q

تحولات عميقة يشهدها العالم بدأت ملامحها بالظهور مع تنصيب ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية فترامب صاحب الشخصية المثيرة للجدل، والذي كان محط سخرية الجميع واستخفافهم عند ترشحه، أضحى الرئيس غير المتوقع للقوة العظمى في العالم هذا العالم بات كله مصدوماً ليس فقط من فوز ترامب في الانتخابات، بل من تصريحاته التي قلبت الموازين لدى حكومات دول العالم الصديق قبل العدو.

ففي حين، تغمز عين ترامب اليمنى لاستمالة روسيا نحو أمريكا، بعد أن كانت العدو الأول لها، تشتد عينه الثانية احمراراً تجاه الصين، بما يوحي بخلق أزمة جديدة في بحر الصين الجنوبي

ترامب لم يأتِ بالصدفة، فدلالات خطابه الذي لم تألفه العلاقات الدولية في السنوات الأخيرة نحو الانكفاء الداخلي لإعادة إحياء العظمة لأمريكا مجدداً، وتحويل الخطر من روسيا إلى الصين، والإدارة الترامبية العنصرية المتشددة، أكبر دلالة على أن هناك متغيرات جديدة خصوصاً على النظام الليبرالي، والتي ستلقي بظلالها الثقيلة على أبعاد الصراع الدولي واستراتيجيات الأقطاب في عالم بدأ يبتعد عن القطبية الأحادية.

مستقبل النظام الليبرالي في العهد الترامبي

هاجم ترامب كلاً من الصين والاتحاد الأوروبي، في حين كان متماديا في خطابه مع روسيا، هذه الازدواجية في التصريحات تدلل حسب محللين عن تخلي الولايات المتحدة عن سياسة الاستثنائية الأمريكية مع الإبقاء على سياسة القوة الأمريكية العالمية، بما سيؤثر ذلك على مستقبل النظام الليبرالي.

الدكتور منذر سليمان الباحث والأكاديمي المتخصص في شؤون الأمن القومي ومدير لمركز الدراسات الأمريكية والعربية في واشنطن ومدير مكتب الميادين في واشنطن يشير إلى أن هذه الازدواجية في تصريحات ترامب، ليست تخلياً عن فكرة الاستثنائية الأمريكية، لأنها تشمل على امتلاك القوة العالمية، ففكرة الاستثنائية حسب د. سليمان، هي ضمناً تحوي على فكرة قوة أمريكية وليس تخلياً ويشير بأنه قد يكون هناك سعي تكتيكي لاحتواء روسيا أو تحييدها مرحلياً في إطار تركيبة النظام الدولي، على اعتبار أن الصين هي المنافس الافتراضي الفعلي والأخطر على الهيمنة أو التفرد الأمريكي استراتيجيا وفي المدى البعيد.

ويضيف سليمان أن سياسة ترامب الحمائية على أمريكا أولاً هي جاذبة داخلياً للقواعد الانتخابية التي أيّدته في الانتخابات، ومن ضمن هذه القاعدة، هناك فئات كبيرة فقدت فرص العمل في أمريكا خاصة في الولايات التي تصنّف بأنها "الحزام الصدئ" وهي التي تحوي صناعات الصلب والحديد ومشتقاتها، ولكن هذه السياسة الحمائية لن تنقذ الاقتصاد الأمريكي الذي تحول إلى اقتصاد الخدمات والصناعات العسكرية والتقنيات والاعتماد على الأسواق المالية والبورصة، وأن الدخول بحرب تجارية متمثلة في زيادة الرسوم، هذا العقاب الذي يلوح به ترامب بزيادة الرسوم على الدول المنافسة، سيكون له ارتدادات داخلية أيضاً، لأنه سيؤدي إلى رفع أسعار السلع على المستهلك الأمريكي الذي اعتاد على السلع الرخيصة من الخارج وخاصة من الصين، وبنفس الوقت السلع التي تصدّر للخارج ستشهد أسعاراً مرتفعة، عدا عن كون أن هذه السياسة ليست مرهونة بالاقتصاد الأمريكي وحده، ثانياً.

ويلفت د. منذر سليمان إلى أن الكثير من المحللين يتحدثون عن التحول من النيوليبرالية إلى القومية الجديدة، وهذه النزعة الشعبوية والوطنية وجدناها ليس فقط في الولايات المتحدة، وإنما أيضاً في أوروبا، حيث تجلّت في انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والخوف من الهجرة من الخارج واعتبارها خطراً، ولكن النزعة الشعبوية القومية أيضاً لها دلالة على مسار تراجعي عن الاتفاقات التجارية الجماعية لصالح إقامة اتفاقات ثنائية، حيث نلاحظ أن ترامب يسعى إلى إلغاء اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ "تي تي بي"، وكذلك إعادة النظر والتفاوض مجدداً على اتفاقية "نافتا" مع كندا والمكسيك التي أبرمها كلينتون.

وربما تكون أوروبا هي المتأثر الأبرز بتداعيات سياسات ترامب في هذا الوضع الانتقالي من تراجع الليبرالية المعولمة وبحسب أحد المحللين والمتابعين للشؤون الخارجية في المجلس الأوروبي يقول: "إن الولايات المتحدة تحت إدارة ترامب، قد تصبح أهم مصدر لعدم الاستقرار" وذلك لعدة أسباب منها أن أمريكا لم تعد تعهداتها محل ثقة، وأيضاً المؤسسات الدولية تتعرض للضغط لأن ترامب ينظر لها بأنها قيد على أمريكا وليست وسيلة فعّالة لحماية مصالح أمريكا لذلك نجد هناك نوع من الخشية الأوروبية في محاولة تقرب ترامب من بوتين، لأنها تخشى من دور ونفوذ وثقل روسي في داخل أوروبا، وتشعر بأن ترامب كأنه يتخلى عن أوروبا ويتركها لطموحات وإمكانية انعكاس القوة الروسية عليها.

في حين يرى الدكتور عصام الخواجا عضو المكتب السياسي لحزب الوحدة الشعبية في أن رفع حدة التوتر من طرف الولايات المتحدة تجاه الصين، لم يكن وليد برنامج ترامب الانتخابي ونجاحه في سباق رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، بل هو نتاج لمتغيرات جيوسياسية كبرى تدحرجت في منطقتنا خلال العقد الأخير، وجذرها الأساس يكمن في فشل استراتيجية التدخلات العسكرية المباشرة والواسعة للولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان والعراق فتصريحات ترامب تجاه مختلف الملفات والقضايا ليست مزدوجة، بقدر ما تمثل قراءة مختلفة لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية من قبل مجموعة جديدة من النخب بعضها من داخل الحزب الجمهوري والبعض الآخر من خارجه، وترى بإدارة السياسة الأمريكية بطريقة مختلفة، تتغير بموجبها التحالفات والتفاهمات والأولويات، ما قد يوحي بجمع المتناقضات، في الوقت الذي تعبر عن شكل من إدارة الدولة يتماهى وإدارة الشركة الخاصة، وتعتمد مستوى عميقاً من الممارسة والمواقف الشعبوية والنزعات القومية الفاشية.

ويعتقد الدكتور الخواجا أن ترامب وسياساته يمثل مظهراً من مظاهر انكفاء الولايات المتحدة الأمريكية على نفسها، وإعادة رسم أولوياتها والتخلي عن أولويات كانت في السابق خطوط حمراء، ومن ضمنها تراجع الاهتمام بمنطقتنا العربية إلى مرتبة أدنى مما كانت عليه سابقاً، ورسم إطار جديد يخفض مستوى التدخل المباشر في شؤون المنطقة، مُسَلِماً بأن الدور الدولي الأساسي انتقل لروسيا التي يرغب ترامب بتحقيق تفاهمات مشتركة معها حول العديد من الملفات الأخطر باعتقاد ترامب والنخب التي يمثلها.

ويتشارك د. الخواجا الرأي مع د. سليمان حول المفهوم الجديد الذي يناقض كل السياسات الليبرالية الاقتصادية في العودة لاستخدام الأدوات الحمائية ولإغلاقيه كأحد وسائل حماية الاقتصاد القومي الأمريكي في مواجهة المنافسة الصينية والمنتجات غير الأمريكية، ودعوته للشركات الأمريكية الكبرى التي استقر جلّ إنتاجها خارج حدود الولايات المتحدة الأمريكية، وبشكل رئيسي في الصين ودول جنوب شرق آسيا الصاعدة، لتعود إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ما سيعني رفع كلف إنتاجها وتقليص قدرتها على المنافسة أمام مثيلاتها الآسيوية فهل سيستطيع ترامب إجبار هذه الكتل الاقتصادية الضخمة والمتنفذة على ذلك؟ أعتقد بصعوبة تطبيق هذا الإجراء لأنه سيواجه بمقاومة هذه الشركات وهذا أحد مظاهر التناقضات الجديدة داخل النظام الليبرالي.

نهاية عصر الليبرالية وبداية عصر القومية الشعبوية

بادئ ذي بدأ يجب أن نتطرق إلى بعض المصطلحات، من حيث الفكرة والتطبيق، وسنأخذ مصطلحين متداخلين، هما العلمانية والليبرالية، ما لهما وما عليها، حتى نصل إلى توقع بل قراءة نعتقدها صحيحة تنبأنا بنهاية عصر الليبرالية، وظهور عصر جديد، عصر القومية الشعوبية

التعريف الأول لليبرالية:

هي فلسفة سياسية أو رأي سائد، تأسست على أفكار (الحرية والمساوة)، تشدد الليبرالية الكلاسيكية على الحرية في حين أن المبدأ الثاني(المساواة) يتجلى بشكل أكثر وضوحاً في الليبرالية الاجتماعية تبنى الليبراليون مجموعة واسعة من الآراء، تبعاً لفهمهم لهذين المبدأين، ولكن بصفة عامة يدعم الليبراليون أفكار مثل حرية التعبير، حرية الصحافة، حرية الأديان، السوق الحر، الحقوق المدنية، المجتمعات الديمقراطية، الحكومات العلمانية والتعاون الدولي.

التعريف الثاني:

هي حركة وعي اجتماعي سياسي داخل المجتمع تهدف لتحرير الإنسان كفرد وكجماعة من القيود السلطوية الثلاثة (السياسية والاقتصادية والثقافية)، و تتكيف الليبرالية حسب ظروف كل مجتمع، إذ تختلف من مجتمع إلى مجتمع و يتم تحجيمها من خلال القوانين و التشريعات الخاصة بكل مجتمع حتى لا تتسبب في حدوث اي فوضى، فالليبرالية غير مرتبطة بالدين بقدر ماهي مرتبطة بمعنى الحرية، لإن تكون ملحداً او مسلماً او مسيحياً او يهودياً فهذا شأنك و سوف يحاسبك عليه ربك طالما انك لا تخرج عن حدود القوانين و التشريعات و لا تأذي غيرك، فهناك مسلم ليبرالي او مسيحي ليبرالي او يهودي ليبرالي كل وفقاً لعقيدته.

التعريف ثالث:

هي منهج مبني على ألا توجد حقيقة قطعية، ويمكن أن تكون منهجاً سياسياً أو اقتصاديا أو اجتماعيا أو فكرياً عاماً، وهي بذلك تخلف ورائها حالة فوضى، فوضى فكرية، فوضى أخلاقية، فوضى اقتصادية فالفكرة في حقيقتها تقوم على ما يعرف بـ"الفوضى الخلاقة" أو "البناءة" يعني اذا تركت الدولة الاقتصاد لأدوات السوق والعرض والطلب، بدون أي تدخل أو توجيه حكومي، عندها يحصل توازن طبيعي "الرأسمالية"، وكذلك إذا تركت الأفكار تطرح بحرية، تتكون حالة من الابداع "الحرية الفكرية".

برزت الليبرالية كحركة سياسية خلال عصر التنوير، عندما أصبحت تحظى بشعبية بين الفلاسفة والاقتصاديين في العالم الغربي، رفضت الليبرالية المفاهيم الشائعة في ذلك الوقت من امتياز وراثي، دين دولة، ملكية مطلقة والحق الإلهي للملوك، غالباً ما يًنسب لفيلسوف القرن السابع عشر جون لوك الفضل في تأسيس الليبرالية باعتبارها تقليد فلسفي مميز، جادل لوك بأن كل إنسان يملك الحق الطبيعي في الحياة، الحرية والملكية، وأضاف أن الحكومات يجب ألاّ تنتهك هذه الحقوق، وذلك بالاستناد إلى العقد الاجتماعي.

وفق التعريف الثالث، فأن الاقتصاد الحر أدى إلى انهيار الاقتصاد الأمريكي عن رمته عام 1929 مما أدى إلى سيطرة الفكرة الاشتراكية على العالم، لولا أن تم تدارك الوضع، من خلال التدخل المباشر من الحكومة الأمريكية، عن طريق ما يعرف بـ "الهندلة"، كأداة لتحريك الاقتصاد من حالة الركود، وكذلك شهدنا منذ قريب انهيارا آخراً، وتدخل آخر من قبل الحكومة الأمريكية لتدارك الاقتصاد أما من الناحية الفكرية أي "الحرية الفكرية"، أدت الليبرالية إلى حدوث الثورة الجنسية، التي اشتعلت في الستينات والسبعينات من القرن الماضي طبعاً المسلم إذا نادى بالليبرالية، قد يكون يقصد ليبرالية مقيدة، فهو يقيد الليبرالية بقيد(الشريعة) وهذا يعني العودة إلى التعريف الثاني.

يعارض الليبراليون المُحافَظة التقليدية، ويسعون لاستبدال الحكم الديكتاتوري المطلق، في الحكومة بـ(ديمقراطية تمثيلية) وسيادة القانون، لذلك استخدم الثوريون البارزون في كل من الثورة المجيدة، والثورة الأمريكية والثورة الفرنسية، الفلسفة الليبرالية ليبرروا الإطاحة المسلحة، لما رأوا أنه حكم استبدادي، بدأت الليبرالية بالانتشار بسرعة، خاصةً بعد الثورة الفرنسية.

شهد القرن التاسع عشر تأسيس حكومات ليبرالية في دول أوروبا، أمريكا الجنوبية وأمريكا الشمالية، في هذه الفترة، كان الخصم الأيديولوجي المهيمن لليبرالية الكلاسيكية هو المُحافظة، ومع ذلك نجت الليبرالية من تحديات أيديولوجية كبرى من معارضين جدد مثل: الفاشية والشيوعية.

خلال القرن العشرين، انتشرت الأفكار الليبرالية أبعد من ذلك، حيث وجدت الديمقراطيات الليبرالية نفسها على الجانب المنتصر، في كلتا الحربين العالميتين، ولذلك ففي أوروبا وأمريكا الشمالية، أصبح تأسيس الليبرالية الاجتماعية، عنصراً رئيسياً في التوسع في دولة الرفاهية

يتضح لنا الآن أن الليبرالية منهجاً عاماً أو منهجاً خاصاً.

نهاية الليبرالية فاشية ترامب ترسم مستقبلاً مرعباً للأميركيين

قال الكاتب الأميركي كورنيل رونالد ويست أن عصر الليبرالية الجديدة في أميركا وصل إلى نهايته بضربة أثارت الضجة من الفاشية الجديدة حيث نجح الانتصار السياسي لدونالد ترامب في تحطيم المؤسسات الحزبية للديمقراطيين والجمهوريين على حد السواء وقال الأكاديمي والعضو البارز في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الأميركي في مقال نشرته صحيفة "الغارديان" البريطانية، انعدام الأمان الاقتصادي وثقافة كبش الفداء لدى الأميركيين ساهمت بشكلٍ كبير في تركيع الليبرالية الجديدة والقضاء عليها.

وأضاف كورنيل الذي يعد أول أفريقي أميركي يحصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة برينستون وقام بالتدريس في جامعتي هارفرد وبرينستون أن فشل الحزب الديمقراطي الذريع في الحديث عن مشاكل الركود وازدياد فقر الطبقة العاملة من الأسباب الرئيسية في إطلاق العنان للمشاعر الشعبية الوقائية الممتلئة بالكراهية والتي تهدد بتمزيق ما تبقى من خيوطٍ هشة للديمقراطية الأميركية.

الشعبوية في مواجهة الليبرالية

يبدو أن بعض نظم الحكم الغربية في نظر كثير من المحللين تسير نحو الشعبوية لخلق منظومة تتناقص على طول الخط مع ارتضاه العالم الديموقراطي من قيم وآليات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية منظومة يمينية تتخذ في كل تواصل لها مع المجتمع مباشر او عبر وسائط أخري، خطاب يعمل في الأساس الأول علي ترسيخ أقدام الخطاب الذي يُحرض علي الإنعزالية والتشدد والانغلاق.

هل فقدت مقومات وقيم النظم الديموقراطية التي سادت في الغرب تأثيرها وهبطت من قمة السلم إلى اسفله هل فقدت العولمة بريقها حتى لدي النظام الأمريكي الذي ابتدعها وروج لها في كل أنحاء العالم هل ستخضع نظم الحكم الغربية لهيمنة زعامات سياسية لا تعرف من أدوات إدارة شئون الدول إلا تعميق الانقسام وانتهازية الفرص.

المجتمع الدولي لا يعيش لحظة متشائمة ولا متفائلة لكنه بشرقة وغربه يعاني من فقدان بوصلة " الغد " في أعقاب انتهاء صخب الاحتفال بتنصيب دونالد ترامب رئيس للولايات المتحدة الأمريكية الذي حرص ضمن خطابه التعبوي على إبداء الكثير من التشدد الذي ينذر بالتركيز على القومية من ناحية واهمال شأن قيم الليبرالية من ناحية ثانية.

الرئيس الأمريكي لا يري الآخر "غير الأمريكي" لأن الهوية الوطنية التي تمثل هاجسه الأول، تُبني عنده علي عدم تساوي الآخر مع أصحاب هذه الهوية لذلك لابد من الانغلاق والتحفيز علي الاهتمام بالشأن الداخلي سواء في ميادين الاقتصاد أو دروب السياسة في الأولي أمر فعلاً في إعادة النظر بهدف أعادة التفاوض حول الاتفاقيات التجارية مثل "النافتا" و "منظمة التجارة العالمية"، وفي الثانية بدأ بتشجيع بريطانيا علي استكمال خطوات خروجها من الاتحاد الأوربي وأظهر عدم الاكتراث بما تقوم به روسيا من تثبيت لأقدامها في منطقة الشرق الاوسط.

الحلفاء الذين توثقت صلتهم بواشنطن على امتداد الستة عقود الأخيرة، لم يُظهر ترامب الاهتمام الواجب بهم، بل واصل هجومه العنيف ضد هؤلاء الذين وصفهم ضمن حملته الانتخابية بأنهم استفادوا من قوة واشنطن ونفوذها وثرواتها وقواتها المسلحة، وكرر مرة أخري أنه قد آن الأوان أن يشاركوا في تحمل فاتورة الأعباء التي كانت تتحملها الميزانية الفيدرالية الأمريكية بمفردها.

مستقبل النظام الدولي الليبرالي في عهد ترامب

نشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة دراسة ل "كارن أبو الخير" مستشار التحرير بمجلة السياسة الدولية بمؤسسة الأهرام حول مستقبل وملامح النظام الدولي الليبرالي عقب تولي الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب"، والتي تؤثر على الساحة الدولية واستقرارها بشكل عام، إضافة إلى العوامل التي قد تؤثر على ترامب إزاء ادارته وسياساته الجديدة التي ينوي انتهاجها.

تستهل الكاتبة الدراسة بالإشارة إلى أن النظام الدولي الليبرالي الذي قد تشكل عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، الذي بدأ ينهار أمام أعين الكافة نتيجة لعوامل عديدة يأتي أهمها في تراجع قوة وتأثير الغرب على الساحة الدولية وانتشار الصراعات المسلحة وتراجع اقتصاد السوق لدى قطاعات مجتمعية عريضة لمختلف دول العالم، إضافة إلى الأزمات السياسية الداخلية المترتبة على تصاعد التيارات الشعبوية في كثير من البلدان الديمقراطية الليبرالية.

كما يعتبر البعض أن انتخـاب ترامـب يعد إضافة جديدة إلى ملامـح الأزمة التـي يعانيهـا النظـام الدولـي، وأنه لاشـك في أنـه سـيضيف قدرا جديدا مـن عـدم الاسـتقرار إلى أحـوال هـذا النظـام فترامـب هـو أول رئيـس أمريكـي منـذ عقـود لا يتبنـى رؤيـة النخبة السـائدة عــن أهميــة النظــام الدولــي الليبرالــي للمصالــح الأمريكيــة، فلــم يعبـر مرشـح رئاسـي واحـد مـن قبـل عـن تشـككه فـي جـدوى أو شـروط أو اسـتمرارية تحالفـات الولايـات المتحـدة الخارجيـة، بعكس ترامــب الذي عبــر مــرارا وتكرارا في أحاديثه وخطاباته المختلفة قبل توليه رئاسة البلاد، أن كل التزامـات وتعهـدات الولايـات المتحـدة أصبحت مطروحــة لإعــادة التفــاوض.

كل ذلك إضافة إلى الصفات التي تميز شخصية ترامب كالتقلب والرغبة في مفاجأة الآخرين بدلا من الإعلان الصريح عن نواياه، ولا شك أن ذلك كله قد أدى إلى حالة من عدم اليقين الحاد بشأن مستقبل النظام الدولي الليبرالي في عهده، حيث الوصول إلى وضع تغيب فيه القدرة على التنبؤ بالاحتمالات المستقبلية باستخدام وسائل القياس المعتادة وفقا لما مضى فهناك صعوبة في توقع مستقبل التفاعلات الدولية في المرحلة القادمة، فحتى الملامح الأولية للنظام الجديد تحيطها العديد من الاحتمالات بشأن مساراتها وقابليتها للتحقق على أرض الواقع.

إجمالا يعكس فوز ترامب أن ملايين الأمريكيين قد توافقوا حول أن الخطر الحقيقي الذي يهدد البلاد يتمثل في النخبة الحاكمة من الحزبين، التي تبنت الرؤية الليبرالية المعولمة والتي طبقت سياسات أضعفت البلاد سياسيا واقتصاديا، كما فشلت في حماية حدودها وأقحمت الولايات المتحدة في معارك فاشلة في الشرق الأوسط، إضافة إلى موافقتها على اتفاقيات تحرير التجارة التي أضرت بالطبقة الوسطى تجدر الإشارة هنا إلى أن ذلك العداء للنخب الليبرالية الذي أتى بترامب إلى السلطة ليس بالولايات المتحدة وحدها، بل قد امتد أيضا إلى دول غربية ديمقراطية ولكن ظهرت هذه التجليات بنسب متفاوتة، كفرنسا وإيطاليا وألمانيا واليونان.

ترامب ونهاية النظام الليبرالي العالمي

في مقال مهم لصحيفة "فايننشال تايمز" (11 نوفمبر 2016)، يتساءل المفكر الأميركي المعروف "فرانسيس فوكوياما" هل يشهد العالم مع فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية نهاية العصر الليبرالي الذي بدا أنه انتصر في العالم كله بعد هزيمة الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة فوكوياما يذهب إلى أن انتصار ترامب يعادل من حيث الأهمية سقوط جدار برلين 1989، ويعني نهاية حقبة المنظومة الليبرالية العالمية التي تشكلت عام 1950، معتبراً أن الاتجاه البارز حالياً هو هيمنة الأنظمة القومية التسلطية المناوئة للقيم الليبرالية الاقتصادية والسياسية، حتى في قلب الديمقراطيات العريقة.

في هذا السياق، يتعين حسب فوكوياما ربط ظاهرة ترامب بظواهر مماثلة، مثل سيطرة الجناح اليميني المعادي للمشروع الاندماجي الأوروبي في بريطانيا، وصعود التيار اليميني المتطرف في فرنسا، وإن كانت الحالة القومية التسلطية أبرز في روسيا وتركيا فوكوياما يتبنى التحليل السائد في ربط هذه الظواهر بالتصدع الاجتماعي المتولد عن العولمة الاقتصادية التي عمقت الفوارق بين المدن والأحياء الغنية المندمجة في الاقتصاد العالمي الجديد والمناطق الريفية والصناعية التقليدية المتضررة من هذه الحركية، بما يفسر استناد التيارات القومية الصاعدة للقوى المحافظة الانكفائية الرافضة لمنطق التبادل الحر والسيادة المقاسمة.

من هذا المنظور يبدو ترامب منسجماً مع نفسه في قوميته الانعزالية اقتصادياً واستراتيجياً، بيد أن هذا الخط الصاعد بقدر ما يعرض مصالح الولايات المتحدة لمخاطر جمة باعتبار موقعها الريادي في المنظومة الدولية، فإنه يعرض الاقتصاد العالمي والسلم الدولي للانهيار (الرجوع لأزمات وحروب الثلاثينيات) ما يخلص إليه فوكوياما هو أن مصدر التهديدات التي تتعرض لها حالياً المنظومة الليبرالية ليس البلدان التسلطية غير الديمقراطية، بقدر ما يتركز التهديد في قلب الأنظمة الديمقراطية التي اكتسحتها التيارات القومية غير الليبرالية.

في المنظور ذاته، خصصت صحيفة "الإيكونوميست" البريطانية ملفها الأخير لموضوع القوميات الجديدة (العرقية) التي ميزت بينها والقوميات الليبرالية التقليدية (القومية المدنية) التي كانت تؤسس تصورها للأمة على القيم المدنية وفي مقدمتها مبدئي الحرية والمساواة، مستنتجة خطر انفجار الصراعات بين قوميات متنافسة لا تؤمن بمبدأ الشراكة الدولية ما يتعين التأكيد عليه هنا هو التفريق بين القومية الانكفائية والاتجاه الواقعي في العلاقات الدولية الذي هو التيار الغالب على قيادات الحزب الجمهوري الأميركي.

من هذا المنظور ليس ترامب امتداداً للمحافظين التقليديين (المتنفذين في عهد ريغان) ولا المحافظين الجدد (المؤثرين في حقبة بوش الابن) أحد رموز الاتجاه الأخير، وهو "روبير كاغان"، كتب في صحيفة "واشنطن بوست" (11 نوفمبر) معلقاً على التوجهات الديبلوماسية للرئيس الأميركي الجديد معتبراً أنها لا تندرج في المنظور الواقعي الذي هو صياغة تأليفه معقدة بين المصالح والقيم ضمن توازنات تقتضي امتلاك الحس التاريخي وسلوك خط الاعتدال الحذر، منبهاً إلى أن مصالح أميركا الحيوية تتطلب الحفاظ على موقعها الريادي في العالم ودفاعها عن قيمها الليبرالية لا لأغراض أيديولوجية وإنما لنتائجها العملية المفيدة بالنسبة لاقتصاد الولايات المتحدة وأمنها.

ورغم ثغرات ونقائص النظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية بخلفياته الليبرالية المعروفة (فكرة المجموعة الدولية التي تحكمها قوانين الشراكة والتضامن)، فإن هذا النظام ساهم خلال ستين سنة الأخيرة في تسوية عدد مهم من الأزمات الدولية وفي ضبط التوازنات الاستراتيجية العالمية وحماية البلدان الصغيرة. ولا شك أن ثمن التخلي عنه سيكون العودة لعصر الإمبراطوريات القومية المتصارعة.

التغيرات القائمة تضع الاقتصاد العالمي في وضع سيء كما الأمن الأوروبي

في هذا الإطار، يؤكد خبراء في الشؤون السياسية والاقتصادية، أن ما حصل في أميركا وبريطانيا بفعل الغالبية الضيقة التي رجّحت كفة معسكر عدم استقرار الغرب، ينذر أن عام 2017 يشهد منعطفاً حاسماً نحو المجهول لا يمكن التنبؤ بنتائجه، متسائلين عما إذا كنا أمام نظام دولي جديد بالكامل ويلفت هؤلاء إلى أنه بات بحكم المؤكد، أن هناك مرضاً غير معلن يتفشى، يمكن وصفه بـ "هاجس الديمقراطية"، وسيؤدي إلى تدمير الديمقراطية إذا ما أكملت في هذه المنعطفات وبالتالي نحو "ثورة سلبية".

ووفق الخبراء، فإن مواجهة هذا الأمر تتطلب بذل كثير من الجهود لحفظ وحدة المحافظين في أوروبا، بعد أن سمح الأميركيون بوصول شخصية مثل ترامب، فيما البريطانيون وبنتيجة استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي أرادوا لأنفسهم القفز في المجهول، في مغامرة مصيرية من دون إعادة تأمين هذه التغيرات ستضع الاقتصاد العالمي في وضع سيئ، كما الأمن الأوروبي مع الحروب والهجمات الرقمية والترهيب والتهديدات النووية، وهو ما حذّر منه زعيم حزب الخضر الألماني جيم أوزديمير: "إن وصول ترامب يشكل اختباراً قاسياً، مع ذلك نأمل أن تكون قوى الشفاء الذاتي للديمقراطية الأميركية قوية بما فيه الكفاية، وعلى أية حال على المرء أن يكون على استعداد لتوجهات عصيبة في العلاقات عبر الأطلسي".

وعلى الرغم من ذلك، يؤكد مسؤولون أوروبيون أن القارة ستبقى مشروعاً حضارياً وليس مشروعاً اقتصادياً، على عكس ما صرح به ترامب أخيراً، عندما اعتبر أن الاتحاد الأوروبي تأسس من أجل هزيمة الولايات المتحدة الأميركية تجارياً، وأنه لا فرق لديه إن كانت أوروبا موحّدة أو مجزأة ولم تتأخر المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، في الرد "يريدون خوض المعارك بشكل غير عادي بوجه ممثلي صناعاتنا"، في إشارة منها إلى كلام ترامب الذي هدد بفرض رسوم جمركية مرتفعة على شركات صناعة السيارات الألمانية والتي قد تصل إلى 35 في المائة على غير المصنعة في الولايات المتحدة.

وأضافت: "أنا جاهزة لذلك، نحن لا نريد أن نخفي قناعاتنا في ما يخص التجارة الحرة وتغير المناخ ووحدة أوروبا والديمقراطية"، قبل أن تعود لتؤكد لاحقاً أن "العمل المشترك يبقى الأفضل للجميع وهو ما ينطبق على الاقتصاد والتجارة والدفاع" علماً أن التكتل الأوروبي يحمي نفسه من إغراق الأسواق ببضائع رخيصة من الخارج للحفاظ على قطاعاته وبالأخص الزراعية من خلال فرض رسوم استيراد مرتفعة عليها خلال مواسم جني المحاصيل، ويعمل للمواءمة بين التجارة الحرة وسياسة الحمائية مع الالتزام بمعايير الأمان والجودة.

من جهته، رد نائب المستشارة، زيغمار غابريال، بنوع من السخرية "نصيحتي أن يصنعوا السيارات الأميركية بنوعية أفضل، ربما سيجدون شخصاً ما يشتريها"، علماً أن الأخير وخلال زيارته، الأسبوع الماضي، واشنطن خفف من حدّة كلامه، معلناً أن ألمانيا تريد الاقتراب من الولايات المتحدة باليد الممدودة "وليس لديها ما تخفيه على الرغم من الخلافات".

وبحسب مكتب الإحصاء الاتحادي الألماني، فإن الصادرات الألمانية إلى الولايات المتحدة زادت بنسبة 7.7 في المائة العام الماضي، وشملت الآلات والأدوية والسيارات والمعدات الثقيلة، فيما الأخيرة لم تصدّر إلى ألمانيا إلا نصف هذه النسبة وبحسب الخبراء فإن ترامب يعتبر كل ذلك تم على حساب الإنتاج والوظائف في الولايات المتحدة، أي أن ألمانيا تنتج أكثر مما تستهلك وهذا ما سمح بزيادة فائض الصادرات في ألمانيا، العام الماضي، إلى 56 مليار يورو، علماً أن هذا الواقع لا يتوافق أساساً مع اتفاقيات الاتحاد الأوروبي، التي لا تجيز أن يتجاوز فائض صادرات أي دولة من دول التكتل عن 6 في المائة من الأداء الاقتصادي.

ويقول خبراء إنه كان ينبغي على المفوضية الأوروبية أن تواجه ألمانيا، إنما هناك تردد في هذا المجال مع صاحبة الاقتصاد الأقوى في أوروبا، وأن عدم مطالبة النقابات العمالية برواتب عالية يترك ألمانيا في موقع المنافس عالمياً، وهذا ما يعتبر قيمة مضافة للقوة الاقتصادية الألماني

وفي السياق نفسه، يرى خبراء اقتصاد ألمان أن على ترامب ألا يراهن على أرباح قصيرة المدى، وعليه أن يستنير من مستشارين أكفاء للاقتناع، أن الولايات المتحدة هي أكبر المستفيدين من النظام الاقتصادي الليبرالي الذي شكّلته، وليس على حساب أوروبا إنما على حساب دول آسيوية مثل الصين واليابان وكوريا وسنغافورة وتايلاند، والخطر يكمن في أن تتم المراهنة والتلاعب بهذه الشراكة مع الأوروبيين.

ويبقى الأمل في أن يعيد ترامب حساباته ويمد اليد إلى شركائه من الأوروبيين، مع جزم الخبراء، أن عجز التجارة الخارجية الأميركية يعود إلى عشرات الملايين من المستهلكين في الولايات المتحدة الذين يشترون منتجات رخيصة وجيدة بغض النظر عن اسم بلد المنشأ، وهنا مكمن الخلل وليس كما يردد ترامب، أن هناك صفقات سيئة.

من جهة أخرى، يقول مراقبون إنه بالإمكان إعادة الثقة والعظمة لأوروبا من خلال إعادة النظر بالمساواة والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون، في ظل الاستياء العارم والحديث عن فشل أوروبا وغياب الإصلاحات الجديدة، خصوصاً في جنوبها، وأن العملة الموحدة ليست بخيار موفق ويشدد هؤلاء على أهمية التركيز على ما تحقق في أوروبا ومعها، إذ لا تتجاوز نسبة البطالة في ألمانيا حاليا 6.3 في المائة، وهذا الرقم لم يُسجل منذ العام 1991، فيما هي 8.3 في المائة في غالبية دول التكتل، بينها دول الجنوب، ويتم العمل على زيادة نسبة التشغيل لتحسين اقتصاداتها الضعيفة، علماً أن أرقام وكالات العمل الأوروبية تشير إلى أن مجموع العاطلين عن العمل انخفض 1.8 مليون عاطل عن ديسمبر/كانون الأول 2015.

في المقابل، يشدد مدراء في معاهد أبحاث سياسية واقتصادية على ضرورة الأخذ بعين الاعتبار الأسباب التي أدت إلى وصول دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة الأميركية وخروج بريطانيا من الاتحاد، مشيرين إلى أن انتفاء العدالة الاجتماعية هي السبب الرئيسي، التي سمحت بتمدد الأحزاب اليمينية الشعبوية في أوروبا، حتى أن الأخيرة بدأت باستخدام شعارات ترامب نفسه مثل "لنُعد لأوروبا قوتها"، وهو الأمر الذي عبّرت عنه رئيسة حزب "البديل من أجل ألمانيا"، فراوكه بيتري، خلال اجتماع للأحزاب الشعبوية في أوروبا، بقولها إن "ترامب قدوة وسيخرج أميركا من الطريق المسدود، ونحن في أوروبا سنفعل مثله".

مركز النبأ الوثائقي يقدم الخدمات الوثائقية والمعلوماتية
للاشتراك والاتصال www.annabaa.org

....................................................
المصادر
-العربي الجديد
-موقع حزب الوحدة الشعبية
-موقع كتابات
-هافيغنتون بوست
-ايلاف
-بوابة الشروق
-جريدة الاتحاد

اضف تعليق