q

الشقاء منحَدر نحو الندم والألم، والسعادة علوّ وارتقاء وقمة، هكذا يصف المجدد الثاني الإمام الشيرازي (قدس سره)، ذلك الفارق الكبير والبون الشاسع بين (المنحدَر والقمة)، فإذا سئل الإنسان أيهما تختار؟ لا ريب أنه سيختار علو الشأن، والتخلص من أعباء المنحدر والسقوط في هوّة الخطل، ولكن هناك مستلزمات تقف وراء سموّ الانسان، إنها حالة لا يمكن أن تتحقق من تلقاء نفسها، فهو صراع مع النفس قد يصل درجة الصراع الحاد وهو أعلى مراحل التضادّ.

هل جرّب بعضكم أن يصارع نفسه، أو جرب العكس فيجاريها نحو ما تشتهي وتريد؟، وهل اكتشفتهم أي الطريقين أصعب؟، لا ريب أن الوقوف بالضد من النفس هو أكثر مشقة وصعوبة من مجاراتها والموافقة على طلباتها، ولكن جميع الأدلة تؤكد أن النجاح يكمن في تركيع النفس (وإذلالها)، وقيادتها كما يريد العقل والحكمة والاخلاق وليس كما تريد هي، لذلك يركّز المنهج الإلهي على مواجهة النفس بقوة، وعدم الانصياع لمآربها.

ما يدعم هذا الاتجاه قول شديد الوضوح للمجدد الثاني الامام محمد الشيرازي (قده)، حيث يرى سماحته (ان المهم ألا يخرج الانسان عن منهج الله، ليوفر لنفسه السعادة، ويبعد عنها الشقاء). فسعادة الانسان توجد أينما يتواجد الرضا الربّاني، إنه قول في غاية الحكمة، لا يتفوّه به غير العلماء الحكماء، فحتى ينتهي الانسان من مشكلاته الدنيوية والأخروية أما بوابة واسعة يمكنه الدخول منها، وهي أن يتماشى في فكره وعمله مع الرؤية الإلهية.

في حالة كهذه سوف يكون هنالك توازن بين مكونات الذات، أي يشعر الانسان بحالة من التوافق بين حاجاته المادية والروحانية، فهو من جهة ملتزم أخلاقيا وانسانيا، ومن جهة اخرى مكتفيا من حيث الجانب المادي، فعادة لا يوغل (أهل الله) بالطلبات المادية، ولا تغرهم مغرب الدنيا ولا مشارقها، لا السلطة قادرة على إغراء هؤلاء الناس ولا الجاه ولا كنوز الأرض، إنهم مكتفون بما لديهم، راضون بما حباهم الله من كنوز روحية أخلاقية تجعلهم من أكثر الخلائق سعادة في المعمورة.

عندئذ (يعيش الانسان دائما، حالة الطموح والأمل، ولكل فرد أهداف يرسمها لنفسه ويسعى دوما نحو تحقيقها) كما يرى الامام المجدد الثاني الذي يطرح رؤاه وأفكاره ونظرياته، عبر كتب ومؤلفات وكلمات منطوقة ناطقة تحفل بها عشرات المحاضرات، فيرى أن الانسان عندما يرضي الله فإنه إنما يحقق بذلك فوزا يبحث عنه جميع الناس، وكثير منهم لم يصل الى ما يريد، فثمة اختلاف في المنهج، هنالك أناس منهجهم (اللهاث خلف المادة)، وأساليبهم وأدواتهم، الصراع والخداع والنميمة وربما الخديعة ايضا، كل هذا من اجل الحصول على (اوساخ الدنيا)، هؤلاء هم أصحاب الشقاء، الذين يتدحرجون نحو الأسفل دائما بسبب طمعهم وجشعهم وخنوعهم أمام أنفسهم، كونهم ليسوا أصحاب شخصيات قوية.

فالشخصية القوية تحتاج الى ركيزة قوية تستند إليها، وهي ركيزة الايمان، والانسان الذي ينسى المنهج الإلهي لا يمتلك الإيمان، فيكون ضعيف الشخصية، لذلك من المهم جدا أن يراعي الانسان نقطة مهمة، هذه النقطة تتلخص بسؤال: ما هو الغرض من أعمال الانسان؟؟.

لماذا يجتهد الانسان ويتعب ويكد، هل من أجل أن يمتع نفسه، وهل يبرر له ذلك أن يتسى منهج الاخلاق والايمان والسلوك الطيب؟؟، كلا طبعا، إن من يريد أن يبني شخصية قوية تعلو بشأن الانسان وترتفع به نحو القمة، عليه أن يدخل أعماله مدخلا لا يتعارض مع إرادة الله، وهذا المعنى بالضبط وبالدقة، نجده في قول الامام المجدد الثاني: (النقطة المهمة التي يجب ان يلتفت اليها الانسان هي انه اذا اراد ان يكون لنفسه شخصية قوية لابد ان يجعل اعماله لله عز وجل فإن ما كان لله ينمو وما كان للشيطان يخبو).

فما كان لله ينمو، وما يخضع للمنهج الإلهي يصح، ويتطور ويسود وينجح، هذا ليس كلاما إنشائيا يدْرجه القلم ويسطره على الورق، هذه الكلمات هي خلاصة تجارب انسانية مرئية بالعين وملموسة باليد، يشهد بها وعليها ملايين الناس الذين عاصروا بعضهم بعضا في رحلة طويلة وشاقة اسمها الحياة، هنالك من نجح وتكلل مسعاه بالدخول في رضوان الله تعالى، وهؤلاء هم الذين قادوا أنفسهم بالقوة الى القمة.

وهنالك للأسف العكس من ذلك، هنالك الضعفاء أمام الإغراءات، نفوس سوداء، لا ترى من الحياة سوى ظلام المحرمات، وهذه النفوس عادة ما تستفحل على أصحابها وتذلهم وتسومهم المهانة والاحتقار، في المقابل يُصاب هؤلاء بضعف غريب، ويدخلون بوابة الانحدار الى الأسفل لأنهم لم يفكروا لحظة واحدة في مقارعة أنفسهم والوقوف ضدها، والسيطرة عليها بدلا من العكس.

هؤلاء الضعفاء هم الصنف الضعيف من البشرية، الصنف الذي لا يمتلك القدرة على مقاومة نفسه او ردعها، فسرعان ما يتهربوا أو يهربوا من مسؤولياتهم، ويقبلون بأقل الأشياء وأوهن النتائج، فيرضون بما ترضى به أنفسهم من ضآلة وتردي وسوء المكانة الاجتماعية والعائلية والعملية، هذا على الصعيد الدنيوي، فمن يسقط من القمة هم اصحاب النفوس التي لا تعبأ بالمنهج الإلهي، وتدفع بحاملها نحو مآربها وأهدافها، وهي في الأعم الأغلب، مآرب لا تبتعد كثيرا عن مكانة الانحطاط إن لم تكن ملاصقة لها، فضعيف النفس وقليل الايمان تجده مصاب دائما بحالة الضعف والحطّة.

مثل هؤلاء يحملون نفوسا معطوبة تتقن التهرب من المسؤولية، كما يصفهم الامام المجدد الشيرازي بقول أقرب الى حقيقتهم حيث يقول: (ان نفس الانسان ميالة للدعة والهروب من المسؤولية سريعة الرضا بالمستوى المتوافر كثيرة التبرير للهفوات والتراجعات).

ـــــــــــــــــــــــــــ
هامش:
جميع الأقوال المقتبسة داخل متن المقال تعود الى سماحة الإمام الشيرازي (قده).

اضف تعليق