمة كوريا الجنوبية سيول والتي يسكنها عشرة ملايين شخص، ردا على أي هجوم أميركي.

ويهدد برنامج الأسلحة النووية في كوريا الشمالية بإضعاف هذا التوازن، من خلال إعطاء نظامها القدرة، من خلال الصواريخ الباليستية البعيدة المدى التي يختبرها، على ضرب الساحل الغربي للولايات المتحدة، وبالتالي إثارة نسخة جديدة من سؤال قديم: هل تجازف الولايات المتحدة بسلامة لوس أنجليس لحماية سيول؟ الآن تواجه الولايات المتحدة وحلفاؤها نفس الخيارات الأربعة التي واجهت التحالف الأطلسي قبل ستين عاما.

وبوسعهم أن يحاولوا التعايش مع الصواريخ الكورية الشمالية النووية البعيدة المدى، اعتمادا على الردع. وهذا يعني أن سلامة الملايين من الأميركيين سوف تعتمد على حكمة وتعقل دكتاتور كوريا الشمالية الذي يبلغ من العمر 33 عاما، كيم جون أون، وهو الرجل الشاب الذي يستمتع بعمليات الإعدام البشعة لأفراد أسرته ورفاقه المقربين.

في الماضي، بدت مثل هذه النتيجة غير مقبولة في نظر خبراء الأمن القومي في الولايات المتحدة. ففي يونيو/حزيران 2006، زعم ويليام بيري الذي كان آنذاك وزير دفاع سابق، وأشتون كارتر، الذي أصبح الآن وزيرا للدفاع، في صحيفة واشنطن بوست أنه إذا أقدمت كوريا الشمالية على نشر صواريخ مسلحة نوويا على أراضيها وقادرة على ضرب الولايات المتحدة، فينبغي للولايات المتحدة أن تهاجمها وتدمرها.

ولكن كما هي الحال في الوضع الراهن، فإن شن هجوم ضد ترسانة كوريا الشمالية النووية ينطوي على مخاطر هائلة. فمن المرجح أن يؤدي مثل هذا الهجوم إلى إشعال شرارة حرب كورية ثانية. وسوف يخسر الشمال وينهار النظام بكل تأكيد، ولكن ربما لا يحدث هذا قبل أن يوقِع أضرارا فادحة بكوريا الجنوبية، وربما أيضا اليابان.

بعد انسحابها من معاهدة الصواريخ المضادة للقذائف الباليستية، بدأت الولايات المتحدة تنشر بالفعل أنظمة الدفاع الصاروخية، على أمل إحباط هجوم نووي صغير النطاق (ولكن ليس هجوما هائلا من ذلك النوع الذي قد تشنه روسيا). وهذا الخيار أيضا يحمل مخاطر جسيمة. فمع نمو ترسانة كوريا الشمالية النووية، تتضاءل فعالية الدفاع الصاروخي. فحتى وقوع انفجار نووي واحد في الولايات المتحدة، أو كوريا الجنوبية، أو اليابان، سيكون كارثة محققة.

إذا شَكَّت دول شرق آسيا في مصداقية التزام الولايات المتحدة بالدفاع عنها ــ وقد أوضح ترمب تحفظاته حول التحالفات الأميركية بالفعل ــ فربما تسعى إلى إنتاج الأسلحة النووية، كما فعلت فرنسا من قبل. ومن المؤكد أن اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان قادرة على القيام بهذا بسرعة.

لكن شرق آسيا الذي تمتلك فيه دول عديدة أسلحة نووية لن يكون مستقرا بالضرورة. فعلى النقيض من أوروبا خلال الحرب الباردة، سوف تكون القوى النووية عديدة، وليس اثنتين فقط؛ وسوف تفتقر بعض هذه الدول إلى قدرة "التدمير المؤكد" ــ بمعنى القدرة على امتصاص أي ضربة نووية ثم إيقاع أضرار بالغة بالمهاجم. وفي غياب مثل هذه القدرة، يصبح الحافز لدى الدولة المسلحة نوويا أعظم كثيرا من الحافز لدى الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفييتي في الماضي لإطلاق ضربة أولى إذا ظنت أنها ستتعرض لهجوم.

الردع، والاستباق، والدفاع، والانتشار: لا شيء من هذه الاستجابات الأربع المحتملة للتقدم المحرز في البرنامج النووي في كوريا الشمالية يبعث على الثقة. ولكن ينبغي لنا أن ننتبه إلى فارق مهم بين شرق آسيا في القرن الحادي والعشرين وأوروبا في القرن العشرين، وهو الفارق الذي يخلق الفرصة لتجنب كل الخيارات الأربعة: فالصين في وضع يمكنها من فرض ضغوط قوية على مصدر التهديد النووي.

الواقع أن احتياجات كوريا الشمالية من الغذاء والوقود تأتي جميعها تقريبا من الصين المجاورة. ولكن على الرغم من معارضتها لبرنامج الأسلحة النووية في كوريا الشمالية وافتقارها إلى الحماس لأسرة كيم، فقد امتنعت الحكومة الصينية حتى الآن عن ممارسة الضغوط من خلال التهديد بقطع الشريان الذي يمد الشمال بالحياة. وأخشى ما تخشاه الصين هو انهيار نظام كيم، الذي قد يرسل موجة غير مرغوبة من اللاجئين عبر حدودها وربما يخلق جارة جديدة غير مرغوبة: دولة كورية موحدة ومتحالفة مع الولايات المتحدة.

في حين قد يكون لدى الصينيين من الأسباب الوجيهة ما يجعلهم يفضلون الوضع الراهن على شبه الجزيرة الكورية، فإن الاستمرار في التساهل مع طموحات القيادة الكورية الشمالية النووية خيار بالغ الخطورة. فقد تجد الصين نفسها محاطة بدول غير صديقة مسلحة نوويا، أو قد تضطر إلى الدخول في حرب بغيضة على حدودها، أو ربما الأمرين معا.

وينبغي لترمب أن يؤكد على هذه النقطة في لقائه مع شي. وعلى أقل تقدير، ما لم تعمل الصين على وقف برنامج كوريا الشمالية النووي فإن هذا البرنامج كفيل بجعل شرق آسيا مكانا أشد خطورة للجميع، بما في ذلك الصينيين أنفسهم.

ذات يوم، قال مارك توين إن الجميع يتحدثون عن الطقس، ولكن لا أحد يفعل أي شيء حياله. ويصدق هذا على برنامج كوريا الشمالية النووي لفترة تقرب من ربع القرن من الزمن. ولكن قد لا يظل صادقا لفترة أطول كثيرا.

* مايكل ماندلباوم، هو أستاذ فخري في السياسة الخارجية الأمريكية في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز ومؤلف كتاب: فشل المهمة: أمريكا والعالم في عصر ما بعد الحرب الباردة
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق