q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

تلوّث بيئي يطوّق الأرض بالاحتباس الحراري

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

التلوّث هو فساد الشيء، مادي أو معنوي، قد يحصل بفعل طبيعي وهذا نادر الحدوث ونتائجه السيئة في الغالب قليلة أو معدومة، وقد يكون بفعل فاعل وهو الإنسان، وهذا هو الذي يغلب على أنواع التلوث، أي هناك إفساد وليس فساد، بمعنى يحدث التلوث بفعل فاعل بشري، عقل غير حكيم ويد تنفذ أوامر ما يخطط له ويريده هذا العقل الجاهل بتوازنات البيئة، فإذا فسدتْ البيئة قد تكون الطبيعة وراء ذلك، ولكن إذا أُفسدتْ فإن الإنسان هنا هو السبب.

وعلى العموم التلوث هو نتيجة عبثية سببها الإفساد غالبا، حيث تتحول العناصر الجيدة في البيئة الى رديئة أو ضارة.

هنا يضعنا الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، إزاء حقيقة التلوث، كما يرد عنه في كتابه القيم، الموسوم بـ (الفقه: البيئة)، فنقرأ حول ذلك: (فـي الاصطلاح الحديث يقال التلوث بمعنى إفساد مكونات البيئة من تحوّل العناصر المفيدة إلـى عناصر ضارة سواء كان في الهواء أو في الماء أو في الشجر أو في الحيوان).

ويفصّل الإمام أكثر في هذا الحيّز، فيشرح بدقة ماذا يعني التلوث، وما هي أنواعه، وما موقعه من حيث الفائدة أو نقيضها، ويرى سماحته أن التلوث ربما يكون مادياً أو معنوياً ويفصّل في ذلك بوضوح ودقة، مع عرض الأمثلة الداعمة والساندة لما يذهب إليه الإمام الشيرازي فيقول:

(إن التلوّث قد يكون مادياً وقد يكون معنوياً، فالتلوث المادي عبارة عن التلوث بأي شيء غريب عـن مكونات المادة الطبيعية سواء كان شيئين حسنين أو غير حسنين أو أحدهما حسن والآخر غير حسن. يُقال: لوّث الماء بالطين أي: كدّره، والتاث بالدم بمعنى تلطّخ به. أما التلوث المعنوي كما يقال: تلوث بفلان رجا منفعته أي: لاث به. وفلان به لوثة أي: جنون، وتلوّث في الدم، أي: انه قاتل).

وهكذا سنفهم من دون التباس أو غموض أننا محاطون بخطر إفساد البيئة، حيث يتسبب العقل البشري بهذا النوع من الإفساد بسبب جهله، وأنانيته، وجشعه، لأنه يفكر بما يريد فقط، أما نتائج ذلك فهي ليست مهمة بالنسبة له، على الرغم من أنها تهدد حياته الآنية وأجياله اللاحقة التي لا يفكر بها وبحياتها وبالمخاطر البيئية التي ستحيط بها، فالمهم لديه أن يتحقق ما يريده الآن، ويحصل على منفعته الآنية، وكأنه يؤمن بذلك القول الشعري المثير للسخط والاشمئزاز عندما يقول الشاعر: إذا متُّ ظمآنا فلا نزلَ القطْرُ. وقد لا نبالغ إذا قلنا أن الاحتباس الحراري الذي تسبب به الإنسان سوف يجعل الأرض في يوما ما خالية من الماء من خلال الارتفاع الصارخ لدرجات الحرارة، وقد ظهرت بوادر هذا الارتفاع المخيف للحرارة الآن كدليل ملموس على عبث الإنسان بالبيئة.

الإنسان يتدخل في قوانين البيئة

ما يحدث في العالم أجمع، على كوكب الأرض، يؤكد بما لا يقبل الشك، أن يد البشر عبثت كثيرا في عناصر البيئة ومكوناتها، وهناك من يقول أن الإنسان له يد طويلة في ذلك، كذلك يشير النص القرآني الى هذا الفساد والعبث، علماً أن الحرص على البيئة، وبراءة الطبيعة، والحفاظ على قوانينها ينبغي أن يكون قيمة إنسانية لا يجوز التنصّل منها.

ورد في كتاب الفقه البيئة للإمام الشيرازي: ان (التلوّث بهذا المعنى هو صورة من صور الفساد والإفساد حيث ورد في الذكر الحكيم: ظهـر الفساد فـي البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا/ سورة الروم).

ولم يؤثر الإنسان على نفسه فحسب، عندما يتدخل بإصرار في العبث بمكونات وعناصر البيئة، إنما يتسبب بأضرار قاتلة للكائنات الأخرى التي تتقاسم الأرض معه، ولكن الإنسان لا يخطر في باله انه يؤذي الحيوانات والنباتات والحشرات، وربما لا يفكر أن هناك من يعيش معه فوق سطح المعمورة، وكأن هذا الكوكب ملْكه الخاص، فيسرح ويمرح به متى وكيفما يشاء، بغض النظر عمَا يتسبب به من أذى للكائنات الأخرى، فمن لا يفكّر بنسلهِ وأجياله اللاحقة لا نظن أنه قادر على التفكير بمصلحة الحيوان والنبات والكائنات الأخرى.

يقول الإمام الشيرازي في هذا الجانب: (ومن التلوث: تدخُّل الإنسان في قوانين البيئة التي سنها الخالق عزّ وجل، وإخلاله بتوازن عناصرهـا ومكوناتهـا بحيث تكون حينئذ ضارة للإنسان أو الحيوان أو النبات أو ما أشبه ذلك).

ويورد سماحته مثالا من التاريخ القريب، يستمده من النتائج الكبرى التي لحقت بالبيئة بسبب الثورة الصناعية التي قامت على أسس علمانية بحتة، وأهملت المقومات الأخرى للبيئة، فتم تدمير مقومات الحياة من خلال الأضرار الأساسية التي تم إلحاقها بعناصر البيئة كالهواء والماء والغذاء والتربة وما إلى ذلك، وهذه عناصر تقوم عليها استمرارية الحياة البشرية وسواها.

لكن الإمام الشيرازي يقول في كتابه المذكور آنفا: (لقد كانت للثورة الصناعية التي قامت على أساس علماني آثار مدمّرة على البيئة، حيث دمرّت مقوَّمات الحياة في الهواء والماء والتربة والغذاء)، وهذا ما أدى إلى ارتفاع غير مسبوق بدرجات الحرارة بفعل الاحتباس الحراري.

تلوث البيئة مشكلة عالمية

سبق أن قلنا أن البشرية كلها مسؤولة عن هذا التلوث، ولكن يبقى قصب السبق للدول الصناعية التي أصر صناع القرار فيها على إرسال الغازات السامة باتجاه الفضاء، فأحدث ما يسمى (بثقب الأوزون)، ما يعني إمكانية تسلل الأشعة فوق البنفسجية نحو كائنات الأرض، فتلحق بها الموت الزؤام، وهذا ما فعلته يد الإنسان وعقله.

ولم تعد هذه المشكلة خاصة بالدول الصناعية، ولا تلك التي تصر على تلويث الهواء والسماء وتربة الأرض في وقت واحد، إنها في الحقيقة باتت مشكلة عالمية، بعد أن بدأت إقليمية في عدد من الدول، ولكنها اليوم بلغت درجة من الاستفحال واضحة ومؤثرة وقاتلة أيضا.

وعلى الجميع أن يتحمل مسؤوليته، وخصوصا الحكومات والمؤسسات المالية الكبرى التي تتحكم بمصير البشرية كلها، فمطلوب أن يُسهم الجميع بمعالجة ما جنتْ يد البشر من تخريب لمكونات الطبيعة والبيئة السليمة، لأن الحضارة نفسها باتت مهددة بالانهيار والدمار، فضلا عن الحياة التي أصبحت لا تُطاق في كثير من مناطق العالم، لاسيما في فصول الصيف القائظ، حيث تبلغ درجات الحرارة مستوى لم تبلغه في السابق قط.

يقول الإمام الشيرازي في هذا السياق: (إن تلوث البيئة وإن بدت في أول الأمر مشكلة إقليمية تعاني منها بعض الدول إلاّ أنها تحولت إلـى مشكلة عالميـة وعائق من عوائق الحضارة البشرية).

وقد ذكرنا سابقا أن الأرض ليست وحدها هدف التلوث الطبيعي، بل انتقل هذا التهديد نحو السماء، وباتت على الرغم من بعدها الهائل عن الأرض، هدفا للتلوث البيئي لمتفاقم والمستمر على مدار الساعة مع أن التحذيرات مستمرة من إفساد البيئة، لكن الإنسان لا يلتزم، وكأنه يصر على قتل نفسه بيده، وهذا نوع من الانتحار مع سبق الإصرار، إذا لم يبادر الجميع بإظهار الحرص والعمل التام للتصدي لهذه المشكلة العالمية القاتلة.

يقول الإمام الشيرازي في هذا المجال: (حتى السماء الخارجية ليست بمنأى عن خطر التلوث، فقد تصاعدت الغازات لتتفاعل مع طبقة الأوزون مسببة الثقوب السماوية التي تساعد على تسرّب الأشعة فوق البنفسجية التي تسبب اضطراباً في نمو الخلية سواء كانت الخلية الإنسانية أو الحيوانية أو النباتية).

اضف تعليق