q

(لو كان الفقر رجلا لقتلته) قالها امام المتقين علي ابن ابي طالب (ع) فكم هو الفقر قاسيا لدرجة جعل الرجل الذي هو رمز السلم والسلام في تاريخ البشرية جمعاء يتحامل على الفقر وبأقسى درجات العنف ، بينما قال ابو ذر الغفاري (اذا سافر الفقر الى مكان ما ، قال الكفر خذني مع (وقالت العرب قديما (لا تستشِر من ليس في بيته دقيق) ويريدون بذلك إلى أن من ليس في بيته ما يتقوت به عياله يكون مشغولاً بالتفكير في تدبير معيشتهم قبل كل شي وقد وصف غاندي الفقر بأنه أسوأ اشكال العنف وذهب كابرولي الى ابعد من ذلك حين قال (الفاقة هي أم الجريمة)، اذا الفقر هو المتهم والمسؤول الاول عن كل ما يكابده الفقراء، هو الذي سبب حرمانهم من فرص العيش الكريم وهو الذي يحرم اطفالهم من التعليم والدراسة وهو الذي يدفعهم للسكن في العشوائيات وهو الذي يمنعهم من متابعة اوضاعهم الصحية وهو سبب معظم التشوهات الاخلاقية . ويعرف الفقر باختصار بأنه عدم القدرة على تلبية الاحتياجات الاساسية للحياة وهي الغذاء والسكن والدواء مما يترتب عليه تدني كافة المستويات العلمية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية. وأنه من المؤسف والمؤلم جدا ونحن بلد نفطي نصنّف عالميا ضمن 25 بلدا من تلك التي ليس فيها اي ثروة، حيث انه يعتبر حالة مزمنة يعاني منها المجتمع نتيجة الحروب العبثية التي مر بها العراق وتسببت في ازمات خانقة زاد منها مرحلة ما بعد 2003 ودخول البلد في نفق مظلم ومعقد من المآسي والكوارث نتيجة الفساد والطائفية والارهاب، وله في بلدنا مشاهد كثيرة ودلالات لا تعد ولا تحصى لدرجة اصبح من المألوف جدا ان نشاهدها يوميا، نستعرض بعضا منها ربما تستنهض غيرة المعنيين بأمور البلد :

- حدث ذات مرة واثناء مروري في الاسواق (سوبر ماركت) الذي تعودت التسوق منه ناشدني صاحب الاسواق للتدخل والحديث مع مراقب البلدية الواقف على الرصيف بيده جهاز النداء السريع (لاسلكي) لمصادرة عدّة عمل وعربة بائع الحلوى (الداطلي) وهذا الاخير يتواجد ساعات المساء فقط وهي مصدر الرزق الوحيد لاعالة اكثر من 10 نفرات حيث انه بالاضافة الى والديه واخواته مسؤول عن معيشة عائلتي اخويه اللذان استشهدا في الحشد الشعبي ... موظف البلدية كان مصرا على رفع العربة وحجزها باعتبارها(تجاوز) على المال العام (الرصيف) ، الرجل كان يتحدث باسم القانون والواجب الوظيفي الذي يحتم عليه رفع التجاوزات والمخالفات في حدود صلاحياته وهو محق فيما قال لكن مايقوله الواقع اكثر مرارة ، نساء واطفال ورجل مسن حياتهم تتعلق بهذه العربة (التجاوز)، وبعد جهد جهيد وحديث طويل عن المروءة والنخوة والحشد الشعبي واكراما لأرواح الشهداء تمكنا من اقناعه ليغض النظر ويعفو هذه المرة فقط الى ان يتدبر صاحبها (المتجاوز) أمره لاستحصال الموافقات المطلوبة وهي سلسلة من المعاملات المطولة والرسوم التي تجبى من اصحاب المشاريع الصغيرة وليتها تقف عند حد معين.

- المواطنة د .ج تقول اكثر مشهد يؤلمني ويستفزّ انسانيتي هم صغار السن من باعة العلكة والمناديل الورقية والاشياء البسيطة المنتشرين في الشوارع والاسواق والساحات قرب الاشارات الضوئية ولذا تجدها سخية جدا جدا حين تصادفهم واخر موقف لها حسبما تروي منذ ايام صادفهم هي وزوجها طفل ربما لا يتجاوز التاسعة من عمره حافي القدمين ومظهر رث جدا يبيع العلكة فأعطوه المعلوم لكنه ذكي جدا حين لاحظ التعاطف السخي فأخبرهم بأنه يحلم بشراء (نعال) فكان له ما أراد وماذا يعني كم الف من الدنانير امام فرحة طفل محروم .. تقول المحسنة الشابة د .ج في نفس الشارع وعلى بعد خطوات قابلنا طفلا اخرا يبيع العلكة ايضا كان حافيا ويتوسل بالمارة أنه يحتاج (نعال)! تبادلنا النظرات أنا وزوجي للحظة ما هذا التشابه بالحالات !! (الحديث لازال للمحسنة د.ج) واثناء دخولنا الى محل بيع الملابس سمعنا صاحب المحل يسأل أحدهم (ماهو المبلغ الذي حصلت عليه لحد الآن فكان الجواب 35 الف) فهزّ صاحب المحل يده وهو يقول احسن مني من الصبح لليل لاأحصل على هذا الربح صافي .. نظرنا واذا به نفس الطفل الذي أوشكت أن أبكي على حالته قبل دقائق !!!

- بائعة الملابس المستعملة (ام علاء) تقريبا هي المعيل الوحيد لبناتها وأبناء ضرتها وزوجها المصاب بمرض في القلب واكتئاب ، ترافقها ابنتها الوسطى (7 اعوام) في جولة يومية منذ الصباح الباكر الى السوق الشعبي الاقرب الى محل سكنها (تجاوز) .. سألتها كيف تؤمّن بضاعتها المتواضعة وكم يكلفها ذلك اجابتني بكل بساطة : انا لااملك المال ولا اشتري شيئا اطلاقا .. القطع التي ابيعها هي مايترحم ويجود به الطيبون ممن يعرف حالتنا واكثر الأحيان اصطحب ابنتي وأذهب الى احياء الاغنياء اطرق الابواب أشكو للناس وضعنا فيجمعون لنا بقايا الاطعمة والاشياء والملابس الزائدة عن الحاجة . . أما زبائن (ام علاء) فهم البؤساء امثالها خاصة وان اسعارها مناسبة جدا (حاجة بربع) واغلى قطعة تبيعها بألف دينار ... حدثتني هذه المكافحة العراقية عن همومها وأحلامها ومعاناتها وكيف تتعذب حين ترى البنات يذهبون الى المدارس وهي تقود ابنتها لطرق الابواب والسؤال .. اختتمت ام علاء حديثها بالجملة القدرية المألوفة : الحمد لله على كل شيء هذا هو نصيبنا ولا احد ياخذ اكثر من نصيبه .

- (إسلام) اضطر لترك دراسته في المرحلة المتوسطة بعد رسوب لعامين متاليين وهو يعيش وضع نفسي غير سليم قد يبرره حديث والدته اذ تشرح الظروف التي مرت بها الاسرة قائلة : توفي والدنا قبل ست سنوات وبقينا بلا معيل ولا بيت ولا أي مورد حيث كان يعمل سائق اجرة في سيارة احد معارفه ، منذ ستة اعوام ونحن نعاني الهوان في العيش .. ثلاث بنات تركوا المدارس بسبب ضيق الاليد والمدارس تحتاج صرف وملابس وملازم وتغذية ونحن لا نملك كل ذلك .. اما اسلام الابن الوحيد والاصغر بين اخواته كنت مصرة على ان يكمل دراسته الاعدادية على الاقل كي يمكنه ايجاد عمل ومساعدتي في اعالة اخواته ، لكن يبدو ان ابني اخذ يعاني وهو يرى زملاءه يعيشون بمستوى أحسن منه بينما هو تنقصه اشياء كثيرة واخذ مستواه الدراسي بالهبوط وانعكس ذلك علينا فاصبحنا نتعامل معه بقساوة مما زاد في تمرده وتصرفاته العنيفة. كانت ام اسلام تبكي وهي تشرح حال ابنها والضياع الذي يعيشه وقد حاول التغلب على ظروفه وتحمل المسؤولية وهو حاليا عامل في فندق ويزور اهله تقريبا مرة كل اسبوع ، تقول ام اسلام: ابني قليل الكلام واشعر داخله بركان ينفجر في أي لحظة لأنه يعاني من تعامل صاحب العمل القاسي وغير اللائق معه.

صوت المعدة أقوى من صوت الضمير

من كل ما تقدم نخلص الى ان للفقر تأثيرات سلبية خطيرة على المجتمع اهمها وعلى رأسها التعليم والعلم حيث نجد المواطن الفقير لا ينظر إلى الأمور من منظورها السليم ، بل يركز جُلَّ اهتمامه لسد احتياجاته الأساسية من مأكل ومشرب وملبس ودواء، معتبرا التعليم أمرًا ثانويًّا ليس من ضرورات الحياة ؛ وبناءا على هذه الفكرة نجد الفقراء غير حريصين على أن يلتحق أبناؤهم بالمدارس من أجل التعلُّم، وإنما يرون أنه من الأفضل أن يتفرغ الابناء للعمل والسعي لكسب العيش . هذا الترابط القوي بين العوز والحرمان وانعدام الوعي والجهل يكوّن شبكة متداخلة من العوامل الكفيلة بتدمير المجتمع بالكامل كالانحرافات في سلوك واخلاق الافراد وتشوهات في المستوى القيمي واستسهال ممارسات الفساد للحصول على لقمة العيش وتدهور العلاقات الاجتماعية بل انعدام البيئة الاجتماعية السليمة. باختصار نقول ان الفقر يشكل ارضية خصبة لتفكك الاسرة وتنمية الجريمة وانهيار القاعدة الاخلاقية وتشكيل قوى الارهاب ما يثير القلق والمخاوف على المجتمع ككل، وإلا ماذا ننتظر ممن يعيش في فقر مدقع وهو يسمع عن ارقام موازنات انفجارية ؟؟ كيف يفكر من لا يملك سعر الدواء بينما يرى البعض يعيش حياة البذخ والاسراف ؟؟ ماهي ردة فعل من لا يملك المأوى ويعاني في تحصيل قوت يومه بينما يملك اخرون المساكن الفارهة واحدث السيارات؟؟ ماذا نتوقع ممن حرم من حقه في التعليم من أجل تأمين معيشة اسرته ؟؟؟ ان قساوة الحرمان والفاقة والجوع والاستلاب والهوان مع الجهل وضيق المعرفة كلها مجتمعة كفيلة باضعاف الوازع الانساني وما يسمى (الضمير) وتحويل الفرد الى جاهل بائس محطم قدري مستسلم لمقولات غير منطقية أو انتقامي حاقد على المجتمع وقد لايتورع عن القيام بأي فعل خارج اطار انسانيته وكرامته المهدورة . وحسب دراسات أجرتها لجان مستقلة وأخرى برلمانية يتبين أن نسبة الفقر في العراق وصلت إلى 38% في عموم مدن البلاد، لافتة إلى أن سكان الريف يحتلون النسبة الأكبر، حيث يعيشون على أقل من دولارين في اليوم الواحد في أكبر نسبة يشهدها العراق منذ عقود في حين أعلنت بعثة الأمم المتحدة في العراق "يونامي"، أن أكثر من ستة ملايين عراقي لازالوا يعيشون تحت خط الفقر . وتزداد هذه الارقام خطورة اذا ماعرفنا بأن في العراق لاتوجد احصائيات رسمية دقيقة يمكن الاعتماد عليها في وضع دراسة شاملة للتخفيف من هذه الظاهرة المدمرة للبلد .

ان معالجة الفقر تأتي من خلال تداخل العوامل الداخلية مع الخارجية والاقتصادية مع الاجتماعية والسياسية وهي ليست بالحالة المستعصية كما أنه لايمكن القضاء عليها في عشية وضحاها ، فعلى مدى السنوات الاخيرة نسمع عن خطط وبرامج واتفاقات ومنح دولية وميزانيات ترليونية تستهدف الفقراء والمستضعفين ولكن لانلمس على ارض الواقع سوى التراجع والنكوص وارتفاع نسبة الفقراء والمحرومين ،ومن المؤسف القول بأن الجهات المعنية تقف عاجزة عن تقديم المساعدات للفقراء بسبب افتقادها للخطوات والحلول الصحيحة واستشراء الفساد ، ونود التذكير ان نفعت الذكرى بأن الحكومة سبق وان اخفقت في مشروع توفير القروض للفقراء حيث تبين أن أكثر من 50% من المستفيدين من هذا البرنامج غير فقراء .

وحفاظا على مجتمعنا من الانهيار وبالتزامن مع المساعي المبذولة لمواجهة التحديات الأمنية يجب التركيز على أهمية العمل للقضاء على الفقر من خلال عرض بعض المعالجات والتي تحتاج الى تكاتف جميع المؤسسات المعنية بالعراق كبلد وبالعراقي كانسان وأهمها :

- وضع فلسفة اقتصادية معتمدة من قبل ابناء وعلماء القتصاد العراقيين والمختصين فالعراق ثري بالعقول الاقتصادية الوطنية واجراء مسوحات دقيقة لمعرفة الاعداد الحقيقية للفئات المستضعفة والفقيرة

- الحد من المنح والقروض الخارجية بل وايقافها كونها تشجع على اللصوصية والفساد وسرقة جيوب الفقراء

- وضع برامج تنمية مستدامة تهدف الى خلق مجتمع اكثر شمولية والالتزام السياسي والحكومي بأن التنمية البشرية هي وحدها القادرة على أن تحدث النمو الاقتصادي في البلد

- اعتماد مبدأ تجريم الفساد واعتبار مجرد التسامح مع المفسدين هو دعوة الى الفساد وهو خيانة عظمى ، لأن الفساد بأشكاله ومستوياته اغرق مؤسسات الدولة وأدى إلى ترسيخ وإدامة الفقر والظلم والبؤس.

- تقييد مبدأ نظام المحاصصة لأنه السبب الاعظم في سيادة الفساد حتى قمة الهرم الاداري

- بما ان الفقر مرتبط بالجهل والتخلف إذن يجب تفعيل مبدأ التعليم الالزامي للمراحل فوق الابتدائية .. إن التعليم في العراق يحتاج الى ثورة كبيرة, لقيام نظام مختلف مبني على أسس صحيحة, ومناهج رصينة, لتكون المدارس والجامعات في متناول جميع فئات المجتمع وبذلك تكون مكانا لصنع أجيال قادرة على بناء الوطن وليس اجيالا متخلفة يصعب عليها توفير معيشتها .

-الاهتمام وتشجيع الصناعة والزراعة العراقية لأن انهيار الصناعة العراقية المتواضعة واغراق البلد بالمنتج الزراعي الاجنبي ساهم بشكل مباشر في اتساع شريحة العاطلين عن العمل وانضمامهم الى طبقة الفقراء

- (لا تعطيني سمكة بل علمني كيف أصطاد) وهذا ما يجب أن نحاوله مع الفقراءالقادرين على العمل لأن تقديم العون لهم لايقتصر على المساعدات المالية وانما الأهم من ذلك إعادة تأهيل عقولهم وتفكيرهم وتوجيههم للقيام بالأعمال الشريفة وتحصيل قوتهم بعرق جبينهم لحماية ماء الوجه من خلال ترسيخ فكرة رفض الاتكال والاعتماد على الحلول الميسرة وعدم قبول الحسنات والصدقات التي تشعرهم بالدونية والنبذ المجتمعي .

لـنـا كلـمـة

اننا اليوم بحاجة الى معالجة مشكلة الفقر وتحقيق نسبة من العدالة الاجتماعية وانتشال المعوزين من واقعهم المزري خاصة ونحن نعيش في ظل نظام وبلد يدين بالإسلام الدين الحنيف الذي اهتم بمشكلة الفقراء ووضع اسس تحقيق العدالة الاجتماعية التي تنظم التكافل الاجتماعي لجميع الأفراد وتعمل على محاربة الاستغلال والاحتكار واحترام الإنسان، فقد اقرت الشريعة الإسلامية إن من حق ولي الأمر أن يأخذ من أموال الأغنياء ويردها على الفقراء حتى لا يصبح المال حكرا على الأغنياء دون غيرهم. وتعتبر الزكاة هي إحدى الطرق التي سلكها الإسلام لمكافحة الفقر والقضاء على البطالة وتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية وتدعيم التضامن والتكافل الاجتماعي ومنع تكدس الثروة في أيدي القلة والتسبب في ضرر اغلبية المجتمع.

اخيرا نقول إن من الصعوبة الاحاطة بكل جوانب وأسباب ونتائج وسبل معالجة الفقر ولكن نتمنى في هذا الملف أن نكون قد وفقنا بعض الشيء في رسم الصورة الكارثية التي تهدد المجتمع العراقي بنسف تاريخه وقيمه التي طالما كانت مفخرة الأجيال.

إنها دعوة لكل الغيارى من المعنيين بأمر العراق والعراقيين نطلقها من هذا المنبر ( شبكة النبأ المعلوماتية) لتحجيم الشريحة الآخذة بالاتساع قبل أن تكتسح المجتمع بآفات اخلاقية وأمنية لا تبق ولا تذر، إن خطر الفقر ينعكس سلبا على جميع مجريات الحياة ويؤدي الى ارتفاع نسبة الجريمة والانفلات وعدم احترام القانون والويل ثم الويل لبلد لا يسود فيه القانون.

اضف تعليق


التعليقات

محمد علي
العراق
اعتقد من المهم وضع حد نهائي بين الفقر والتسول لمعالجة المشكلة من زاويتها الاجتماعية، فهل كل متسول هو فقير؟ الاجابة في نفس المقال. وحتى نقدم حلولاً لاقتصادنا المتداعي، بحن بحاجة الى برامج وخطط وادارة للتنفيذ الصحيح، فهنالك دول متقدمة وفيها شريحة لابأس بها من الفقراء على قارعة الطريق. نعم؛ يمكن تصور أدوار كبيرة للفقراء في التنميةوالتطور. وشكراً2016-02-21