q

العنوسة والعزوبية قنابل موقوتة

قراءة في محاضرة صوتية لسماحة الإمام السيد محمد الشيرازي – طاب ثراه-

"...لماذا انتهى قوم لوط الى ذلك المصير؟ ولماذا وصل بهم الحال الى الانحراف الكبير والمشهود في التاريخ؟

السبب يعود الى نفس الخطأ الكبير الذي تتخبط به أمم الارض حالياً، والمتمثل حالياً بالعزوف عن الزواج بسبب العراقيل والشروط في طريق وصول الشاب الى الفتاة التي يرغب الزواج منها، وهذا لا يقتصر على البلاد الاسلامية، وإنما يشمل جميع بلاد العالم، فجميع الشباب في العالم يجد أمامه جملة من الشروط التي عليه تلبيتها ليتمكن من الزواج، وعندما يجد نفسه عاجزاً، فانه ينضم الى جموع العازفين عن الزواج وممارسة الجنس بشكل شرعي وصحيح، وعندما لا يجد الشاب المشحون بالطاقة الجنسية، الطريق الذي يلبي به هذه الرغبة الطبيعية، سيكون مجبراً على اللجوء الى الطريق المنحرف، كما هو الانسان الجائع الذي يبحث عما يسدّ به جوعه، فإن لم يجد حتى كسرة الخبز، سيكون مجبراً على السرقة لسد رمقه، وهذا ما ابتلي به قوم لوط قبل اكثر من ثلاثة آلاف سنة، عندما أثقلوا على شروط الزواج وبالغوا بمهور النساء، وتمسكوا بالعادات والتقاليد البالية، الامر الذي منع الشباب والرجال من الزواج، وعندما عزف الرجال عن الزواج، فان المرأة، التي هي إنسانة ايضاً ، ولها غريزتها الجنسية، فوجدت نفسها مجبرة على سلوك الطريق المنحرف لممارسة الجنس كما فعل الرجال.

يتميز الانحراف الجنسي بانه يأخذ مساراً تدريجياً بعد أن يتحول الى حالة طبيعية يمارسها الانسان، فهو يبدأ من حالة بسيطة، وبمرور الزمن يجد الانسان المأزوم جنسياً وقد انحرف لمسافات بعيدة وخطيرة عن جادة الصواب، وحسب علماء الرياضيات، فان انحراف الخط المستقيم بمقدار سنتيمتر واحد فانه يزداد كلما امتدّ الى الامام، وهكذا الانحراف الجنسي في حياة الانسان، فانه يبدأ بانحراف بسيط ربما غير محسوس له ولمحيطه الاجتماعي، ولكن، مع مرور الزمن يتضح حجم الانحراف الواسع ويتحول الى فضائح مروعة.

وهكذا كانت مسيرة الانحراف الجنسي لدى قوم لوط، ففي البداية كان انحرافهم بسيطاً وغير محسوساً، ولكن مع مرور الزمن ازداد الانحراف عن الطريق الصحيح، وانزلق المجتمع الى ما يرويه القرآن الكريم لنا من مآل خطير استحقوا فيه العقاب بأن أباد الله –تعالى- مساكنهم وكانت سبع مدن عامرة بأهلها، فأصبح مصيرها بين عشية وضحاها بالشكل المريع الذي يصوره القرآن الكريم في سورة هور: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ}، وبعد أن أصروا على فعل الخبائث – حسب التعبير القرآني- وهو الشذوذ الجنسي كما يُعرف في الوقت الحاضر.

حل مشكلة الجنس لأول مرة في تاريخ الانسان

أي باحث منصف يتسم بالموضوعية والعلمية في الكتابة عن أفضل الطرق لاشباع الانسان غريزته الجنسية، لابد أن يرسو الى ساحل الحضارة الاسلامية التي شيد قواعدها الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، في المدينة المنورة خلال عشرة سنوات فقط، فبعد تشريع الزواج، انطلق النبي الاكرم، في تحويل هذا التشريع الى ثقافة اجتماعية، فكانت المرأة الشابة تأتي الى النبي وهو جالس بين بين عدد من الرجال، وتقول بصوت عالٍ: "يا رسول الله، اريد الزواج!! فيتوجه النبي الى أصحابه مستفهماً عمن يرغب في الزواج من هذه المرأة الواقفة، فيبادر أحدهم بالرضى، ثم يسأله النبي عما لديه يقدمه كمهر لزوجته، فيقول: ليس عندي شيء من المال او المتاع، فيسأله إن كان يحفظ شيئاً من القرآن الكريم، فيجيب بنعم، فيعقد لهم القران فوراً على مهر عبارة عن تعليمه زوجته القرآن الكريم، ثم ينهض ويأخذ يد زوجته ويذهب ليشكل أسرة جديدة تضاف الى المجتمع الاسلامي آنذاك.

هذه ليست من القصص العاطفية ولا هي من المثاليات، إنما واقع عاشه أناس قبلنا حققوا السعادة في حياتهم ، لذا انحسر الزنا بشكل كبير في مجتمع رسول الله لعدم حاجة الرجال الى ذلك، علماً إن الجنس في الثقافة الجاهلية وقبل بزوغ فجر الاسلام، كان عبارة عن غريزة يشبعها الرجل، كما يكون جائعاً فيتوجه الى الطعام والشراب، بينما كان بالنسبة للمرأة علامة على الدونية والضعة، لذا كانت النساء الحرائر قلائل في المجتمع المكّي وفي الجزيرة العربية، إنما كانت الغالبية إماء، كما كانت تنتشر في مكة دور البغاء وهي على شكل خيام ترفع عليها رايات ليستدل بها طالب اللذة الجنسية، مع الاخذ بعين الاعتبار وجود شريحة في المجتمع تتكون من الأسر والعوائل التي تلتزم بالزواج والانجاب والعلاقات الزوجية، ولكن ليس وفق الشروط والضوابط التي جاء بها الاسلام فيما بعد، حيث يضمن فيها الحقوق والواجبات وأقصى درجات النجاح للحياة الزوجية.

ومن أجل ذلك كان النبي الأكرم يؤكد غير مرة على أمر الزواج والترغيب فيه، وعدم تأخير سن الزواج مهما كانت الاسباب، وكان هتافه الخالد "الزواج سنّتي من رغب عن سنتي فليس منّي"، واقتفى هذا الأثر سائر الأئمة المعصومين، عليهم السلام والأولياء الصالحين وعلماؤنا الابرار طيلة القرون الماضية، فقد كانوا مدركين جداً خطورة غريزة الجنس اذا لم تلبّى بشكل صحيح، على الكيان الاجتماعي ومن ثم على مستقبل الدين والشريعة في حياة الانسان، لذا كانوا دائم الحثّ والترغيب في أمر الزواج، وإن أمكن في مقتبل العمر، ليتفرغ الانسان الى سائر المهام والاعمال في حياته، ومن جملة من أدرك هذه الحقيقة من علماء الدين المعاصرين، سماحة الامام الشيرازي –طاب ثراه- حيث عُرف اكثر من غيره في الحثّ الشديد للشباب على الزواج وتجاهل العقبات الوهمية في الطريق وأبرزها المال والعادات والتقاليد الموروثة وغير السليمة.

لذا نجد في هذا المقطع الصوتي أنه يعد مسألة تأخير الزواج للشاب والشابة، بمنزلة الأرضية المسببة للمشاكل الكبرى في المجتمع والامة، وحسناً وصف الانحراف الجنسي بأنه تدريجي وغير محسوس في بدايته، ومع مرور الزمن يتحول الى ظاهرة يتقبلها الجميع، فيقارن سماحته بين الشذوذ الجنسي الذي استساغه قوم لوط إلا بعض المؤمنين والمتقين، وبين استساغة العلاقات الجنسية المحرمة في عديد البلاد الاسلامية.

ان بعض العوائل في بلادنا – ومنها العراق- يتصورون أنهم بإصرارهم على تحكيم معايير وضوابط للزواج من قبيل الشهادة الجامعية او الوظيفة المرموقة او المردود المالي الجيد او الاملاك والعقارات وحتى الجاه الاجتماعي، انما يضمنون السعادة للشاب والشابة بعد زواجهما، بيد ان عجز الكثير من الشباب على تحقيق شروط كهذه، يدفعهم للتعويض عن فشل مشروع الزواج بفتح مشروع علاقات من نوع آخر خارج إطار الأسرة والمجتمع، تحكمه العواطف والمشاعر الملتهبة علّها تلبي الحاجة المكبوتة في النفوس، بمعنى أن هذا البعض من العوائل تجبر ابنائها على الانحراف عن الطريق من حيث لا تشعر.

علماً؛ أن ظاهرة التسيّب الجنسي له عوامل اخرى غير تعقيد مشروع الزواج، منها الدور الكبير الذي تلعبه مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية وعامل الفقر وغيرها تتظافر وتفتح الطريق امام العلاقات الجنسية المحرمة.

عراقيل الزواج حوّل الجنس الى مشكلة

ما برحت المحاكم ومراكز ابحاث ومنظمات ناشطة في الشؤون الاجتماعية ووسائل اعلام تراقب الارقام التنازلية لعقود الزواج مقابل الارقام التصاعدية للطلاق في غير بلد اسلامي، مما يؤشر على وجود نسب عالية من العزوف عن الزواج، وبقاء الفتيات في أعمار متقدمة في البيوت، وشباب على اعتاب الاربعين يجوبون الشوارع والحدائق والنوادي، وربما نسمع من وسائل الاعلام بعض ما يرشح من خلف جدران البيوت، إلا انها لن تكون كل شيء، لاسيما في البلدان ذات الطابع المحافظ والمظاهر الدينية وايضاً الاعراف الاجتماعية والعشائرية مما يجعل انتشار اخبار مثيرة من هذا النوع محدوداً الى حد ما.

وعندما نعرف أن فلسفة الزواج تعبير عن الاستقرار النفسي، والقرآن الكريم بين هذه الحقيقة في قوله تعالى في سورة الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، فهذا يعني أي نوع من انواع التسيّب الجنسي انما يفضي الى حالة من الاضطراب النفسي والفوضى في الاخلاق والسلوك، ومن ثم عجز المجتمع تدريجياً عن حل مشاكله، بل وتعقيدها اكثر فاكثر.

وبذلك يتحول الزواج (الجنس) من عملية سهلة بذلك الشكل الذي كان على عهد رسول الله، الى "مشكلة" مثل مشكلة الفقر او البطالة أو الفساد وغيرها من المشاكل المستعصية والمزمنة، ثم نسمع بين فترة واخرى اصوات ودعوات لإعطاء المثليين حق الوجود كشريحة معترف بها في المجتمع وعدم التنكيل او محاسبتها، بدعوى ايجاد حل "لمشكلة الجنس" في هذا البلد او ذاك، او الترويج للاختلاط وازالة الحواجز امام اقامة العلاقات المشبوهة بين الجنسين لتفادي حالة الاحتقان النفسي بسبب الكبت وفشل مشروع الزواج وتعقيده.

وإذن؛ فان جحافل غير المتزوجين يمثلون قنابل موقوتة ربما تنفجر في أي لحظة مسببة فضائح تهز كيان المجتمع وتفقده تماسكه وثقته بالقدرة على مواجهة التحديات، فضلا عن التفكير بالتنمية والتطوير والتقدم، فالانسان الذي يقف على بركان من العواطف والمشاعر إزاء الجنس الآخر، لا يهتدي الطريق الصحيح للوصول اليه، كيف يفكر بشكل صحيح في مصلحة الآخرين ومصلحة مجتمعه وأمته؟

لذا يكون من اللازم على الجهات المعنية، بدءاً من الاسرة ثم المؤسسات الثقافية والدينية وانتهاءً بالمؤسسات الحكومية، العمل الجاد لرفع العقبات من أمام مشاريع الزواج، وبالقدر الذي نرفع عقبة او اكثر في هذا الطريق، نكون قد ضمنا تماسكاً اكثر للمجتمع حتى يكون قادرا على انتاج جيل من الشباب القوي في ارادته وعزيمته، يتطلع الى آفاق التقدم في المجالات كافة.

اضف تعليق