q

د. هيثم الحلي الحسيني

 

ينظر الفكر الفلسفي والمجتمعي الغربي، للمجتمع المدني بأنه المكونات المجتمعية، ومجموعة التنظيمات التطوعية الحرة، غير الإرثية وغير الحكومية، الواقعة بين الأسرة والدولة، التي تهدف لتحقيق مصالح أفرادها، أو هو المجتمع التعاقدي المنظّم وفق القانون الوضعي، مقابل المجتمع الطبيعي، القائم على الرغبات والمصالح الفئوية، كما تعبر عنها، أدبيات المجتمع المدني أكاديميا.

غير أن للفكر الإسلامي، رؤيته الأكثر إتساعا وشمولية، بما يعكس أهداف المنظومة المجتمعية الإسلامية، ومكوناتها ومسؤولياتها، لجهة بناء المجتمع السليم، وتأمين الخدمات الضرورية له، وتوفير الموازن الإستراتيجي للدولة، لضمان الحقوق والواجبات والوظائف الإجتماعية، في كمّها ونوعها، فضلا عن إتجاهاتها، التي تتشابك بين الفرد، والجماعة، ثم المجموع، والدولة.

إن الجماعة في صيغتها المفردة والجمعية، تشكل البناء الأساس لمؤسسات المجتمع المدني، مما يستدعي البحث المفصّل في وظائفها ومهامها البينية، وباتجاه المكونات المجتمعية الأخرى، بغرض إستقصاء الرؤيا الإسلامية، التي تضمن تنمية المجتمع وإستقراره وازدهاره، إيمانيا ضمن المجتمع الإسلامي، وحتى إنسانيا، في الإطار المجتمعي الأوسع.

فيجري التعبير عن هذه الجماعات في أدبيات المجتمع المدني، ومن خلال ما يعرف بالمنظمات غير الحكومية، "NGO,s"، "بالجماعة الخاصة"، وهي المنظمات التي تنصرف الى الدفاع عن مصالح فئات محددة في المجتمع، كمثل شريحة إجتماعية بعينها، أو طبقة جماهيرية أو ذوي مهنة أو حرفة معينة، أو إهتمام مشترك، وفي مقابلها تعمل "الجماعات العامة"، التي تعبر عن مصالح ومنافع وإهتمامات عموم المجتمع، كجماعات الدفاع عن الحقوق والحريات العامة، ومراقبة الصحة العامة، أو حماية المستهلك وسواها.

وفي مدركات في الفكر المجتمعي الإسلامي، تحفل النصوص المقدسة، من خلال المنهج النقلي الرصين، بمرجعيات فكرية معتبرة، لإستدعاء الفهم المستنير لمكنونات المجتمع المدني، ذلك في إعتماد منهج الإستضاءة، بالنص القرآني الشريف، ضمن وحدة الموضوع، ثم يستكمل هذا المنهج النقلي التحليلي، في إستقصاء الروايات المعتبرة، في السنة الشريفة.

وفي هذا التصوّر، يرى الأستاذ الفقيه، السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، أن آية "المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض"، تمثّل الأساس الحقوقي، لمؤسسات المجتمع المدني، وذلك ضمن منهجه التفسيري، الذي يعتمده في بحثه الفقهي والمعرفي، ضمن الرؤية الفكرية الإسلامية، وقد إعتمدت هذه الورقة، مباحثه في الفكر المجتمعي الإسلامي، نموذجا للدراسة.

وعليه فإن الرؤية الفكرية الإسلامية، حول مؤسسات المجتمع المدني، تفضل التعبير عنه بالمجتمع "الإيماني والإنساني"، وفق إطار معرفي منفتح، ينبع عن نظرة الإسلام الى المجتمع المدني وحقيقته، وموقفه من المدارس المجتمعية المتنوعة، وبما يعكس أهداف المنظومة المجتمعية، ومكوناتها ومسؤولياتها، لضمان الحقوق والواجبات والوظائف الإجتماعية.

ينظر الفكر الإسلامي، الى مدركات المجتمع المدني، بإعتباره من الموضوعات المعتبرة، ذات البنية الإستراتيجية، التي تخلص لتأصيل البناء الأساس، لمؤسسات المجتمع المدني، وبالتالي تبيان وظائفها ومهامها البينية، ومسؤولياتها باتجاه المكونات المجتمعية الأخرى، بغرض إستقصاء الرؤيا الإسلامية، التي تهدف الى تنمية وبناء المجتمع، وضمان إستقراره وازدهاره، وعلاقته المتوازنة بالدولة.

وتضطلع هذه المسؤولية الفكرية والإيمانية، بضرورة تبيان وظائف المكونات المجتمعية، في المجالات الكمية والنوعية والإتجاهية، إذ أن الجماعة في صيغتها المفردة والجمعية، تعبّر عن وحدة البناء لمؤسسات المجتمع المدني، وضرورة تنميتها إيمانيا ضمن المجتمع الإسلامي، وحتى إنسانيا، في الإطار المجتمعي الأوسع، وفق الأطر القانونية والشرعية لها.

وفي المقابل، يعرّف المجتمع المدني وأنشطته، وفق الفكر الفلسفي والمجتمعي الغربي، بأنه المكونات المجتمعية، التي تقع مابين الأسرة والدولة، أو قد يعبّر عنه، بمجموعة التنظيمات التطوعية الحرة، التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، لتحقيق مصالح أفرادها، أو هو مجمل التنظيمات الإجتماعية التطوعية، غير الإرثية وغير الحكومية.

غير أن للرؤيا الفكرية المجتمعية الإسلامية، نظرة أخرى، والتي تتقاطع مع مسطحات هذه التعريفات، لكنها قد تقبل بعضا من مضامينها، فضلا عن إن هذه الرؤية النقدية لمنظومة المجتمع المدني، وإنطلاقا من عدم قبول جلّ تعريفاتها، ُتشكل على التسمية "بالمجتمع المدني" ذاتها، فضلا عن مدركاتها، مما يبين الحاجة البحثية فيها، وفق مقاربة نقدية تحليلية.

إن هذه الرؤى، تعكس أهداف المنظومة المجتمعية ومكوناتها، ثم وظائفها ومهامها، فهي تتأطر في الرؤية الإسلامية، لجهة بناء المجتمع السليم، وتأمين الخدمات الضرورية له، وتوفير الموازن الإستراتيجي للحكومة، ليحول دون الإستبداد الحكومي، لحقوق الناس ومصادرة حرياتهم الأساسية.

إن هذه الرؤى النقدية والتعريفية، تتوافق مع المنهج الإسلامي، في رؤيته الراقية والشاملة والمتعمقة للمجتمع، إن في المدى الأفقي أو المدى العمودي، لجهة إستيعاب كافة مكونات المجتمع وألوانه، من حيث الحقوق والواجبات والوظائف الإجتماعية، وكذا من حيث تنفيذ المهام والواجبات، بما يؤمن توسع الفائدة منها في كمّها ونوعها، فضلا عن إتجاهاتها، وهي مادة بحثية تحتاج الدراسة المعمّقة.

ينظر الفكر الإسلامي الى المجتمع، من حيث تفرعاته ومكوناته ووحدة البناء فيه، الى أنها تشمل الفرد، ثم جماعة الإفراد، ثم مجموع الجماعات التي تؤلف سواد المجتمع، ثم تستكمل هذه المنظومة بالدولة، التي تتبادل مع جميع المكونات المجتمعية، وظائفها ومهامها، كما أن المكونات الأخرى تتبادل فيما بينها نفس الدالات الوظيفية، حسب موقعها ووظيفتها في المجتمع.

وعليه فإن هذه المجموعات المجتمعية الأربعة، ستكوّن ستة عشر إتجاها وظيفيا، وفق المقابلة الشبكية بينها، وهو ما يفرض شمولها بالبحث والدراسة، غير أن مجموعة الجماعة، في صيغتها المفردة والجمعية، هي التي تشكّل البناء الأساس لمؤسسات المجتمع المدني، والتي تعبر عنه، في وظائفها ومهامها البينية، وباتجاه المكونات المجتمعية الأخرى.

إن واقع المجتمع المدني ومعطياته الحالية، تستوجب الدراسة والبحث المعمّق، بغرض إستقصاء الرؤية الإسلامية في هذا المجال الحيوي، وبالتالي وضع البرامج والمناهج التفصيلية، لبيان الطريق الأمثل، الذي يتطلب أن تسلكها هذه المكونات، لتحقيق أهدافها وغاياتها، بما يضمن تنمية المجتمع وإستقراره وإزداهره، إيمانيا وفق إطار المجتمع الإسلامي، وحتى إنسانيا، وفق الإطار المجتمعي الأوسع.

يعد منهج الدراسة التحليلي والإستقصائي، في إستقراء واقع جزئيات المجتمع المدني ومعوقاته، ومن ثم استنباط المسالك المثلى لمعالجته وتقويمه، أو حتى لبناء أسسه إبتداءا، لتشكّل مخرجاته الكلّية البحثية، مجموع الوظائف والمهام والمسؤوليات، التي تلقى على عاتق منظومة المجتمع المدني، وضروراته وأهدافه.

يخلص المنهج النقلي العلمي، الى الأساس القانوني والنظري الواسع لمؤسسات المجتمع المدني، وفق تشريعات التماسك والتكامل والتكافل الاجتماعي، الذي يتحمل فيه جميع الأفراد المسؤولية، تجاه بعضهم، أفراداً ومجاميع ومؤسسات ودولة، وفق وظائفهم ومواقعهم ودالّاتهم المجتمعية، فقد كانت هذه الآية الشريفة، هي المرجعية النقلية، في استنباط مباني البحث ومخرجاته.

وكذا يستكمل المنهج النقلي أبعاده الدراسية البحثية، في إستقصاء الروايات المعتبرة، في السنة الشريفة، التي شكلت المادة التفصيلية، في استنباط أحكام موضوع المجتمع المدني ومبانيه، وفق رؤى الفكر الإسلامي، وبما يجعله ملامسا للبحث الفقهي والعقدي.

تقدم المناهج الفقهية والفكرية الإسلامية، إضاءات عن الرؤية الإسلامية والإنسانية، حول مؤسسات المجتمع المدني، وفق إطار معرفي متميز، ينبع عن نظرة الإسلام الى المجتمع وحقيقته، وموقفه من المدارس المجتمعية المتنوعة، سواء تلك التي تنظر للمجتمع، على أنه عبارة عن الأفراد والآحاد، وفق رؤيتها الخاصة في "محورية الفرد"، أو التي تنظر اليه وفق الصفة الجمعية، وما بينهما من المدارس التي قد تتوسط الرؤيتين.

وتشمل هذه المباحث، الجوانب الوظيفية للمجموعات المجتمعية الأربعة، وهي "الفرد، والجماعة، والمجموع، والدولة"، بضمنها المهام الكمية والنوعية والإتجاهية، وكما سيكون الإتجاه الوظيفي المنطلق من الجماعات المؤسسية، بصيغتها الفردية والجمعية، والتي تشكل منظومة المجتمع المدني، وكذا مسؤولياتها ومهامها، النطاق البنائي الهيكلي للمجتمع المدني الإسلامي، حيث أن مخرجات هذا الإتجاه، هي المعبرة عن موضوعه وأهدافه.

يعتمد البحث المقارن، في الرؤى الفكرية الغربية والإسلامية، لمدركات المجتمع المدني، على المقاربة في المدارس المجتمعية وعنوان "المجتمع المدني"، أو تسمياته المفترضة والمثلى، كالمجتمع الإيماني أو الإسلامي، وفق الجوانب الكمية والكيفية والإتجاهية فيه، لبيان المسؤوليات الإتجاهية المجتمعية، لكل من الفرد والدولة والجماعة، تجاه بعضها في منظومة الفكر الإسلامي.

وينصرف الفكر المجتمعي الإسلامي، الى تبيان مسؤوليات الجماعة، تجاه الجماعات الأخرى، في المجالين المجتمعي والإقتصادي أو القطاع الخاص، باعتبارها تعبر عن ماهية المجتمع المدني، وبصفتها تمثل الوحدة البنائية لمؤسسات المجتمع المدني، وبضمنها مبنى الولاية المتبادلة في مهام المجتمع المدني، ومسؤوليات مؤسسات المجتمع المدني تجاه الدولة.

ويشمل الفكر المجتمعي الإسلامي، مسؤوليات المرأة والطفل المميز، والولاية المجتمعية لهما في الرؤيا الإسلامية، ثم في مهمة المجتمع المدني، في درء التداعيات الداخلية والخارجية، فضلا عن تبيان حكم العمل والعامل في الإسلام، وبيان العلاقات البينية لمؤسسات المجتمع المدني وضوابطها، وسبل معالجة المؤسسات الهدامة للمجتمع المدني.

وتنصرف مسؤوليات المجتمع المدني، الى مستقبل الأمة ومقدمات رؤاها تجاه الجميع أو المجموع، وتجاه مجموع الأمة والروح العامة لها، في إعتماد "الأصل" الإجتماعي بين الفرد أو المجتمع والمبنى اللغوي لهذه المفردة، وفي تبيان مسؤوليات الجماعة تجاه الأفراد، باعتبارها تشكل وحدة "مؤسسة المجتمع المدني"، في إعتبار الأصالة بين "الفرد" و"المجتمع" في التشريع الإسلامي، والأخطار المجتمعية في "الليبرالية" أو التحررية الحديثة، وما يعبر عنها "النيوليبرالية" والمؤسسات التخريبية.

ويعتمد الفكر المجتمعي الإسلامي، التوكيل والتفويض في "الولاية"، وبضمنه تكامل العناوين الإعتبارية، مقابل التزاحم فيها، حيث المسؤوليات الإتجاهية للمجموعات المجتمعية "للمجموع"، وفق محوري الكواشف عن روح الأمة وتجسيداتها، وبؤر التركيز فيها، وهو تعبير عن المخرجات الوظائفية ودالاتها في المجتمع المدني، وفق رؤى الفكر المجتمعي الإسلامي، والذي تضطلع فيه المرجعيات الدينية، بمسؤوليات مجتمعية كبرى، في النهوض بأدوار المجتمع المدني ومهامها، باتجاه تحقيق غاياتها وأهدافها.

اضف تعليق