q

لأننا اليوم إزاء مشهد اتصالي هائل، يكاد يكون المهيمن على اهتماماتنا الحياتية، بل ويساهم بشكل مخيف في صنع الرأي العام تجاه مختلف القضايا والأحداث، فإننا نلحظ تراجع القيم التي يمكن من خلالها تكوين الرأي، أو بلورة الأفكار، مع تقدم سريع للقيم المُنتجة افتراضياً، الأمر الذي سيترك حتماً آثاره على الثقافة والفكر، منشئاً أنماطاً جديدة بسياقات تستسهل الولوج إلى العلوم الإنسانية المختلفة، وبالتالي - ومع حالة اختلاط المفاهيم المتعلقة بتقييم المنجز - سنكون أمام حالة ضياع المقاييس التي بذرها الإفتراض الإلكتروني، وصارت أشجاراً واقعية، جميلة الشكل من الخارج، منقطعة الجذور، وبلاثمر فكري أو معرفي.

الميديا اليوم هي الشكل الأبرز والقريب للفرادة في قضية صناعة الرأي العام؛ لكونها أيقونة الممكن التواصلي الأسرع، فخلقت حالة من الانبهار لدى الملايين المتعاطين مع وسائلها أثمرت عن تأثير يذكر بالانبهار الذي أحدثته ولإذاعات والتليفزيونات ودور السينما على سلوك الأفراد في فترات سابقة.وتبدو قضية تشخيص الوظيفة الحقيقية لوسائل الميديا هي المهيمنة على أفكار المختصين بهذا المجال، وهل أنَّ حرية التعبير التي أتاحتها الوسائل الميديوية أنتجت شيئاً ذا فائدة، أم انها اقتصرت على أشكال بسيطة من التعبير عن الذات؟

والدارس لهذه القضية سيجد نفسه إزاء مأزق كبير، فلو قال أنها سرَّعت من فوضى الانتشار العشوائي؛ سيواجه منطقاً يقول له: أليست الثورات التغييرية في عالمنا العربي نتاج هذه الوسائل الاتصالية، بل انها شرارة انطلاقها؟ ومع ذلك فهو حين يبحث في النتائج التي ترتبت على هذه (الثورات) قد يخلص إلى أن العملية برمتها مجرد تدوير ممنهج لإشكاليات يراد لها أن تبقى ثابتة، لكن مع اختلاف الطرائق والوسائل التعبيرية.

إنَّ حالةً من الوضوح المُشوَّش تقدمها الميديا على الصعيد الاجتماعي، فإذا كانت سبباً في نزول الشعب المصري إلى الشارع للاحتجاج مرتين وإزاحة رئيسين عن السلطة، فإنها في مكان آخر ساهمت في تثبيت الرئيس التركي الذي تم الانقلاب عليه من قبل ضباط جيشه، فظهر على إحدى الوسائل الاتصالية (سكايب) ، واستطاع إقناع الجماهير ببضع دقائق تحدث فيها. إذن الوعي بالمشاكل السياسية والاقتصادية هو الأساس، وليس الميديا كما يتوهم البعض في أنها أزاحت رئيساً أو ثبتت آخر، إذا ماأخذنا بنظر الاعتبار طبعاً الأجندات التي تقف وراء هذه الوسائل، وآليات صنع تأثيرها على الأفراد، ومن ثم صناعة رأي عام ينسجم وتطلعات أصحابها.

الواقع يقول إننا ــ في ظل اضطراب الميديا ــ إزاء حالة من الاهتزاز السلوكي الذي يستلزم جهداً نقدياً يعيد النظر لواقع الميديا وهي تتعمد تهشيم الثقافات، وإشاعة حالة من (الكره الحضاري) بين مستخدمي وسائل التواصل، أو أولئك الذين أدمنوا شبهات فكرية وثقافية تنتعش في بعض البرامج التي تقدم عبر هذه الوسائل، أغلبها تدور حول محور ذوبان الهويات في هوية واحدة حتى وإن تعددت قيمها وتشظت في عوالم ضياع المعنى، وصراع الحضارات أوتصادمها، وصولاً للصورة الأمثل من العدمية التي تم التنظير والتأسيس لها منذ نهايات القرن التاسع عشر حيث هيمنت عبارة "الحط من القيم العليا" التي أطلقها (نيتشة) معبداً الطريق لآخرين من أمثال ميشال فوكو، وهايدغر في التنظير لها كلٌّ بطريقته الخاصة.

السؤال هنا: من هو الخاسر؟ والجواب طبعاً هو العالم الإنساني الذي يُشغل دائماً ببرمجة رهيبة تحاول أن تمسخ دوره المحوري في الوجود، وثمة أسئلة ستجد لها متسعاً لتتداخل مع السؤال السابق: إلى متى سيستمر هذا الصخب (الانفتاحي) الذي يريد إلغاء دور العقل؟

والمرحلة الحالية تشهد حالة من الضبابية في قضية الثبات على القيم التي تبدو وكأنها تتلاشى أمام السطوة الوحشية للعولمة ، والتحولات الكبيرة التي تكاد تعصف بمجتمعاتنا نتيجة التأثر السلبي بثنائية العولمة/التكنلوجيا؛ من أجل إنشاء عالم متناغم عبر مفاهيم التوافقية و(المواطنة الكونية). إن قضية العالم المتناغم ليست مؤرقة في حال تمت العناية بقضية التنوع الثقافي ومستقبل هذا التنوع، وذلك لن يتم مالم يتم الانتباه لصياغة مشروع يمثل مثلثاً اجتماعياً وثقافياً وأخلاقياً، وكل ضلع من أضلاع هذا المثلث له وظائفه التي يقوم بها للوصول لحالة تكاملية تجعل العالم أكثر تفاؤلاً في نظرته لمستقبل التنوع الثقافي من دون مخاوف التناغم المضطرب القائم على إلغاء الفوارق والخصوصيات بين بني البشر.

تبدو الميديا بشكلها الحالي امتداداً لقضية التنمية بمنطق مادي لم يعر انتباهاً لمسلمات أخلاقية وتربوية وروحية، فنشأت لنا قطيعة كبيرة بين القديم والمعاصر، وهذان ــ القديم والمعاصر ــ قطبان أساسيان في حياتنا، وأمام هذه الحالة المقلقة؛ ينبغي الالتفات لمسألة نمو الفكر لدى المجتمعات، واستنفار كل الممكنات ــ الميديا ووسائل التواصل في مقدمتها ــ من أجل تحقيق هذه الغاية. ولايمكن للفكر أن ينمو من دون التركيز على مفاهيم التعايش والسلام والرفاهية واحترام التنوع، وعدم فرض الرؤى الأحادية على الآخرين، تقول (عزيزة بنّاني)1 : " القبول بالتنوع، وإدراجه في مسار عالمي دون الوقوع في النسبية، يشكل دون شك الطريق الأفضل،.......إن المحطات الكبرى في التاريخ كانت دائماً تلك التي أعلت من شأن الإنسان. واهتمامنا الأبرز في وقتنا الحاضر يجب أن ينصبَّ لإعطاء معنى لانتمائنا المشترك للإنسانية ــ مع احترام الفوارق ــ، في إطار إنسيٍّ متجدد".

اضف تعليق