q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

مقومات النهوض ومواكبة العصر الراهن

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

هل يمكن أن ننظر الى المسلمين في العصر الحالي على أنهم أمة متطورة تعيش الاستقرار والتقدم؟، هذا السؤال المباشر والمختصر الهدف منه تسليط الضوء على واقع المسلمين، والكشف عن طريقة عيشهم قياسا الى الأمم الأخرى التي كانت أدنى مستوى منهم، إن الملاحظ على واقع المسلمين في الدول الاسلامية، أنهم لم يتصدروا دول العالم في التقدم السياسي او الاقتصادي أو الثقافي، وهذا يعني أنهم تخلوا عن موقع الصدارة ليس بإرادتم، وإنما سعت الأمم الأخرى وتجاوزتهم لأسباب معروفة.

ولكن هل يعني هذا الواقع أننا نستسلم ونتراجع ونتخلى عن الخطط والمساعي التي تدفع بنا الى الأمام كي نواكب العصر ونجاري ما يستجد في من آفاق مذهلة ومتتالية للتطور؟، في الحقيقة تثبت الوقائع أن المسلمين بذلوا الكثير عبر التاريخ، وأسهموا في تطور البشرية وهذا أمر لا يحتاج الى إثبات، لذلك ينبغي التركيز في العصر الراهن على إحياء مقومات النهوض مرة أخرى، خاصة أننا نمتلك القدرات والمقومات لتحقيق هذا الهدف.

ولعل من أهم الخطوات في هذا الاتجاه الاعتماد على ثقافة مستقلة رصينة، تقود الى تحقيق الاستقلال في مجالات الحياة الأخرى، وعندما يتحقق الاستقلال الثقافي وهو من المقومات الاساسية للتطور فإن الاستقلال في المجالات الاخرى سوف يتحقق بالتتابع والاستمرارية.

يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيم الموسوم بـ (ثقافة التحرير) في هذا المجال: إن (الاستقلال الثقافي، هو مقدمة للاستقلال السياسي والعسكري والاقتصادي والاجتماعي وغيرها).

وقد سعى المسلمون في نهوض جديد من حالة السبات التي ألمّت بهم، فاستيقظوا من أجل اللحاق بالركب العالمي المتقدم الذي يقوده الغرب، فالأمر الواقع يشير الى أننا نعيش حالة متأخرة من حيث العلم قياسا الى الدول الغربية، وقد وعى المعنيون من المسلمين هذا الواقع، وكان من المهم جدا أن يستيقظوا من جديد لتثوير مقومات النهوض وتحقيق الهدف الأهم متمثلا في مواكبة ما يحدث على الصعيد العالمي في العصر الذي نعيشه الآن.

يقول الامام الشيرازي حول هذا الجانب: (إن المسلمين بعد طولِ نيامٍ دام ما لا يقل عن قرنين حيث رأوا بأمّ أعينهم تقدّم الغرب المادي كان منطقهم العملي (ناموا ولا تستيقظوا) و(ما فاز إلاّ النُوَّم) وعدم وضع الخطوات الجادة لأجل أن يكونوا في مصاف الغرب).

ثمرة جهود العلماء السابقين

إن التأسيس لمقومات نهوض المسلمين لم يكن وليد العصر الراهن، بل هناك مساعي كبيرة بذلها العلماء السابقون لكي يضعوا اللبنات الأساسية لتقدم المسلمين وتثبيت مكانتهم العظيمة بين البشرية أجمع، والتاريخ يثبت ذلك، فلا يستطيع أحد أن ينكر ذلك على المسلمين، وبعد سبات وتوقف عن النمو ظهرت بوادر جديدة للنهوض، وتحرك العلماء وباشروا باستنهاض الأمة وبناء المقومات اللازمة لتحقيق التقدم من جديد.

ولعل المرض الأخطر الذي كان يجرّ المسلمين الى الوراء ويحصرهم في خانة التخلف، هو القمع السياسي والتسلط وانتشار منهج الطغيان، وضعف أو غياب منهج الشورى، لذلك وعى المعنيون هذه العقبة وباشروا بالنهوض لدحر القمع والاستبداد، كونه يشكل السبب الأول لتراجع المسلمين بعد أن تركوا الأسس التي أقام عليها الأوائل دولتهم وحققوا مكانتهم الأولى في قيادة العالم ونقله الى الثورة التنويرية التي غيّرت وجه العالم آنذاك، لذا هناك وعي إسلامي جديد.

كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي في قوله: (ظهرت بوادر الوعي شيئاً فشيئاً في المسلمين، وذلك منذ قرن بالرجوع إلى الاستقلال عن الخارج، والشورى ونبذ الاستبداد في الداخل).

إن هذا الحراك نحو تثبيت مقومات التقدم، يتضح من خلال المحاولات الجادة للعودة الى لعب الدور المتميز للمسلمين على الصعيد العالمي، خاصة أن العلماء القدماء بذلوا ما في وسعهم لوضع الأسس السليمة لبناء مجتمع متماسك ودولة قوية، وقيم قادرة على أن تحفظ حالة التوازن السياسي والاجتماعي، وهي امور بدأت بوادرها بالظهور، كونها موجودة أساسا وليست وليدة اليوم، بل هي ثمرة لجهود مضنية بذلها المسلمون الأوائل كي تتشكل مكانة ودور المسلمين على الصعيد الذاتي والعالمي في الوقت نفسه.

لذا علينا أن نحيي مقومات النهوض، وندعم الأسس القوية لها، ونسعى في طريق تثبيتها، والسعي الدؤوب كي يتحقق النجاح الناجز في استكمال مقومات النهوض مجددا، إذ لا ينبغي أن نترك فرصة النهوض تمر من أمام أبصارنا ومن بين أيادينا من دون أن نتحرك لتحقيق القفزة المطلوبة لمواكبة العصر في المجالات كافة.

يقول الامام الشيرازي حول هذا الجانب: إن (الوعي الإسلامي الموجود في كل بلاد الإسلام الآن، ما هو إلا ثمرة لتلك الجهود منذ قرن، لذا ينبغي أن يجعل لها أسس وأُطُر، إذا أريد لها النجاح العميق الكامل بإذنه سبحانه، وإلاّ فهذا الوعي في يتجه إلى الأسوأ).

حاجة المسلمين الى المظلة الفكرية

لذا نحن بحاجة الى المظلة الفكرية التي يمكنها أن تحمينا من الخلل وتمنع أسباب الانحراف والزلل الذي قد يقع فيه المسلمون مرة اخرى، علما أن هذه المظلة الفكرية ينبغي أن تكون واسعة ومنفتحة وواثقة وحيوية وقادرة او قابلة لاحتضان الجميع حتى غير المسلمين، فالهدف الأساس من هذه المظلة الفكرية، تفعيل مقومات ومرتكزات النهوض للمسلمين ولعب الدور الذي يليق بهم على المستوى العالمي، تأسيسا على دورهم الفاعل عبر التاريخ.

لذلك لا ينبغي أن يكون هناك ضعف أو ضمور للمظلة الفكرية التي نتحدث عنها ونطمح بها، ولكي تكون فاعلة، ينبغي أن تسمح للمسلم وغيره بالعيش في ربوعها، كي تبتعد عن الانكماش والتردد والضمور، وكي تكون ذات أبعاد فاعلة وقادرة على مواكبة العصر ومتطلباته التي تقف في المقدمة منها استيعاب الفكر للجميع، وعدم التطرف أو التعصب، والتحلي بإنسانية الأفكار وعدم حصرها في فئة محددة حتى يعيش الجميع تحت هذه المظلة بأمن وسلام ورفاه.

كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي في قوله: (المسلمون بحاجة الى مظلة فكرية تربي أفرادها في كافة المجالات على أن تكون مظلة للكل، بحيث يعيش المسلم وغير المسلم تحت تلك المظلة بكل أمن ورفاه وسلام).

ولكن تبقى لدينا مهمة أصعب وأهم، إذ يبقى السؤال قائما، كيف تتم صناعة مثل هذه المظلة وفق المواصفات الفكرية المطلوبة، ومن هي الجهات التي تقوم بتأسيسها وتطويرها وتثبيت فاعليتها؟، لا شك أن الخبراء والعلماء في المجالين الروحي والمادي ينبغي أن يكون لهما قصب السبق في المبادرة والسعي الحثيث لصناعة هذه المظلة الفكرية.

على أن لا ينحصر هذا الفكر في مسار واحد ولا في مجال محدد، فالحياة تنطوي على مجالات واسعة، وينبغي أن تكون المظلة الفكرية قادرة على استيعاب تلك المجالات، لأننا في واقع الحال بحاجة الى صنع وتطوير وتحريك مقومات النهوض في المجالات كافة السياسية والاقتصادية والثقافية وسواها، تحقيقا للتقدم المنشود الذي ينبغي أن نسعى إليه من دون توقّف أو تردد.

يقول الامام الشيرازي في هذا المجال بكتابه (ثقافة التحرير): (أما صنع مثل هذه المظلة فكرياً، وإخراجها إلى عالم الوجود عملياً، فهي بحاجة إلى جمع كبير من الخبراء الدينيين والزمنيين ومزاولة ومدارسة في الأفكار والأعمال على طول الخط، حتى تتكون القدرات المطلوبة في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة وما إلى ذلك).

اضف تعليق