q

السياسة هي إدارة نشاط بشري معين بالعدد ورقعة المكان، والانتماء الى كيان سياسي، دولة، محددة الأركان والمعالم، والسياسة في اللغة، تأتي من مصدر على فِعالة، كما أشار ابن سيده، فقال: وساس الأمر سِياسة. وقبله الصاحب بن عباد والسياسة فعل السائس، والوالي يسوس رعيته، وسُوِّس فلانٌ أمر بني فلان؛ أي: كُلِّف سياستهم، وبعدهما الفيروز آبادي: وسستُ الرعية سياسة أي أمرتها ونهيتها.

وهي مأخوذة من الفعل ساس، أو هو مأخوذ منها، على خلاف بين النحْويين، ومضارع الفعل يسوس؛ أي: إنَّ المادة واويَّة، كما نصَّ على ذلك السرقسطي، واصطلاحا تعني رعاية شؤون الدولة الداخلية والخارجية، وتعرف إجرائيا حسب هارولد لاسويل: بأنها دراسة السلطة التي تحدد من يحصل على المصادر المحدودة متى وكيف.

أما ديفيد إيستون فيرى السياسة بأنها دراسة تقسيم الموارد في المجتمع عن طريق السلطة، في حين عرفها الشيوعيون بأنها دراسة العلاقات بين الطبقات، وعرف الواقعيون السياسة بأنها فن الممكن، أي دراسة وتغيير الواقع السياسي موضوعيا، وتعبر السياسة عن عملية صنع قرارت ملزمة لكل المجتمع، تتناول قيما مادية ومعنوية وترمز لمطالب وضغوط معينة، وتتم عن طريق تحقيق أهداف ضمن خطط أفراد وجماعات ومؤسسات ونخب معينة أيضا.

رؤية سماحة آية الله العظمى، المرجع الشيرازي مختلفة، أو مستقلة عن سواها، سماحته يبرِّز البون بين سياستين، السياسة المعاصرة في عالم اليوم، والإسلامية في حكومات إسلامية دمغت التاريخ ببصمتها الإنسانية الخاصة بها، بعد أن صنعت ركائز دولة الإسلام العظيمة.

تلك هي سياسة قادة الإسلام العظام، قوامها العدل، وهيكلها الإنصاف، وفعلها غنى الإنسان وكرامته، وطريقها المساواة، وعنوانها الأكبر (الإنسانية)، فأين منها سياسة اليوم الفقيرة لهذه القيم العظيمة في أصولها وفروعها، كما تنوِّه بذلك رؤية المرجع الشيرازي في نص قوله...

(إنّ السياسة الإسلامية تبايِن السياسة العالميةـ اليومـ وتختلف عنها في أصولها وفروعها، فالسياسة الإسلامية هي غير السياسة المعاصرة التي تمارسها الدول تماماً، وذلك: لأن الإسلام يتبع في سياسته مزيجاً من: الإدارة والعدل، والحب الشامل، وحفظ كرامة الإنسان، وحقن الدماء. فهو يسعى في أن لا تراق قطرة دم بغير حق، أو تهان كرامة شخص واحد جوراً، أو يظلم إنسان واحد.. بل وحتى حيوان. المصدر/ السياسة من واقع الاسلام للمرجع الشيرازي).

سفك الدماء حاجز فاصل بين سياسة العالم اليوم، وسياسة الإسلام الذي بسط مبادئه في بقاع واسعة من أراضي المعمورة، اليوم تضيع الدماء هباء، تُهد الكرامة، تُسلَب الحريات، تُشاع مهالك الظلم، فأين سياسة التوحش الآن من سياسة الأخلاق والرحمة في دولة المسلمين الكبرى آنذاك.

يصرّح سماحة آية الله العظمى المرجع الشيرازي بأن (السياسةـ بمفهومها المعاصرـ هي القدرة على إدارة دفّة الحكم وتسيير الناس والأخذ بالزمام مهما كلّفت هذه الأمور من: إهدار كرامات.. وإراقة دماء.. وكبت حريات.. وابتزاز أموال.. وظلم وإجحاف.. ونحو ذلك).

فمبادئ ميكافيلي تحكم السياسة المعاصرة، كل شيء يبرر الوصول الى السلطة ضمن مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة)، لا مشكلة في تعميم الموت الزؤام، لا تثريب في قطع رقاب الأبرياء، لا تردد، ومخافة الله، حذفتها ممحاة الطمع المولود من رحم الآمال العريضة والجشع الراسخ.

فـ (مادام الحكم لـلحاكم والسلطة خاضعة لأمره ونهيه فهي الغاية المطلوبة لتبرر الواسطة، وإن كانت الواسطة إراقة دماء الألوف.. بل وحتى الملايين جوراً وظلماً.. هذا هو منطق السياسة التي تمارس في بلاد العالم اليوم) بحسب رؤية المرجع الشيرازي.

كم نحتاج حتى نغيّر سياسة اليوم في عالمنا المنخور بالظلم، ما هي وسائلنا؟؟ هل عندنا قدرات تكفي لردع السياسة المتنمرة؟ كيف يصحو عالمنا اليوم، حتى يعيد الإنسان الى إنسانيته، مَن يدق الأرض، أرضنا ويفتح فيها أساسا لسياسة يحلم بها الإنسان ظامئا لها، لا حل حسب رؤية المرجع الشيرازي إلا بالعودة الى (السياسة الإسلامية، فهي كما أسلفنا بنيت على أسس العدل الكامل.. والكرامة الإنسانية.. والعفو بجنب الصمود والقوّة) هذا قول سماحته في كتابه السياسة من واقع الإسلام.

يعطي سماحة المرجع الشيرازي براهينه، ويسطّر الأمثلة عن تصورات ممكنة له، فثمة أمل يفتح السبل والمسالك نحو سياسة عالمية جديدة، لحمتها العدل، وسداها المساواة، بصيرتها الإنسانية، (فهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، حينما كان على عرش الرئاسة الكبرى للدولة الإسلامية العظمى التي كانت قد ضربت بأطرافها الممتدة على أعظم رقعة من المعمورة، والتي كانت تحسب لها الحساب كل الدول في العالم آنذاك، تراه يعرف قاتله، ويذكر لـه أنه هو القاتل له، لكنه لا يمد إليه يداً بعنف أبداً).

أعلى وأقوى قائد في دولة المسلمين، يتعرض للاغتيال في محراب الصلاة، بضربة سيف غادرة، تخضِّب لحيته البيضاء بدمه، لكنه يرأف بقاتله، ويطلب الحفاظ على روحه ورعايته، ليأكل القاتل الغادر مما يأكل الإمام المغدور ويشرب مما يشرب.

مثال حي لا يموت، يشهره التاريخ على الباحثين المنقبين، مسندودا بآلاف البراهين، يدّق إسفين التباعد بين سياسة العالم المعاصرة، وسياسة الإسلام، ويعمّق التباين بينهما، وما على العالَم سوى مغادرة مبادئه الكسيحة في السياسة المعاصرة، سياسة الدم والتوحش، وما عليه إلا العودة الى منهل السياسة الأصيل، حكومتان يقر بهما التاريخ، حكومة النبي الكريم (ص)، وحكومة أمير المؤمنين (ع)، هاتان الحكومتان قدمتا نموذجا في السياسة لم يتكرر الى الآن ولن يتكرر، فما أحرى بساسة الحاضر، من المسلمين وقادة العالم، أن يغترفوا من نبعها الثرّ.

اضف تعليق